صير بني ياس محمد المخزنجي تصوير: سليمان حيدر

صير بني ياس

الإمارات العربية المتحدة.. رحلة إلى جزيرة الحكمة

عندما يطمئن طائر الفلامنجو إلى المكان ويعود إلى التكاثر فيه لأول مرة بعد سبعين عاما ، وعندما يذهب طائر البشاروش ويحضر صغاره للإقامة معه ، وعندما تعود الحياة إلى غابات المنجروف التي كادت تندثر في مياه الخليج ، فإن ذلك يعني تغيرا بيئيا هائلا وجميلا ، ولا بد أن يكون هذا التغير الجميل الهائل نابعا من حكمه قلب حسن .. حكمة الاحتفاء بالحياة الفطرية وسط عالم كاد يفقد هذه الحكمة فأوشك أن يحكم على نفسه بالفناء. إنها رحلة تمضي على درب طويل أخضر ، امتد بنا واقعيا وطيفا عبر الصحراء والبحر.. ثم خلانا مفتونين على ظهر جزيرة يدعو تأملها إلى كل معاني الجمال .. والحكمة.

بعد أن تمت الرحلة، يتضح لي الآن ، أن الطريق في جزيرة صير بني ياس - بالمغزى البيئي الذي نستهدفه - لا يبدأ من مطار "أبوظبي" فقط، أو من مرسى مراكب الظنة وحسب، أو حتى عن مرفأ الزورق الطائر بشاطئ العاصمة ، بل يبدأ من سماء دولة الإمارات التي دخلنا في رحاب جزئها الغربي، عندما انعطفت بنا الطائرة شمالا في اتجاه الساحل، فبدا كأننا نودع استوحاش محيط الرمال في صحراء الربع الخالي، وندخل في هالة مني حوار متناغم بين اليابسة ومياه الخليج. فعندما قللت الطائرة من ارتفاعها لاحت كثبان الرمال موشاة بظلال السحب. لكن رقة الظلال لم تكن تمحو الإحساس بقساوة الصحراء. وعندما لامس البصر أطراف ساحل "أبوظبي" شهدت العين شيئا مختلفا. فثمة حوار بين البحر واليابسة. بين رمادية الرمل وفيروزية المياه. لكن هذا الحوار لم يكن يشبه أيا من حوارات الماء والأرض التي تجلت لناظري وأنا أحلق من قبل في آفاق عديدة من أركان الدنيا. فلا تلك الاستدارات الناعمة الساكنة للبحيرات الطبيعية. ولا ذلك التعرج الضائع للبحيرات الصناعية. لا جهامة الألسنة الممدودة قسرا لأرصفة المواني داخل البحار. ولا ذلك القطع القاسي لأحواض بناء السفن هنا وهناك. فالذي تراءى لعيني من ساحل أبوظبي يشبه غزلا عربيا حييا بين اليابسة والماء.. ينال الود بلا اقتحام. ويبلغ الوصل بالتراضي. فتلك الأجزاء المتناثرة من اليابسة في مياه الخليج العرب الجنوبية الشرقية، ثمة من أراد لها التواصل الرحيم دون اندفاع نحو مقاطعة الماء. وتحول البحر إلى أقواس تلو أقواس كأنها قنوات توصل ما بين عشرات الجزر في هذا الجزء من الأرض العربية والبحر العربي. ففي هذا الجزء من شاطئ الخليج العرب تمتد إمارة أبوظبي بمساحة 77000 كيلو متر مربع، أي ما يعادل 86% من مساحة دولة الإمارات كلهـا. وتتقدم الساحل جبهة من جزر عربية تبلغ مائتي جزيرة تشغل العاصمة "أبوظبي" إحداها، بمساحة 223 كيلو مترا مربعا، وتتبعها عدة جزر مهمة منها "داس،، و "مبرز"، و"السعديات "، و"أبوالأبيض "، و "أم النار"، و"صير بنى ياس" التي تبعد 180 كيلو مترا غربي العاصمة "وإن كان الطريق البري البحري الذي سلكناه إليها يتجاوز ضعف هذه المسافة).

هبطت الطائرة فتغير لون الرمل في ساحة المطار الوسيع. وبينما استمرت الطائرة في انطلاقها على المدرج الطويل كانت ساحات العشب تترامى على الجانبين، وكان الدوران الدائب لرشاشات المياه فوق خضرة العشب الطالع. إيحاء بإصرار عجيب على تحويل الرمل إلى تربة خصبة وانبعاث الخضرة من خصوبة الأرض. ثم كان طريق الأشجار والأزهار الطويل من المطار إلى المدينة.. أكثر من عشرين كيلومترا ولا انقطاع للخضرة والظلال والألوان على جانبي الطريق في الجزيرة الممتدة بين نهري الشارع. ولم تكن هذه الكيلومترات العشرون إلا مفتتحا - لمعزوفة بيئية كاملة أبدعتها هذه الدولة العربية الصغيرة الكبيرة وكانت عيوننا تلتقط طرفا منها ونحن بعد في أولى خطوات استطلاعنا.

ولا في مدن الأنهار الكبرى!

كانت كتيبة العاملين بالإعلام الخارجي تولينا اهتماما خاصا، وعلمنا من سفير دولة الكويت في الإمارات أن وزير الإعلام الإماراتي شديد الاهتمام بزيارة " العربي" وكان البرنامج الذي أعدته لنا وزارة الإعلام حافلا، وكان طموحنا إلى الرؤية كبيرا. لكن أيام الاستطاع بدت محدودة بينما راح الوقت في رحاب الخضرة يمضي خاطفا وناعما كالحلم.

حدائق. حدائق. حدائق. مليون متر مربع من الحدائق تشتمل عليها مدينة أبوظبي وامتدادها الغربي .

فإذا عرفنا أن عدد سكان هذه المدينة وتوابعها هو 250 ألف ( بتعداد مواكب لزمن تقدير مساحة الحدائق) لكان نصيب الفرد هو ثمانية أمتار مربعة من الزهور والفاكهة والخضرة . وهو رقم تكاد لا تصل إلى طرف أطرافه مدن عربية وعالمية تخترقهـا أنهار كبرى أو تغمرها الأمطار الغزيرة. والمدهش تنطوي عليه آلية تخضير أكثر إدهاشا تعتمدها أبو ظبي. فوراء جمال هذه الحدائق تقف نوايا حسنة، وذوق حسن، وتدبير حسن أيضا. لأن ري المساحات الخضراء في مدينة أبوظبي يعتمد على معالجة مياه الصرف التي يستخدم منها أكثر من مائة وخمسين ألف متر مكعب تتوزع على حدائق المدينة بشبكة مواسير يبلغ طولها 32 كيلومترا. ولا تقف حكمة التعامل مع الماء العذب عند حدود معالجة مياه الصرف بل تمتد إلى ترشيد استخدام هذه المياه بطرق للري محسوبة ومتوافرة . فالري بالرش للمساحات المتسعة ، وبالتنقيط للخضراوات، وبالفقاعات (دفعات متواترة من الماء) للأشجار، خاصة المثمرة منها.

ولم يتوقف التدبير الإماراتي الحسن عند هذا الحد في مسيرة التخضير بل لجأ إلى توطين وابتعاث أنواع من النباتات تحتمل حرارة الجو ولا تتسم بالشراهة في استهلاك المياه.

فإضافة إلى الأشجار الصحراوية المعروفة في المنطقة (السنط والطلح والغاف والأثل والنبق) تم استقدام واستزراع أنواع مختلفة من الأشجار عالية المقاومة تحتمل ملوحة المياه وحرارة الجو.

ولقد لفتت نظري بشدة إشجار "الاسباثودا" التي جاءت من إفريقيا الاستوائية لتتألق في أبوظبي بأوراقهـا العريضة الدائمة الخضرة وأزهارها النارية الحمراء الكبيرة . فهـذا الاختيار ضرب عصفورين بحجر واحد كما يقال . إذ وفر شجرة عالية الاحتمال قادرة على التأقلم، إضافة لجمالها اللافت وخضرتها الدائمة . ولم تتوقف عن مصافحة ناظري أشجار وأشجار، جاءت من أربعة أرجاء الدنيا لتقف بزهو حي على شاطئ الخليج في " أبوظبي". أشجار اللوز الهندي والمطاط من الهند، والصبار الهندي من الفلبين والمكسيك، والدراداكسيا ونخيل واشنجطونا من أمريكا الشمالية، ونخيل الجوز من جزر المحيط  الهندى، واليو هـينا ( خف الجمل) من الصين، والأكاسيا من إستراليا، وغيرها من الأشجار كثير. واستمرارية الزهور والخضرة تقف وراءها مشاتل ضخمة لتربية وإكثار الأشجار والشجيرات وزهور الزينة. وتقدر كمية المنصرف من مشتلي " الخالدية " و "المنهـل" وحدهما، وفي عام واحد، بأكثر من مليون ونصف مليون شتلة شجرية ، وأكثر من عشرين مليونا من شتلات الزهور.

كسر شوكة الكثبان

ثلاثة طرق تؤدى إلى جزيرة صير بنى ياس.. جرا، وبحرا بالزورق الطائر (الهوفر كرافت)، وبرا.. من أبوظبي إلى جبل الظنة ومنه إلى الجزيرة عبر الماء في طراد سريع. والطريق الأخير هو الذي اخترناه. انطلقنا من أبوظبي في الصباح الباكر، وفي الطرقات المغمورة جنباتها بالخضرة راودني السؤال: هل ستستمر مسيرة اللون الأخضر طويلا؟ أم أن مظاهر الخضرة ستنقطع بانقطاع البيوت عن الظهور؟. خلفنا آخر البيوت والعمران وراء ظهورنا، وانطلقنا في الصحراء، وعن مدى أكثر من مائتين وخمسين كيلو مترا كان جليا ومدهشا أن نتيقن من كون التجربة البيئية الإماراتية شديدة الجدية والإخلاص ، ومليئة بالمثابرة، ولا أعرف لماذا تغيب عن واجهة الإعلام البيئي العالمي ملامح هذه التجربة في قهـر الصحراء.

لم تكف أرتال اللوريات البرتقالية اللون عن الظهـور أمامنا.. تنقل أتربة تملأ صناديقها المغطاة بقماش أبيض من مكان إلى مكان وقد عرفنا أن هذه اللوريات تنقل التربة الخصبة من مكانها إلى الأماكن المراد استزراعها في الصحراء، فتربة أبوظبي ليست كلها رمالا. وعملية الاستزراع نفسها تجري وفق نسق مبتكر تماما يعود فضل ابتكاره إلى رئيس الدولة العاشق للون الأخضر ونقاء الحياة البرية سمو الشيخ زايد آل نهيان، فقد وجد أن أبوظبي تعاني كغيرها من ظاهرة زحف الصحراء، وانجراف الرمال فتغطي المزارع وتقضى عليها، مما يهدد أية محاولة لاستصلاح الأرض أو زراعتها. واهتدى الشيخ زايد في فكرة رائدة لمواجهة زحف الصحراء، بتسطيح الكثبان والتلال العالية التي تهب منهـا الرمال، كأنما ليكسر شوكتها، حتى لا تسقط فوق المساحات المنزرعة وتقضي عليهـا. أما الخطوة التالية فإنها تتلخص في فرش طبقة جديدة من الطين (تربة مرشوشة بالماء) فوق الأرض التي جرت تسويتها. ونجحت التجربة، وجرى تقسيم الأراضي الجديدة إلى مساحات وزعت على المواطنين بعد إقامة أحزمة خضراء من الأشجار حولها. .

لم تنقطع المساحات والأحزمة الخضراء عن التجلي لا قلب الصحراء طوال الطريق أمام عيوننا، وحيث لم تكن هناك خضرة كان التمهيد لها يجري على قدم وساق وحتى تكتمل الصورة المعمورة بحب الحياة الفطرية فإن الجمال الطليقة كانت لا تني تظهر سارحة على هواها على جانبي الطريق الطويل.

وصلنا إلى جبل الظنة ومنه حدنا في طريق جانبي إلى ميناء (مغرق) وهو ميناء خاص بالجزر تخدمه (عبارة) لنقل الركاب والبضائع والسيارات إضافة إلى مجموعة من اللنشات السريعة قفزنا إلى أحدها وانطلق بنا عبر مياه الخليج التي لم تكن هادئة هذا النهار.

من الطيف إلى اليابسة

راح الزورق الخفيف السريع يطير بنا فوق مياه خافقة، وكانت الريح الشتوية تدافع وجوهنا وصدورنا بلطف، وبعد فضاء من الماء الأزرق المخضر ونثار التبج الأبيض لاح طيف الجزيرة ، وراودني شك فيما ينتظرنا في هذه الجزيرة المتوحدة وسط الماء. هل يمكن أن تنبض الحياة في قفر من الصخر والرمل وسط مياه مالحة؟.

وما أن وطئت أقدامنا أرض الجزيرة حتى دارت الرأس بالمراجعة... طيور لزهور وشجر.. ثم ماذا؟.

ركبنا سيارة (لاند روفر) وانطلقنا في رحاب صير بني ياس محبة الدكتور ناجي سالم أحد أطباء الجزيرة البيطريين وهو يقوم بدور في العلاقات العامة إضافة إلى ذلك، وعبر الذرى والوهاد كان الخاطر ينطلق مع التاريخ ...

دورات من الحياة والموت عاشتها هذه الجزيرة ، وكل منها مرهون بنوايا البشر وحياة ضمائرهم، فثمة دلائل على استيطان الجزيرة في أزمان بعيدة منها تلك الكشوف الأثرية لقطع من الفخار عثر عليها في رأس دانان شمالي الجزيرة وتعود إلى العصر الإسلامي الوسيط في زمن الساسانيين وامتدادا حتى عهد بني أمية. كما أن الجزيرة ظلت مستراحا لصيادي اللؤلؤ الذين تمركزوا في جزيرة دلما القريبة. واسم الجزيرة نفسه يشير إلى عراقة إعمارها فكلمة صير تعني الموطن الأصلي، ومن ثم فهي الموطن الأصلي لقبيلة بني ياس التي ينتمي إليها آل نهيان. لكنها هجرت وصارت قفرا وكان جنود الاستعمار البريطاني يستخدمونها ميدانا للرماية، وظلت قاحلة حتى شملتها رعاية الحاكم الممتلئ بحكمة الحياة وعشق فطرية البيئة، ففي عام 1970 قام الشيخ زايد آل نهيان بزيارة إلى الجزيرة ، وأعطى توجيهاته بالانطلاق في تطور الجزيرة لتصبح ملاذا للحيوان والطير وواحة للزهور والفاكهة، ومشهـدا جماليا يخاطب ذوق الإنسان وضميره. وهذا ما خلصنا إليه بعد جولة طويلة في أرجاء الجزيرة التي نهضت لوحة بيئية استثنائية وسط مياه الخليج..

صير بني ياس وهي ثالث أكبر الجزر في إمارة أبوظبي وتبلغ مساحتها 250 كيلو مترا مربعا إضافة إلى عشرة كيلو مترات تم ردمها لتكون امتدادا للجزيرة وتسمى "الجزيرة الخضراء" وقد خصصت لزراعة الفاكهة.. الموالح، والموز، والرمان، والأناناس، والمانجو، وصنوف من الفاكهة يصعب تعدادها ويصعب تصور أن تثمر في منطقة الخليج، بل في جزيرة وسط مياه الخليج. ولقد تذوقنا في الجزيرة الخضراء أطيب برتقال يمكن تذوقه وهو من نوع "البرتقال الشموطى"، كما تلمسنا بدهشة براعم الرمان وأعذاق الموز الطالع وأسباط التمر السخية التي يجود بها نخيل في متناول اليد. ولا تتوقف محاولات توطين الخير في الجزيرة، فقد نجحت زراعة السنترة والمانجو والشيكو والجوافة والباباي والرمان والتين والتفاح والخوخ والبوملي والجريب فروت والليمون الحلو والموز والعنب والتين الشوكي والزيتون (المنتشر بكثرة في الجزيرة) والخروب والمشمش والبطيخ والتمر والرطب، لكن إرادة التحدي الأخضر لا تكف عن محاولة إعمار الجزيرة بمزيد من الثمار فهي تشهد حاليا تجارب عديدة لزراعة الجوز وفواكه القشدة والعنب الياباني والتركي والمغربي!!

لقد درنا حول الجزيرة في الطريق الدائري البالغ طوله 50 كيلو مترا، وصعدنا وهبطنا تلالها، ومرقنا بين مراتع الغزلان وبحيرات الطيور. صرنا في ظلال أبراج الحمام البري. وطفنا بجنبات الزهور والخضرة.

لوحة طبيعية بديعة تأملنا ألوانها من قمتين عرفنا من مرافقنا أن الشيخ زايد يرتقيهما ليتأمل الجزيرة بنظرات شاملة ليلمح أي نقص ينبغي استكماله، أو منطقة يوجب تطويرها ، حيث إنه يتابع كل شيء بنفسه. ومن شرفة هذه المراقي طوفت أنظارنا بالحلم الذي يطفو متحققا فوق الماء، وتنفسنا هواء شفيفا يملا الصدور براحة يحس الإنسان معها أن الإصرار على تخضير هذه الجزيرة وإعمارها بحياة الطير والحيوان المسالم لم تكن عبثا.

منذ تم اتخاذ القرار والجريرة تتطور، ببطء مدروس في البداية (حيث كانت كمية المياه المستعملة في حدود عشرة آلاف جالون تنتجها وحدة تحلية محدودة) لكن منذ عشر سنوات بدأت الجزيرة انطلاقتها الخضراء المتسارعة إذ وصلت طاقة وحدات التحلية في الجزيرة إلى (4) ملايين جالون، ومن ثم، ومع زيادة كمية المياه العذبة ، راحت تسع مساحات التشجير وتمتلئ أحواض ومساقي الطيور الحيوانات.

ولقد رأينا بحيرتين صناعيتين مبطنتي القاع برقائق ومواد عازلة تمتع التسرب، وعلى ضفاف هذه البحيرات، وتحت مظلاتها تتجمهـر أسراب من الطيور، وهنا وهناك تتناثر أبراج للحمام تطوي المآوي في قلبهـا الأخضر الموسوم بأشرطة بيضاء فهي ليست كأبراج الحمام الداجن تفتح أبوابها على الخارج وتختبئ في مآويها فخاخ الصيد فلا صيد هنا بل إن الصيد محظور في أبوظبي منذ 15 عاما بأمر الشيخ زايد، فبعد أن كان صيد الغزلان والمارية والطيور مألوفا في الإمارات وبعد أن تحول الصيد مع مجيء السيارات وبنادف الصيد الحديثة إلى تهديد لتوازن البيئة صدرت تشريعات حظر الصيد، وانتشرت في دولة الإمارات كلها، ففي الفجيرة حظر حاكمها الشيخ حمد ابن محمد المشرقي صيد الفهود المارية والقطط البرية في الجبال، كما منع صيد الغزلان البرية التي تعيش في المناطق النائية، أما على صعيد الحياة البحرية فقد أصدرت وزارة الزراعة والثروة السمكية قرارا حظرت فيه إمساك السلاحف أو أخذ بيضها ، وتقوم بتغريم الصيادين الذين ينتهكون القرار.

في ظل التشريع البيئي الجيد وعلى ضفاف النوايا البيئية الحسنة، وبين تلال ووهاد الجزيرة المدهشة مضينا وكان البحر يرنو إلينا هادئا وبلون الفيروز.

كانت اللاندروفر تصعد وتهبط وتنطلق... وتتوالى صور الجزيرة التي تحولت إلى مشروخ غاب آمن.. تزينها أشجار السدر والسمر والطلح والغاف والأراك والمرخ منتشرة فوق مسافة مزروعة تقدر بنحو 30 ألف هكتار.. وهنا وهناك تنتصب أشجار الفاكهة وحقول الخضراوات وأحواض الزهور التي تنشر عبقا حلوا يضفى على الجزيرة نعومة الحلم.. ورود وفل وياسمين تشكل مع زهور الفاكهة مصدرا لرحيق عطر يغذي ثمانين خلية نحل في الجزيرة .

لم تكن الجزيرة سهلا خالصا ولا جبالا متصلة، بل كانت وسطا متناغما ترعاه إرادة ذوق إنساني حسن، اعتمدت مشاريع الزراعة والتشجير بالجزيرة على إزالة الجبال الصخرية عند الشاطئ أولا لتوفير مرافئ رسو الزوارق والسفن ، ثم في الوسط بعد ذلك، مع تسوية دائمة للتربة الخصبة التي أغناها مطر المواسم الغزيرة ووقف حارسا عليها ذخر ما تحتجزه السدود الصغيرة.

مدارج من الخضرة وبرار فسيحة وأصاب من غزال الريم تنداح كأنها حقل من السنابل تطوف عليه ريح هينة. وتتزاحم جماعة غزلان المها البيضاء مبتعدة بلا ذعر إذ نمر بها. بينما الزرافات تشرئب في غاب مسيج إذ إنها تأتى على خضرة الأشجار فيتم نقلها من مكان إلى مكان لتستعيد المساحة التي أجدبت خضرتها.

إن الجزيرة تتحول بتسارع إلى محمية ترتع فيها الحيوانات المجلوبة من داخل البلاد أو من خارجها مثل أبو ملعقة والحمام المتوج والنعام والغزلان والكنغارو والمها والزراف والصقور والكركى المتوج والوضيحي ( أو العربي) وظبي الماء واللاما والجاموس الإفريقي. والتجربة تثبت نجاحا مشجعا على مدى السنوات التي عاشتها حيث راح معدل التكاثر للحيوانات على أرض الجزيرة يزداد، ويوجد الآن جيل ثالث من بعض الحيوانات التي كانت مهددة بالانقراض كالمها العربي والغزال العربي "الديماني" والمها الأفريقي والماعز النوبي. إلى جانب التوالد الملحوظ بين قطعان الغزلان التي يقترب عددها من ثلاثين ألفا.  ولقد تكيفت الحيوانات الآتية من الخارج حتى وصلت إلى درجة التوالد في بيئة الجزيرة وهي أعلى درجات التكيف، ومن الحيوانات التي وصلت إلى هذه الدرجة المها الإفريقية وأبوحراب وأبوعدس وظبي ايلند وظبي الماء واللاما (أو الجمل الأمريكي) والزرافة والأنتيلوب الأسود وظبي تيالا وغزال طوسون وكبش أروى "البربري" وغزال أمبالا والإبل الأرقط إلى جانب أسراب من الطيور التي تأقلمت مع مناخ الجزيرة واتخذت من غابها مأوى لها برغم أن مواطنها بعيدة ومختلفة في إفريقيا وأستراليا وجنوب القازه الأمريكية مثل النعام الإفريقي ونعام الإيمو ونعام الكاسوري والحباري وطائر التم الأبيض وأبو منجل والحمام المتوج . ولقد مضت حلول التأقلم في طريقها إما بالتطبع أو بالتطبيع عبر حلول مبتكرة وبسيطة ، فالجمل الأمريكي (اللاما) من الجيل الأول كاد ينفق في فصول الصيف حيث الرطوبة المربعة والقيظ، لكن مجرد توفير أحواض للاستحمام وظلات راقية عبرت بالجمل الأمريكي قد إلى الأمان وتوالد وجاءت سلالته قادرة على التأقلم أكثر مع البيئة التي ولدت فيها. ومن المؤشرات المهمة على تصاعد نجاح التجربة هي تلك الظاهرة التي تتحول فيها الطيور المهاجرة إلى طيور مقيمة ، فهذه لا تقيم إلا حيث تكون الحياة أفضل والأمان أكثر. وهذا ما حدث مع طائر الفلامنجو "الفانتير" وطيور الحباري، فقد راقت لها الحياة في صير بنى ياس فاستقرت واستوطنت. وهناك حكاية طريفة عن طائر البشاروش الذي لم يبلغ حد القدرة على التكاثر في الجزيرة لأسباب وراثية قوية. فقد عرفنا أن طيور البشاروش بعد أن تفقس بيضاتها وتشتد أعواد صغارها تأتي بها إلى الجزيرة، تلتمس المأوى والأمان..

عودة إلى غابات القرم

قربت جولتنا على الانتهاء وذهبنا لأخذ قسط من الراحة وتناول غداء متأخر في مطعم الجزيرة المخصص للضيوف. ومن الجدير بالذكر أن استقبال الجزيرة لضيوفها يتم على نفقة الشيخ زايد ، ابتداء من الذهاب على متن الزورق الطائر الذي يقلع من مرفأ خاص في أبو ظبي أو على أحد الزوارق السريعة التي تقلع من الميناء عند جبل الظنة، أو بالطائرة التي تنقل  بعض الضيوف الكبار إلى الجزيرة. كما أن الإقامة تتوافر مجانا في الجزيرة، إذ تم تخصيص عشرات الغرف المكيفة في نزل خاص (تمهيدا لإقامة فندق عالمي لاستقبال زوار الجزيرة) وملحق بهذا النزل مطعم يقدم الوجبات مجانا إضافة لوسائل الانتقال بصحبة أدلة ومرشدين في سيارات خاصة تناسب تضاريس الجزيرة وتحافظ عليها. .

رحنا نأكل بشهية تفتحت مع التجوال والإطلال على بكارة البيئة ونقائها، وكان الطبق الرئيسي من سمك الهامور الطازج الذي صيد للتو من المياه القريبة من شطآن الجزيرة. فهذه الشطآن غدت بيئة بحرية شديدة الثراء الحيوى بفضل نباتات "القرم" التي أوشكت أن تنقرض لولا أن أعادت توليدها وتكاثرها في الإمارات تلك البصيرة البيئية الثاقبة لرئيس الدولة الشيخ زايد وأولي الأمر فيها. فمن المعروف أنه في نطاق المد والجزر بالمناطق الساحلية الضحلة توجد أنواع من النباتات العشبية والشجرية التي تستطيع التأقلم مع المياه البحرية المالحة والمناخ الحار الرطب، وعلى رأس هذه النباتات تأتى شجيرات القرم وهي نوع من نبات "المانجروف" التي كانت غابات بحرية على شاطئ الخليج وكادت تنقرض تماما لفرط استخدامها القديم وقودا وطعاما للجمال وخشبا للنجارة وبعض أدوات الصيد.. لكنها عادت من جديد. وهي شجيرات تظهر فوق سطح الماء وترتفع فوق مياه المد بطول قد يصل إلى ثلاثة أمتار وتتجمع جذورها تحت الماء على هيئة مستعمرات من الأجمات الخضراء أو الزرقاء الداكنة، ولكل نبات مجموعة من السيقان تحيط بالجذر الرئيسي فتشكل مرشحا (فلتر) يصفي المياه من ملحها فتصير عذبة يرتوي منها نبات القرم. ولهذا تموت شجيرات القوم إذا مشى بقربها الناس حيث تسحق أقدامهم تلك المرشحات الرقيقة. ولقد عقد في أبوظبي مؤتمر علمي في ديسمبر 1990 لتدارس تنمية غابات القرم التي تشكل ملجأ حيويا متكاملا وثري الغذاء يتيح للأسماك والكائنات البحرية فرصة نادرة للتكاثر والنمو، بل النمو بسخاء وهو ما كانت تشهد عليه سمكة الهامور التي كانت على مائدتنا وأشبعت أربعة أشخاص جائعين.. وتبقى منها الكثير!.

اقتراح.. وحلم

إن العناية بالبيئة ليست تهويما (رومانسيا) لدى البعض، بل هي إدخار واستثمار ونوع من الحدس المستقبلي الحكيم ينبغي أن نتوقف عنده، بل ينبغي أن يتوقف عنده كل المهتمين بشئون البيئة في العالم، فالتجربة جديرة بهذا الحجم من الاهتمام إذ تقدم أملا ملموسا لدرأ رعب التصحر الذي يخيف البشرية التي لا تكف عن التكاثر. لهذا أقترح أن تكون الجزيرة محطة عالمية للدراسات البيئية، يقام بها مركز لإبداع البيئي ، سواء كان هذا الإبداع علما أو فنا ، يمنح الجديرين فرصة للتفرغ للإبداع في أحضان هذه الجزيرة، ويقدم جائزة للإبداع البيئي في الأدب والفن وهو الفرع الذى يبدو وليدا على المستوى العالمي، ويبدو منعدما أو يكاد على مستوى الإبداع العربي.

لقد كنت مفعما بالتأثر وأنا أغادر الجزيرة، وبينما راح زورقنا الطائر فوق أمواج الخليج يبتعد، راحت الجزيرة تغوص في غلائل المدى فتبدو كطيف حالم، بل كحلم بعيد، وهو حلم ينطوي على كثير من الحكمة لمن يتأمل جوانبه. فمن يتعلم الحنو على النبات والرفق بالحيوان والعطف على الطائر، لابد أن يكون حانيا ورفيقا وعطوفا على الإنسان، والأرض التي يدرج عليها الإنسان. ومن ثم على مجتمعه.

هكذا أفهم مأثرة "صير بني ياس".. وهي مأثرة تستحق جائزة كبرى من جوائز السلام العالمي. فالسلام لم يعد مجرد مسالمة بين البشر والبشر، بل هو في الأساس مسالمة واجبة بين البشر والأرض. لأن الحرب على بيئة الأرض هي مأساة سرمدية، بينما مآسي أشد الحروب فتكا في تاريخ البشرية يمكن للزمن أن يتجاوزها فسلام يا صير بنى ياس.. همست بها إذ غاص الطيف وراء الماء، ولم يعد حولنا غير الموج.. والحلم .

 

محمد المخزنجي 

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات




مدينة أبوظبي بداية الطريق إلى الجزيرة وألق الخضرة يتجلي حتى في عمق الليل





ويمتد الطريق زهور وخضرة على امتداد شاطئ أبوظبي باتجاه صير بني ياس





ويمتد الطريق زهور وخضرة على امتداد شاطئ أبوظبي باتجاه صير بني ياس





غزلان مراح وأمان في ربوع المأثرة البيئية الإماراتية





حكمة عاشق عربي كبير لخضرة ملأت وعر الجزيرة بالزيتون والبرتقال والرمان وصنوف أخرى من الثمار





المها العربي





اللاما الأمريكية كائنات وديعة تتآخى في جزيرة الحكمة





في أفق الماء الخليجي تتجلى عمارة صير بنى ياس العربية الناصعة





النوارس الآبدة والبط المهاجر جذلي ترتوي من حياض جزيرة الرحمة





رويدا رويدا تعود جزيرة القرم غابة مياه الخليج بعد أن كادت تندثر