قصاصات ورق.. ملامح لتاريخ محمد الرميحي

قصاصات ورق.. ملامح لتاريخ

حديث الشهر

الحاجة أم الاختراع أو الابتكار أو الاجتهاد. وقد يبدأ الاختراع أو الابتكار أو الاجتهاد بسيطا ومحدودا لكن الزمن وحده كفيل بإظهار المدى الذي يمكن أن تصل إليه تلك البساطة وتتحول إلى عالم قائم بذاته، مركب ومتكامل وشديد الثراء، وهل هناك أبسط من مجرد اجتزاء قصاصات من سيل المطبوعات التي صارت تتدفق بما يتجاوز قدرة أي عقل بشري على متابعتها، حتى بمعاونة العقول الإلكترونية (التي هي في النهاية أدوات يقوم بعبء تشغيلها وتلقينها العقل البشري)؟. والفكرة الأشهر لجمع القصاصات - موضوع حديثنا - بدأت على أية حال قبل أن يفتح عالم الحاسوب أبوابه الواسعة أمام البشر. ففي وقت الأزمة الاقتصادية التي أصابت الولايات المتحدة والعالم في نهاية العشرينيات من هذا القرن، وجد صحفي أمريكي من نيويورك أن من يريد الاطلاع على الصحف والمجلات الصادرة في مدينته وحدها، يشعر بالعجز، إن على المستوى المادي أو على مستوى الجهد والوقت. وأخذ ذلك الصحفي يذهب إلى المكتبة العامة في المدينة، ويقرأ ويلخص الصحف والمجلات التي يطلع عليها في قصاصات، ثم يصدر من هذه القصاصات مختارات يطبعها طباعة بسيطة ويوزعها بأثمان زهيدة. ومن تلك الفكرة ظهرت وتطورت مجلة المختار Reade's Digest التي صارت تطبع الآن بعشرات اللغات وتوزع في جميع أنحاء العالم، وتقف خلفها إمبراطورية صحفية يقدر رأسمالها اليوم ببلايين الدولارات. وقد كانت هذه المبادرة هي الدافع لانتشار مطبوعات مماثلة في عالم اليوم. فهناك مجلة الناشيونال تايمز The National Times التي تعنى بإعادة نشر الأخبار والتعليقات المنشورة سابقا في الصحافة الأمريكية. كما أن هناك كثيرا من المجلات والنشرات التي تلخص الأخبار والمقالات المنشورة في صحافة بلدان مختلفة وبلغات مختلفة، منها العربية.

إذا كانت الحال هي أم ابتكار فكرة تجميع القصاصات التي تحولت إلى مجلة المختار وما أعقبها، فإن عادات الناس وطبائعهم - والتي لا تولدها الحاجة في كثير من الأحيان - تقودهم أحيانا لاتخاذ فكرة القصاصات كأسلوب في تفاعلاتهم الثقافية. وبما أن للناس عادات تختلف أمارسها من بينها ماله علاقة لها يتحدث عنه هذا المقال، وله باختلاف نشأتهم واهتماماتهم، فإن لي مثل غيري عادات أمارسها من بينها ماله علاقة بما يتحدث عنه هذا المقال ، وله علاقة بعملي. وقديما قيل: "يسعد الإنسان إن كانت هوايته (أو عادته) تطابق عمله ". ولعلي أكون من هؤلاء السعداء لأن من بين عاداتي جمع قصاصات الورق من الصحف والمجلات التي أطالعها. فلا تقع عيني على موضوع أحسبه مهما إلا وأضمه إلى أكوام تلك القصاصات!.

في العصر الحديث أصبحت هذه القصاصات مهنة يمتهنها الناس، وتقدمت التقنية معها وبها كي تصبح عالما بحد ذاته، ولا توجد صحيفة أو مجلة أو مكتب لسياسي أو مهتم بالشأن العام إلا وتجد وراءه جهازا - يصغر أو يكبر حسب الأهمية - يسمى "الأرشيف".

عادة جمع هذه القصاصات قديمة عندي، وما أريد أن أشرك القارئ فيه هو قراءة القصاصات التي جمعتها في سفرة لي أخيرة، أخذتني إلى أكثر من بلد وأكثر من ثقافة.

يجمع بين هذه القصاصات ثلاث صفات، اثنتان واضحتان، والثالثة نسبية. فهذه القصاصات - أولا - من مجلات وصحف غربية - على الرغم من أنني أحتفظ أيضا بقصاصات عربية - ولكن ليس وقتها الآن. وثانيا - وهو مما لا يفوت القارئ الفطن - أنها انتقائية. أما الصفة الثالثة، النسبية، فهي أنها - من وجهة نظري - طريفة، أو أحسبها كذلك.

جمعت هذه القصاصات في البداية لا من أجل أن أشرك فيها أحدا، ولكن فقط لأن جمع مثلها أصبح عادة لدي، وعندما عدت للنظر فيها وجدت أنها تستحق المشاركة مع القراء، أما تعليقي عليها فسوف يأتي لاحقا.

القصاصة الأولى: عندما ترسم القطط

ليس كل القطط - نعم القطط - تستطيع أن ترسم اللوحات الجميلة ولكن بعض القطط الموهوبة تفعل ذلك، وقد أصبحت رسوماتها تباع في المعارض وبأسعار يحسدها عليها كبارا الفنانين!.

وإذا كانت الفكرة منذ البداية تبدو غير مصدقة، فأين مثلا في تاريخ النحت العالمي ما يضاهي في تكوينه وخطوطه وتعقيده عش طائر؟ وحتى لا نذهب في المقارنة بعيدا، فقد احتفل في بريطانيا بالذكرى الأربعين لوفاة واحد من أكبر الفنانين الشمبانزي، حيث كانت أعماله الفنية محط إعجاب المعلقين وجامعي اللوحات على حد سواء، فقد كانت أعماله الفنية تلقائية وديناميكية فيها المعبر والتجريدي، حتى أنها عندما عرضت في معهد الفنون الحديثة في لندن في الخمسينيات فإن قليلا من الناس صدقوا أن هذه الأعمال الفنية لشمبانزي حتى شاهدوه يعمل في حظيرته الصغيرة في حديقة حيوان الريجنث بارك في لندن.

ومع الاختلاف في إنجازات الفنانين، إذ لا يوجد فنان يشابه الآخر في موضوع واحد، خاصة في مرحلة تكوينهم الفني الأولى، وعندما تكون هناك قدرات فنية يجب أن تنمى فلا بد من أن تشجع وترعى منذ الصغر، وأن تقدم للشخص المواد المناسبة مع تعليمات في كيفية استخدام هذه المواد، ولكن حيث إن توافر البيئة المناسبة للعمل الفني لدى الحيوانات غير ممكن فإن معظم الحيوانات لا تتاح لها الفرصة لتطوير وعرض قدراتها الفنية، وحتى القليل منها الذي يستطيع أن يعرض قدراته الفنية فإنه لا يلاقي التشجيع. وإذا كانت أعمال بعض الفنانين الكبار من البشر يمكن أن تواجه بالإهمال فكيف يمكن لإنتاج فنان من بني الحيوان أن يقدر؟!.

على كل حال هناك بعض الشواهد على أن الوقت الآن أفضل من أي وقت مضى لقبول وتقدير الفن المنتج من غير البشر. واحدة من الدراسات التي استمرت لسنوات حول الإنتاج الفني غير البشرى نشرت أخيرا بعنوان: "لماذا ترسم القطط؟" هذه الدراسة أعدها اثنان من الدارسين النيوزلنديين، مؤكدة بالطريقة الأكاديمية المليئة بالشروح، والحواشي والمراجع المختلفة، منها ليست دراسة مختصرة عن موضوع لا يعرف عنه إلا القليل فقط، ولكنها أيضا دراسة تجمع تجارب عديدة مع صور ملونة لقطط تقوم بالفعل برسم لوحاتها مع شرح الطرق والمواقف من العمل الفني نفسه.

الدراسة ليست مقصورة على التوجهات المعاصرة، ولكنها تحتوي على تاريخ عائلة القطط الفني وهي لافتة للنظر، وتقدم بطريقة بعيدة عن الإثارة. ففي حوالي سنة 5000 قبل الميلاد في مصر القديمة - على سبيل المثال - وجدت جرة في أحد المدافن مزينة بضربة يد قطة، واعتبرت هذه الضربة الفنية هي المساهمة الأولى في تاريخ أبعد لفن القطط منذ أكثر من سبعة آلاف سنة. ويدعي الباحثان أنهما حصلا على شواهد بأن قطط الأديرة تعاونت في وضع بعض الرسوم التوضيحية داخل هذه الأديرة.وأن واحدا من الرسوم المعترف بها لأحد أشكال الديانة البوذية كان قطا سياميا يدعى (أتوكاتي)، هذا الكتاب يقدم أكثر من خطوط عريضة لفن العائلة القطية والذي يبدو أنه يسير- وبشكل عجيب - بمحاذاة الفن الإنساني.

وهناك فنانون كبار وصغار، هناك مدارس ومراكز فنية كبرى، هناك فترات لإنجازات عظيمة، كما أن هناك فترات يضمحل فيها الإنتاج الفني. كل ما يطلب منا من أجل أن نعترف ونستمتع بفنان من عائلة القطط مساو لفنان كبير مثل رامبرانت وفيلازكوز هو عرض لفن القطط، ولقد ظل هذا العرض منتظرا منذ زمن بعيد لكنه صار ممكنا اليوم.

لدي اعتراض وحيد حول هذا الكتاب، إذ ينقصه التوازن التاريخي، فلم يتعرض لعصر النهضة القططي!! ووضع الكثير من الثقل على العصر الحالي وعلى فنانين من القطط المعاصرة. والشكل الوحيد من أشكال الإنتاج الفني الذي درس بعمق هو فقط الفن التجريدي حيث إن الأشكال الأخرى كالتكعيبية والرمزية والانطباعية والسريالية لم تجد لها مكانا في الدراسة!! وهل يمكن أن يقودنا ذلك الفهم إلى أن تاريخ الفن القططي لا توجد فيه "ميوكاسو" أو "ميودالي"!.

إذا ابتعدنا عن التحيز لبني الإنسان ضد الحيوان، فإنه من الضروري الاعتراف بأنه ليس كل قط أو قطة يمكن أن يقوم بعمل من أعمال الفن الجميل، كذلك هو الإنسان.

الفرق أن الحيوان لا يعقل ماذا يفعل وبالتالي تتساوى عنده الأعمال الجيدة في الفن بالأعمال الرديئة، أما الإنسان فإنه يؤكد دائما أن أعماله عظيمة ودائما يجرؤ على عرضها للناس!.

"مجلة الفن في الصانداي تايمز"

القصاصة الثانية: أيهما أهم القدم أم الرأس!!

ماذا تفعل عندما تكبر في السن وتحال إلى المعاش؟ الإجابة عن هذا السؤال قد تتعدد بتعدد الخبرات، وتختلف باختلاف المجتمعات، ولكن في المجتمعات الغربية حيث العمل وكسب المعيشة جزء لا يتجزأ من الثقافة الرأسمالية، يبتكر الأفراد طرقا تجعلهم مفيدين لأنفسهم وللمجتمع الذي يعيشون فيه، وهذه قصة ثلاثة رجال عاطلين عن العمل وجدوا لهم حياة جديدة ومفيدة مع أقدام الناس.

كسب المال هو المفتاح لفهم المجتمعات الغربية، وأحسن طريقة لكسب المال هي أن تقدم (خدمة) لا يستطيع الجمهور أن يستغني عنها، وباري مانسفيلد - الرجل الأول - استغنى عن خدماته سلاح الطيران الحربي البريطاني عندما وصل إلى منتصف الخمسينيات بعد مضي 34 عاما متصلة من الخدمة من أجل استخدام شباب أصغر وأكثر حيوية، وكان أمام باري مانسفيلد أن يقضي أيامه إما مشاهدا لبرامج التلفزيون أو إشغال نفسه بتنظيف حديقة بيته. وقضى بضعة أسابيع بالفعل في ذلك إلى أن "شعرت بالضيق وقلت لنفسي إنه لا بد أن الحياة فيها أشياء أخرى غير حساب الأيام وانتظار الموت". الجواب الذي اهتدى إليه هو فتح عيادة صغيرة للعناية بالأقدام، وكضابط متخصص في هندسة التيارات الهوائية "كنت أستخدم يدي وعيني لإبقاء الطائرة متوازنة في السماء، وأنا أستخدم الآن نفس المهارات الأساسية وأستخدمها الآن لتمكين الناس من الوقوف على الأرض".

شريكه الآخر الرجل الثاني هو (ري جارنر) الأساسية، وأستخدمها الآن لتمكين الناس من الوقوف على الأرض". كان يعمل مديرا إداريا لإحدى شركات خياطة الألبسة، ولأن هذا النوع من الإنتاج أصبح يواجه منافسة خطيرة مما يستورد من الخارج ، أفلست الشركة وأصبح ري جارنر عاطلا عن العمل، وقاده اهتمامه بالأدوية الطبيعية إلى أن يشارك في الخدمة الجديدة: العناية بالأقدام. أما الرجل الثالث فهو (جون جون) والذي كان يعمل لأربعة عشر عاما مهندسا لفحص محركات الطائرات في أحد المصانع المشهورة، وهو أمر ليس له علاقة من قريب أو بعيد بالأقدام، ولكن الانكماش الحاد في الاقتصاد البريطاني دفعه لأن يعمل أي عمل، حيث إن لديه الوقت الكافي لتعلم مهنة جديدة!.

مع الاختلاف الواضح في خلفيات الرجال الثلاثة فإنهم يشتركون في بعض العوامل منها قربهم من سن التقاعد، وقد وجدوا أن مؤهلاتهم وخبراتهم القديمة التي مكنتهم من العمل لم تعد مطلوبة في سوق الأعمال ، لقد أرسلوا إلى منازلهم لأن الصناعة - كما عرفت حتى الآن - تتحول في المجتمعات المتقدمة إلى خدمات.

التحق الرجال الثلاثة ببرنامج تدريبي تعده شركة "سوكول" المعروفة للعناية بالأقدام.

عندما تقول للناس - يقول باري مانسفيلد - إنك متخصص في علاج الأقدام تكون الاستجابة بطريقتين لا ثالثة لهما: إما أن يبدي المستمع صدمة مع ابتسامة خفيفة تخفي عدم تصديقه، أو أن يقول لك، أو تقول: "هل لك أن تنظر إلى هذا؟ " ويبدأ بخلع حذائه وجوربه !!.

الاهتمام بالأقدام أصبح ظاهرة تنتشر لدى الناس، ليس فقط احتياطا لآلام المستقبل، ولكن كعلاج تجميلي، والشركات المهتمة بالعناية بالأقدام عادة ما تستخدم العبارة الآتية للترويج لخدماتها: "عندما تشعر قدمك بالارتياح تشعر أنت أنك مرتاح " وتستمر بشرح أهمية تدليك القدمين والساقين، من أجل تحسين الدورة الدموية. نساء في العشرينيات والثلاثينيات من أعمارهن بدأن يترددن على عيادة العناية بالأقدام كل شهر تقريبا ، فقط للفحص العام للقدم إنهن يبذلن عناية خاصة بأقدامهن كما يبذلن العناية بشعورهن. ولكن المشكلة هي في كبار السن، الذين تجاهلوا أقدامهم لفترة طويلة، فبدأت في تجاهلهم !.

بناء على الدراسات المنشورة فإن 85% منا نحن الجمهور العام سوف نعاني من مشكلة في أقدامنا بشكل أو بآخر أثناء حياتنا. هناك قائمة انتظار تمتد إلى ثمانية أسابيع في بعض العيادات العاملة في مجال العناية بالأقدام، ولها مجلة هي "الكيروبودي ريفيو" Chiropody Rivew وهي غالبا ما تنشر إعلانات لمن تنطبق عليه الأوصاف العامة إلا تشترط تخصصا معينا) لكي يتقدم للتدريب.

ري جارنر (الرجل الثاني الذي أكمل تدريبه) يقول إنه كان يعتقد أن (الكيروبودست) المتخصصين في العناية بالأقدام ، على أحسن تقدير هم من يقومون بتقويم الأظافر إن كان فيها مشكلة، وهو لم ينظر إلى قدمه في السابق نظرة أبعد من ذلك.

أما الآن يستطيع أن يعرف أن شخصا ما لديه مشكلة في قدمه هو ينظر إلى الناس بينما هم يمشون في الشارع، ويمكن أن يتعرف على مهن الذين يتلقون العلاج من حالة أقدامهم! حالة قدم شخص ما يمكن أن تنبئ عن مشكلات في الدورة الدموية، أو أنهم مصابون بالسكر أو داء المفاصل، وحالة الجهاز العصبي، وحتى بالاضطرابات في الكبد.كل قدمين لهما حالة خاصة، ولا توجد قدمان متشابهتان تماما لرجلين مختلفين. يقول مانسفيلد إنه في السابق كان ينظر إلى وجوه الناس ويقرر كيف يكونون، " أما الآن فإنني أنظر إلى أقدامهم، وطريقة مشيهم عندما يدخلون من الباب فأعرف عنهم الكثير".

"الجاريان"

القصاصة الثالثة: أعمال حرة..أم عصابات؟

كل من قرأ عن اليابان يعرف شيئا عن (الياكوزا) وهي العصابات المنظمة التي تبتز رجال الأعمال في اليابان، فمنذ أسابيع قتل مدير بنك سوفيوم في مدينة ناجويا التي تبعد ثمانين ميلا شرق أوساكا، وهو واحد من أشكال العنف العديدة ضد رجال الأعمال ولن يكون الأخير. وتقوم بهذه الأعمال عصابات (الياكوزا) وهي الشكل الياباني من المافيا. القتل نفسه يعني أن هذه العصابات تحاول جاهده البقاء على السطح في ظروف اليابان الاقتصادية الصعبة وتؤكد قدرتها على الإرهاب. البنوك والمؤسسات الاقتصادية الأخرى تحاول عبور الانكماش الشديد في الاقتصاد الياباني عن طريق المطالبة بالديون الميتة لدى الشركات الظاهرية لهذه العصابات، ورفض الكثيرون من الاقتصاديين دفع أموال للحماية، وطالبوا بوضع قوانين صارمة ضد (الياكوزا). بنك سوفيوم واحد من البنوك التي تحاول استرجاع الديون، والتي كانت في السابق تعتبرها مفقودة وتتراوح بين بليونين إلى ثلاثة بلايين دولار.

بين فبراير ومايو 1993 حدث اثنان وعشرون هجوما وتهديدا بالقتل ضد مدير بنك سوفيوم، بما فيها هجوم بالقنابل ضد منزل نائب رئيس مجلس الإدارة، وإطلاق الرصاص في فروع البنك في طوكيو ويوكاهاما.

في أغسطس 1993 قتل توم سايورو كويوها نائب رئيس بنك هناوي رميا بالرصاص وهو في طريقه إلى العمل، وفي فبراير الماضي قتل جونثارو سوزكي، أحد مديري شركة فوجي للأفلام، عن طريق طعنه بالسكاكين أمام منزله في طوكيو. وهاتان الضحيتان من جملة ضحايا عديدين من كبار مديري الشركات والمؤسسات الاقتصادية. وشرطة اليابان تعتقد أن وراء هذه الاغتيالات منظمات (الياكوزا)، ولكنهم لا يستطيعون القبض على أحد لأن هذه الشركات وعائلات القتلى لا تتعاون بإعطاء معلومات تقود إلى الفاعلين.

مؤامرة الصمت هذه مرجعها - جزئيا - أن هذه الشركات كانت تتعاطى بشكل غير قانوني مع هذه العصابات في السابق. ودفع أموال للحماية من انتقام العصابات غير قانوني رسميا، ولكن في دراسة أخيرة وجد أن عددا كبيرا من الشركات اليابانية المسجلة في بورصة طوكيو دفعت مالا إلى عصابات في وقت ما للحماية واتقاء شرها.

وحسب ما نقلته جريدة نيكي شيمون - وهي الجريدة الاقتصادية التي توازي وول ستريت جورنال في أمريكا والفايننشيال تايمز في بريطانيا - نقلت عن موظف سابق لأحد البنوك أنه عين في البنك من أجل التعامل مع هذه العصابات، وكانت وظيفته في الأصل هي إسكات حاملي الأسهم المشاغبين، والتأكد من أن أي اجتماع سنوي للجمعية العمومية لا يتعدى العشرين دقيقة. هذه الشركات كانت تدفع لعصابات (الياكوزا) مبالغ طائلة لتهديد من يتعرض لمصالحها.

التصاعد في أعمال العنف لهذه العصابات جاء في الوقت الذي تضاءلت فيه دخولها، وقد كانت من التهرب من الديون، التجارة بالمخدرات والقمار، والتجارة بالجنس. الأزمة الاقتصادية اليابانية أثرت في دخول هذه العصابات كما أن البنوك أوقفت تسهيلاتها الائتمانية والتي كانت ميسرة قبل ذلك. بجانب ذلك فإن الفضائح السياسية التي ربطت بين بعض السياسيين وبعض زعماء تلك العصابات ساعدت على سقوط أكثر من حكومة يابانية على مدى العامين السابقين.

تنظيمات (الياكوزا) التي كانت تعرض أسماءها بالنيون في أماكن قياداتها كانت قانونية حتى 1992 عندما صدر قانون ضد الحماية. منذ ذلك الوقت حاولوا الالتفاف على القانون بإعلان أنهم تجمعات اقتصادية أو صناعية وسياسية أو حتى دينية. مثلا (سيميوشيكي - كاتا)، العصابة الثانية في القوة والنفوذ سمت نفسها (هوري للاستثمار)، فيما عصابة (أنجاوا كاتي) العصابة الثالثة هي اليوم (انجاوا للصناعات)، ولكن الضغوط الجديدة جعلت مئات من أفراد هذه العصابات يتنكرون لماضيهم ويسيرون سيرا حسنا، بعضهم حاول نزع الأوشام من الجلود، والتي كانت تعبر عن الولاء والطاعة، وهي عملية مؤلمة تترك الجسم مشوها والجلد محترقا، بعضهم أزال الوشم عن طريق الأحماض الكاوية.

تعتقد الشرطة اليابانية أنه لا يزال هناك 3500 منظمة من هذا النوع يصل عدد أعضائها إلى 90 ألف شخص ويقدر دخلها الشامل بين 10 إلى 20 بليون دولار في السنة.

في العام الماضي قتل أكثر من ستة زعماء في التنظيم الهرمي للياكوزا بسبب خلافات داخلية فيما بينهم.

القانون الجديد مثله مثل بقية القوانين اليابانية يساعد على توسيع الوحدات، وحسب هذا القانون فإن أي مجموعة في عضويتها أكثر من ألف عضو تعرف بأنها منظمة إجرامية إن كان أكثر من 4.11% من أعضائها لديهم سوابق في الإجرام، والمجموعات الصغيرة من شخصين أو ثلاثة يمكن أن يوصفوا بالإجرام إذا كانت النسبة 66.67 % لديهم سوابق. في الشكل العلمي فإنه من السهل لمنظمة لديها عدد كبير من الأعضاء أن تستغني عمن لديهم سوابق وتبقى ضمن القانون بشكل أسهل من المجموعات الصغيرة بل إن بعض هذه العصابات قد أنشأت أخيرا تنظيما جديدا هو "الوجه القديم لتنظيف البلاد"، وهي منظمة أهلية لا تسعى إلى الربح - كما تقول - وإنما لمحاربة الاستخدام السيئ للمخدرات!.

"التايمز/ قسم الأعمال"

القصاصة الرابعة: ليس هناك شرق أوسط

في يوليو الماضي وفي مؤتمر صحفي في واشنطن حول سياسة الولايات المتحدة الخارجية، سألت مسئولا - يقول الكاتب - حول تأثير سياسة الإدارة الأمريكية في البوسنة على الشرق الأوسط، فنظر إلي - وهو أحد كبار المسئولين في الخارجية الأمريكية - وقال: "ليس هناك علاقة" وبعد هنيهة صمت محرج أكمل الحوار وكان محوره واهتمامه السلام الإسرائيلي العربي : بالتأكيد الخارجية الأمريكية كانت تبذل جهدها لإخراج قضية البلقان من سلة اهتمامات الرئيس لتحل محلها قضية الشرق - الأوسط. تلك بيروقراطية أكثر منها استراتيجية. المتخصصون في الشرق الأوسط اليوم مثلهم مثل المتخصصين في الشئون السوفييتية في الثمانينيات هم على شفا تغيرات هائلة ولكنهم لا يشعرون أنها قادمة ، ذلك لأن البلقان وتركيا وما يسمى بالشرق الأوسط وبدرجة أقل آسيا الوسطى باقية كإقليم واحد، وهو ما كان يعرفه الأوربيون "بالشرق الأدنى" إبان فترة الإمبراطورية العثمانية السابقة، بل وعالم بيزنطة يعود للبروز من جديد بعد انتهاء الحرب الباردة.

نتائج هذا التغير الهائل بلا شك ضخمة. هناك أربعة أسباب للفشل (في الغرب) لا الفهم الخاطئ أن تركيا والبلقان وآسيا الوسطى ليست جزءا من منطقة سميت خطأ بالشرق الأوسط. الأول: عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي، والتي تصور البعض بسببها أن تركيا جزء من أوربا. والثاني: أن الشيوعية سجنت البلقان وآسيا الوسطى من 1945 إلى 1989 وفصلته عن امتداده الطبيعي. والثالث: أن الصراع العربي الإسرائيلي أصبح مؤسسيا لعدة عقود بسبب التنافس بين الدول العظمى مما سمح جزئيا بفصل العالم العربي عن الإقليم الأكبر. والسبب الرابع: أن المسئولية الدولية التي ألقيت على عاتق الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية قادت إلى وجود خبراء في شئون المناطق الجغرافية المستحدثة في الحكومة الأمريكية، وبين الأكاديمية والمجموعات المفكرة، وكان تأثيرهم على الرأي العام وعلى السياسات معتمدا على التقسيم الجغرافي الجديد. هؤلاء اخترعوا مسميات معتمدة على التقسيمات الجغرافية والحدود القائمة. وككاتب متخصص في شئون البلقان وتركيا والشرق الأوسط فقد وجدت كيف أن هذا الإقليم قد بدا كثقافتين هامشيتين في واشنطن بتلاقح قليل أو بدون تلاقح بينهما.

التقسيم المصطنع هذا شكل وجهة النظر الغربية لفترة طويلة ومسح بعض الحقائق التاريخية من وعي الجمهور. تركيا قادت المسلمين منذ 850 عاما أي منذ اكتساح السلاجقة للأناضول عام 1071 م حتى هزيمة الإمبراطورية العثمانية 1918 م ولكن بالنسبة للغرب فإن الإسلام هو العرب، وفي الغالب أصولي. حتى الثورة الإيرانية 1979، ذات الـ 50 مليون مسلم في إيران غير ظاهرين لنا، كما هم الـ 60 مليونا في تركيا، وعدد كبير من المتحدثين بالتركية من المسلمين في آسيا الوسطى هم حتى الآن بالنسبة لنا - جزئيا - غير ظاهرين. لماذا نحن في الغرب عرفنا التاريخ العربي الإسلامي، وحتى فترة متأخرة لا نعرف شيئا عن الطرق الصوفية؟ أو كيف شكل الإسلام هوية الأتراك والبلقان؟ لو عرفنا شيئا أكثر عن جلال الدين الرومي في القرن الثالث عشر لما تشجع كثيرون على القول بأن الحضارة الإسلامية لا تعرف الأفكار الديمقراطية، ولما ظهرت الأصولية الإسلامية على أنها أحادية ومهددة لنا. الرومي حذر من أن إطلاق اللحية وإرخاء الشارب عند رجل الدين لا يعني بالضرورة أنها سمة الحكمة. الرومي فضل الفرد على الجماعة، وتحدث كثيرا ضد الظلم. النظام الديمقراطي التركي فيه عناصر إسلامية كثيرة التفاعل بين الشمال والجنوب لا إطار الشرق الأدنى- تاريخيا - وهي واضحة، فنضال العرب والبلقان والرومان واليونان في القرن التاسع عشر من أجل قومياتهم قد تأثر به العرب والأتراك أيضا. لقد هدم 800 مسجد من مساجد المسلمين في البوسنة عدا آلاف القتلى وذلك لا بد أن يوقظ الشعور الإسلامي بالتآخي في أماكن عديدة. لقد أخذت الإمبراطورية العثمانية وقتا طويلا كي تموت، ولكنها تركت لنا (في الغرب) عبئا ثقيلا من التخلف السياسي في الأماكن التي تركتها، زاد في ذلك وقوع شرق أوربا تحت سيطرة الشيوعية.

"نيويورك تايمز ماجازين"

القصاصة الخامسة: مونيكا بأرخص الأسعار

أب وأم صغيران من رومانيا صارا قلب زوبعة قضائية مدوية. فقد كان الوالدان الصغيران يأملان في الحصول على مبلغ كبير لقاء بيعهما لابنتهما (مونيكا) لزوجين بريطانيين حرما من الأطفال، إلا أن نتيجة البيع كانت مخيبة للآمال فجل المبلغ والذي يبلغ خمسة آلاف جنيه استرليني ذهب للوسيط الروماني، ودفع في مونيكا في نهاية الأمر 34 جنيها استرلينيا للوالدين: الزوجة فلورينا ديمرا وعمرها ستة عشر عاما والزوج فلورين بيران وعمره سبعة عشر عاما. الوالدان نقلا قصتهما إلى الصحافة بعد وصول القضية إلى المحكمة الرومانية والقبض على الزوجين البريطانيين. ديمرا أقل من خمسة أقدام في الطول نحيفة وهزيلة ولا تبدو هي نفسها أكثر من طفلة قالت إنها تفكر كثيرا في طفلتها مونيكا والتي هي الآن في حضانة خاصة بالأيتام. ومرتبكين أمام أضواء المصورين وجد الزوجان الصغيران أنفسهما في المحكمة بتهمة الإهمال، مثلهما مثل الزوجين البريطانيين اللذين اتهما بمحاولة تهريب طفلة دون وجه حق. قصة الأم ديمرا نفسها محزنة فقد وجدت نفسها طفلة لأبوين يعملان في تنظيف الشوارع في مدينة "الكسندريا" الرومانية، ولم تكن تحظى بأي اهتمام من والديها اللذين أعجزهما الفقر وحولهما النظام الشيوعي في رومانيا إلى أدنى من مستوى البشر، لم تذهب قط إلى المدرسة لأن أمها لم تكن ترغب في ذلك.

وفي العام الماضي قابلت بيران في أحد شوارع "الكسندريا" ودعاها إلى أن تنتقل إلى منزله مع عائلته، ولم يكن باستطاعتهما الزواج لأنهما أصغر من السن القانونية. ذلك البيت المكون من غرفتين متفسختي الأرضية وحمام خارجي تشارك فيه أكثر من أسرة وتنبعث منه رائحة دائمة تصل إلى السكان جميعا كان أفضل لها من مسكنها السابق، حيث يعيش والدها ووالدتها وأربعة أطفال آخرون براتب شهري لا يتعدى الدولار الواحد. ولكن عند ولادة مونيكا الصغيرة كان هناك تسعة أشخاص في الشقة الصغيرة، ولم يعد الزوجان الصغيران مع طفلتهما الجديدة قادرين على التأقلم أكثر مع ذلك الوضع، فركبا القطار إلى بوخارست العاصمة الكبيرة لعل بها شيئا من الأمل لطفلتهما الصغيرة، والتي أصبحت في الشهر الخامس من عمرها. ربما كان تنظيف الشوارع في العاصمة له دخل مجز أكثر من مدينتهما القديمة. ولا يوجد عمل آخر للغجر الرومان غير تنظيف الشوارع. يقول الزوجان إنهما بعد وصولهما إلى بوخارست اتصل بهما أحد الأشخاص وأخذهما إلى شقة نظيفة، كان فيها أكثر من عائلة مع أطفال صغار. وقال لهما الرجل - الذي جاء إليهما في اليوم التالي بصحبة محام معه كثير من الأوراق - إنهما إذا كانا يريدان الراحة من عبء مونيكا والحصول على مال وفير فعليهما فقط توقيع هذه الأوراق، وهي عملية تقوم بها العديد من الأسر، وسوف تعيش ابنتهما مونيكا عيشا رغيدا في بلد آخر وبعد أن وقعا الأوراق أخذت منهما الطفلة وأخرجا من الشقة بشكل غير لائق وأعطيا لفافة من ورق الصحف قيل لهما إن بها المال المتفق عليه. وعندما فتحاها وجدا أن بها 34 جنيها إسترلينيا فقط، وصرفا معظم المبلغ في ركوب تاكسيات في بوخارست وشراء بعض الملابس الجديدة، وعندما قبضت الشرطة على الوسطاء تبين أن المبلغ الذي دفع لهم كان أربعة آلاف جنيه إسترليني.

مونيكا كانت في طريقها إلى لندن مع عائلتها الجديدة بسلام، وارتبكت الأم عندما سألها أحد المسئولين في المطار سؤالا عابرا عن الطفلة. فقالت إنها ليست طفلتها ولكنها احتضنتها! وانكشفت بعد ذلك حلقات القصة التي قادت إلى عصابة بيع الأطفال. وبينما كانت العائلة الإنجليزية تنتظر نتيجة المحاكمة، تبين أن عشرات الأطفال قد تم بيعهم بطريقة أو أخرى وتهريبهم من أوربا الشرقية إلى العالم. "أخبار العالم"

القصاصة السادسة: الطلاب الأجانب

الطلاب الأجانب يتفوقون على الطلاب البريطانيين في الدراسات الجامعية ويحصلون على أفضل الدرجات، شباب من سنغافورة وسريلانكا والهند تتضاعف تقديراتهم العلمية وينجحون في الحصول على درجات التفوق مقارنة مع زملائهم الذين تعلموا في بريطانيا. والدراسات تقول إن الطلاب من آسيا لديهم دافع للدراسة أكبر من زملائهم الآخرين، رغم أنهم يدفعون مصاريف تعليمهم الباهظة. الألمان الغربيون والإيرلنديون والإسبان هم الأكثر إنجازا بين الأوربيين، رغم أن بعضهم عليه أن يتعلم لغة جديدة غير لغته الأم هي الإنجليزية. الفروق بين الطلاب الإنجليز والأجانب أكثر اتساعا في مجالات العلوم البحتة، واحد من خمسة من طلاب الكومنولث يحصل على التفوق، بينما واحد من ثمانية من الإنجليز يحصل على ذلك، هناك تعتيم ثقافي على التفوق في العلوم لدى شعوب جنوب شرق آسيا. ربع الطلاب من سنغافورة الذين تعلموا في بريطانيا حصلوا على درجات الامتياز، مقارنة ب 9 %. فقط من الطلاب الإنجليز. المجتمعات التي تزاد فيها المنافسة تعطي دافعا قويا للتفوق، والمجتمعات التي تقل فيها المنافسة تضعف فيها دافعية التفوق. الطلاب من جنوب شرق آسيا في المعاهد البريطانية حوالي ربع مجموع الطلاب الأجانب والبالغ عددهم حوالي 75 ألف طالب، معظمهم من سنغافورة، الهند، باكستان، وسريلانكا. يقول الأكاديميون إن نجاح هؤلاء الطلاب ناتج في جزء منه عن القيمة العالية، التي تضعها مجتمعاتهم، للتعليم والثقافة، وأيضا لأخلاقيات العمل العالية في مجتمعاتهم. بعض هؤلاء الطلاب مبعوثون من حكومات بلادهم، ولكن بعضهم الآخر يعملون بجد كي يدفعوا رسوم الجامعات البريطانية المرتفعة والتي تبلغ حوالي 7500 جنيه إسترليني لمصاريف التدريس فقط، طالب من كل ستة طلاب ألمان ينجح بدرجة الامتياز، ثم يأتي بعدهم الإسبان والإيرلنديون واليونانيون، والأقل حظا في قائمة النجاح الطلاب القادمون من اليابان، وبروناي، وإسرائيل. (ملحوظة: لم يذكر المقال شيئا عن الطلاب العرب!).

"الصنداي تايمز"

***

في النهاية.. وإذا صح القول - كما يردد الروائيون - أن التفاصيل هي التي تصنع صورة الحياة، فإن القصاصات - على بساطتها وإيجازها - قد تكون ملامح لهذه الحياة. ومن مجمل الملامح تتكون صورة اللحظة التي تعالجها محتويات القصاصات، ومن ثم الصورة التاريخية هذه اللحظة. وآمل أن تكون هذه القصاصات، التي اخترتها لهذا المقال، ذات دلالة ما على صورة اللحظة التاريخية التي نعيشها.. في هذا الهزيع الأخير من سنوات قرننا العشرين!

 

محمد الرميحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات