الشرق الأوسط الجديد كما يراه بيريز أمين هويدي

الشرق الأوسط الجديد كما يراه بيريز

إذا كان من السهل على الإنسان أن يغير جلده، فهل يكون من السهل عليه أيضا أن يغير ذاته؟ سؤال لعله يلازم من يقرأ كتاب شمعون بيريز الأخير "الشرق الأوسط الجديد"، كما لازم كاتب هذا المقال.

لقد ساعدني وأنا أحاول الإجابة عن سؤال تغيير الذات استعادتي لقصة "الفأر والساحر". كان الفأر الصغير يشعر بالخوف وهو يجري في الغابة من اقتراب القط منه، فذهب إلى ساحر مشهور وطلب منه أن يحوله إلى قط كبير، وقال له الساحر وهو يبتسم: وهل ترى في هذا الحل علاجا لخوفك؟! وأجابه إلى طلبه. ولكن ما لبث أن عاد الفأر بعد أيام إلى الساحر وقال له: أيها الساحر العظيم جئتك لأنني أشعر بإحساس غريب فمازلت أشعر بالخوف من القط والكلب ولذلك أرجو أن تحولني إلى ذئب. فابتسم الساحر وأجابه إلى طلبه ولكن الفأر عاد إليه بعد أيام وقال له: إنني مازلت أشعر بالخوف من القط والكلب والذئب فأرجو أن تحولني إلى أسد إلا أن الساحر قال له: لن يجديك هذا نفعا لأنك يا صديقي حتى لو تحولت إلى جسم أسد فإن قلبك مازال قلب فأر. ومعنى ذلك أنه حتى لو غير الإنسان جلده وظاهره فإنه لن يتمكن من تغيير دخيلته وذاته. وشمعون بيريز تاريخه حافل في عداوته للعرب وتنكره لحقوقهم منذ كان يعمل مع بن جوريون قبل إنشاء الدولة وبعد إنشائها، فقد قاما بأعمال لا يمكن أن ننساها. فحتى وهو مازال مديرا لوزارة الدفاع أشرف على تسليح جيش الدفاع الإسرائيلي "تزاحال "، وحارب حتى تكون موازين القوى إلى جانب إسرائيل في مواجهة كل الجيوش العربية، وأشرف على البرنامج النووي الإسرائيلي منذ بدايته بعد الأيام الأولى لإنشاء الدولة، وكان عضوا بارزا إلى جانب بن جوريون وموشيه دايان في مؤامرة "اتفاقية سيفر" تمهيدا للعدوان الثلاثي على مصر.

شمعون بيريز هذا حاول في كتابه "الشرق الأوسط الجديد" أن يقدم نفسه على أنه رجل سلام "فنحن نقف على مفترق طرق تاريخي نميز فيه بين طريق ألسنة اللهب والدخان الخانق وأنهار الدم، وبين طريق الصحراء المزهرة وصبغ الأراضي المحتلة القاحلة بالخضرة والسير على درب التقدم والنمو والعدالة الحرية. "وهكذا يتحول الرجل أمامنا فجأة من جانب الصقور إلى جانب الحمائم. وهذا طبعا أمر ممكن شرط أن تتفق الأقوال مع الأفعال وإلا وجدنا أنفسنا أمام طائر غريب له جسم الصقر مركب عليه رأس حمامة. وليس من الحكمة أن نتعجل في الحكم على الرجل الوزير والمؤلف... الوزير المحكوم بمسئولياته الوزارية والتزاماته الحزبية، والكاتب الذي يطلق لخياله العنان في بعض الأحيان ويقول ما يعن له دون أن تلزمه قيود المسئولية أحيانا أخرى. مع شمعون بيريز يجب أن نركز ونحن نقرأ أفكاره على ما بين السطور وعلى ما تحت المائدة فهذا أقرب إلى التروي والحكمة.

وإذا كان من الشائع أن الكتاب يقرأ من عنوانه فإن تقييم هذا الكتاب الغريب يمكن أن يكون من خاتمته التي تعرض فيها لمشكلة "اللاجئين" وسوف يكتشف القارئ أنه يتحدث بمنتهى الجدية عن أن اللاجئين هم اليهود "فنحن أمة من اللاجئين نحمل في ذاكرتنا الجماعية تاريخ النفي من بلادنا التي انتزعت مرتين من أجدادنا فكتب علينا أن نهيم على وجوهنا في كل بلاد الدنيا وعلى مدى خمسين جيلا من الذبح والقتل وعذابات الإبادة Holocaust كان عامل واحد يحثنا على احتمال مشقات الرحلة وهو حلم العودة إلى الوطن القديم واستوعبتنا بلادنا قبل وبعد حرب الاستقلال وبمجرد أن وطأت أقدامنا تراب الوطن حتى نزعنا صفة اللاجئين وأصبح لنا وطن وهوية وشعب...." ويعترف بعد ذلك عرضا بأن بعض العرب تركوا ديارهم في فلسطين عام 1948 وما قبلها، ويحمل القادة العرب مسئولية خلق مشكلة اللاجئين هذه، لأنهم دعوا السكان إلى ترك مناطق القتال على أمل واه في العودة بعد كسب الحرب ويتحملون في نفس الوقت مسئولية الإبقاء على المشكلة بعد أن خلقوها، لأن البلدان العربية لم تستوعب لاجئها العرب بنفس روح الإيثار والإخاء الذي أبدته إسرائيل إزاء لاجئي الحرب اليهود...!!!! فإذا كان عدد الفارين من العرب خلال عام 1948 حوالي 600 ألف فلسطيني فإن إسرائيل استوعبت نفس العدد من اليهود الذين طردوا من البلاد العربية. ويمكن أن يتجادل العرب واليهود على الخلاف التاريخي دون نتيجة وإلى الأبد، والأجدى من ذلك مواجهة المشكلة القائمة بحلول يرضى عنها الطرفان عن طريق التنازلات المتبادلة... فبخصوص الجيل الأول من اللاجئين العرب لا مجال لعودتهم لا الآن ولا في المستقبل، لأن ذلك يهدد الكيان القومي لإسرائيل، أما عن الأجيال التالية فمن الخطأ اعتبارهم لاجئين. وعلى أي حال فيمكن مواجهة مشكلتهم على مراحل ثلاث: مرحلة المفاوضات الحالية ونركز فيها جميعا على تحسين المخيمات التي يعيشون فيها مع إعادة تأهيلهم للعمل والإنتاج صيانة لكرامتهم حتى لا يظلوا متسولين يعيشون على مساعدات الغير. وفي المرحلتين التاليتين نشيد لهم المنازل الحديثة في أحياء ومدن مخططة، مع إعادة لم شمل العائلات وإقامة المشروعات المشتركة، وتكفل الكونفدرالية الفلسطينية - الأردنية حرية التنقل داخل مناطقها مع إقامة مركز أبحاث للمشروعات المستقبلية لدراستها على أساس علمي. وخلاص...!! وكما نرى فإن آخر القصيدة كفر وعلينا بعد ذلك ألا نغتر بابتسامة رجل السلام لأن بروز أسنان الليث المفترس لا تعني أنه يضحك!!.

تحدث شمعون بيريز بإفاضة في أول كتابه عن الخطوات التي أدت إلى اتفاقية أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، لكن الأهم الآن أن نستعرض كيف يفكر الرجل في بناء الشرق الأوسط الجديد لأن حل خلافات الماضي لا يكفي على حد قوله. ولكن أي شرق أوسط يتعامل معه فكر شمعون بيريز؟ من الناحية التاريخية هو منطقة جذبت أفكار الأنبياء والحالمين والرحالة والمغامرين والمحاربين والحكام، وبذلك كان الشرق الأوسط مركزا للتجارة وبؤرة لحياة الناس الروحية، وميدانا للتنافس الأجنبي من أيام الإغريق والرومان والصليبيين. وحتى بعد انحسار الموجة الاستعمارية بعد الحرب العالمية الثانية ازداد تورط الغرب في أحداثه بسبب مخزون البترول الموجود تحت سطح الأرض. ومن ناحية عدم استقراره، فاستطالة أمد الصراع العربي الإسرائيلي أدت إلى سباق التسلح مبددا القسم الأكبر من موارد المنطقة إلى حد تجاوز القدرات الاقتصادية والاجتماعية لبلدانه فساد البؤس والفقر، ولجأ الكثيرون تحت مشاعر الإحباط إلى غيبيات العالم الآخر غارقين في الأصولية الدينية التي تجذب أنظار أكثر من مليار مسلم من أرجاء العالم والأصولية الآن هي أخطر ما يهدد استقرار المنطقة.

أصولية .. أم مفاهيم أمنية؟

وإن كان خطر الأصولية يدعو شمعون بيريز إلى أن يقدم نفسه كرجل سلام، فإن تغير المفاهيم الأمنية يعزز هذا الاتجاه عنده، فقد برزت عدة حقائق في ظل الانتصارات العسكرية لإسرائيل في الحروب العديدة مع العرب، فليس هناك أمل في تحقيق النصر الكلي، فلا تحقق ميزان القوى الإقليمي بين الأطراف ولا ميزان القوى العالمي أدى إلى تحقيق الأغراض الكاملة، ولذلك فالحرب أداة عقيم لحل الخلافات لا ينجم عنها إلا المزيد من المشاكل الأمنية موسعة الفجوة لبلوغ السلام، ثم يبدو أن زمن الحرب الشاملة قد ولى إلى غير رجعة فكل من الطرفين يستطيع تدمير الآخر ولكن يستحيل عليه الانتصار على هذا الأخر ثم يضاف إلى ذلك القوة التدميرية الهائلة لعائلات الأسلحة الحديثة والتنامي المطرد للتكاليف المالية للأمن وتطور شبكة الاتصالات في عصر الفضاء، ثم يبدو واضحا أن المدرسة التقليدية في الدفاع عاجزة اليوم عن تقديم حل يوفق بين الواقع الجغرافي والخطر التكنولوجي في ظل تطوير القذائف الصاروخية بعيدة المدى، فتضاءلت قيمة الموانع الطبيعية الاستراتيجية، بل إن الصواريخ المضادة للصواريخ - ويقصد هنا الصاروخ باتريوت الأمريكي والصاروخ هنز أو آرو الإسرائيلي - أدوات عقيم ومكلفة، وبذلك تآكل مفهوم "العمق الاستراتيجي " أو الاعتبار الجغرافي أمام الخطر الصاروخي، وإلى جانب كل ذلك فإن انتشار الأسلحة ذات التدمير الشامل التي لا تفرق بين المواجهة والمؤخرة أضافت بعدا جديدا إلى التغيير الذي طرأ على المفاهيم التقليدية للحروب. ويقول بيريز: "كل هذا أدى إلى حتمية عقد معاهدات ثنائية تغطي كل أبعاد الصواريخ والوقوف ضد الخطر النووي والبيولوجي والكيماوي والحد من الأسلحة، فمفتاح الحفاظ على نظام أمني إقليمي يكمن في السياسة والاقتصاد".

والشيء الغريب حقيقة أنه في الوقت الذي يركز فيه بيريز على ما سبق نجد أن ميزانية الدفاع الإسرائيلية كانت في عام 1993 حوالي 7.37 بليون دولار، كما ورد في الميزان العسكري 93/ 1994 لمعهد الدراسات الاستراتيجية بلندن، والذي ينص على أنه "نعتقد أن إسرائيل لديها مائة رأس ذري ووسائل إطلاقها، مثل: الصاروخ جيرسكو الإسرائيلي، ولا نسي الأمريكي. وترفض في نفس الوقت التصديق على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية وتعقد منذ أسابيع صفقة 50 طائرة إف - 15 البعيدة المدى مع واشنطن"... يعني يتحدث رجل السلام وفي يده اليمنى التفوق في الأسلحة التقليدية وفي يده اليسرى الاحتكار النووي وتحت المائدة الأسلحة البيولوجية والكيماوية، وبذلك يصبح كالحمامة التي تطير وهي محملة بالقنابل والصواريخ، بدلا من أغصان الزيتون. وعلى الرغم من أن حزب العمل - كما ترى - لم يتنازل عن شيء اللهم إلا حديثه المستمر عن السلام فإن شمعون بيريز يغمز "الليكود" الذي يرفض حتى المتغيرات الشكلية تلك ويصف هذا الموقف المعارض بأنه مجرد بلاغة كلامية. أليس إسحاق شامير هو الذي رأس الوفد الإسرائيلي إلى مؤتمر مدريد عام 1991 على الرغم من تصريحاته المتكررة بأنه لن يجلس أبدا مع أي منظمة "إرهابية" حول مائدة المفاوضات؟ أليس هو - وسياسته الجامدة - الذي خلق الانتفاضة التي عرضت الجيش إلى مصاعب غير مسبوقة؟ ثم هل يريد الليكود أن تستمر إسرائيل في خوض الحرب الدائمة التي فرضت عليها إدارة حكومتين: حكومة قمعية عسكرية تحكم العرب في مناطق تشوه صورة إسرائيل، وحكومة ديمقراطية تحكم شعب إسرائيل وتتأثر في نفس الوقت بسلبيات الحكومة العسكرية؟.

ننتهي من ذلك إلى أن الحرب لا تحل المشاكل والسلام هو الحل، ولكن ليس على أساس الحلول المنفردة أو الثنائية أو المتعددة بل على أساس التنظيم الإقليمي. لخلق أسرة إقليمية ذات سوق مشتركة وهيئات مركزية مختارة على غرار الجماعة الأوربية معتمدا على ركائز أربع: الاستقرار السياسي، الاقتصاد، الأمن القومي، والديمقراطية.

* الركيزة الأولى وهي تحقيق الاستقرار السياسي الذي لا يتحقق إلا بمقاومة أسبابه وهي الأصولية ويجب التصدي لها عن طريق هيكل إقليمي منظم يوفر النمو الاقتصادي والاجتماعي لتبريد رياح الثورة الساخنة.

* الركيزة الثانية وهي الاقتصاد وذلك من خلال منظمة إقليمية منوعة قومية، ومنظمة ري مشتركة تكبح زحف الصحراء وإنتاج ما يكفي من غذاء وتوفير فرص العمل للسكان.

* الركيزة الثالثة وهي ركيزة الأمن القومي وتعتمد على نظام إقليمي للرقابة والرصد للسيطرة على التسلح ومنع طرف ما من الضغط على الزر المهلك.

* الركيزة الرابعة وهي انتشار الديمقراطية فالأمم الديمقراطية لا تحارب بعضها البعض والأنظمة الشمولية تثير الاحتجاج وتسارع إلى قمعه.

في مجال الأمن الإقليمي تحدث بيريز عن نمطين يتمحور حولهما، أولهما هو محور الأمة - الأمة، وثانيهما هو محور الأمة - المنطقة، والإطار الإقليمي هو وحده القادر على تحقيق الأمن. وتحدث في نفس الوقت عن الفرق بين الأمن الإقليمي والأمن الجماعي الذي حاول الحلفاء تحقيقه بعد الحرب العالمية الأولى، والذي فشل أمام النازية، لأنهم افترضوا أن الكل سوف يبادر بالعمل ضد المعتدي ويمكن تلافي هذا الفشل بأن يحقق النظام الإقليمي أدوارا ثلاثة: منع المباغتة، الرقابة على التحركات العسكرية مع تقديم تقارير الرقابة إلى الدول العظمى الصديقة، وأخيرا توافر قوات إقليمية لاستخدامها في حالة أي عدوان... ويقول: "إن الوقت لم يحن بعد لنفكك أسلحتنا ونسرح جنودنا لأننا لسنا من السذاجة حتى نفعل ذلك الآن".

الاقتصاد الإقليمي

ثم نأتي إلى الجزء الأهم من الكتاب وهو الاقتصاد الإقليمي، والانتقال من اقتصاد الحرب إلى اقتصاد لسلام، وعلى دول المنطقة تنفيذ المشاركة الاقتصادية وبناء السوق المشتركة من الآن دون انتظار الانتهاء من الحلول السياسية، والتركيز على الانتقال من السباق في مجال استراتيجية التفوق العسكري إلى استراتيجية التعاون الاقتصادي وإقامة جماعة على نسق الجماعة الأوربية، وخطة تنفيذ ذلك ثلاثية الأضلاع:

الضلع الأول مشاريع ثنائية أو متعددة القومية (معهد أبحاث الصحراء - مشاريع تحلية المياه - التعاون في الزراعة كما يحدث مع مصر). الضلع الثاني تقوم به "كونسورتيومات - Con Sortiums دولية برساميل هائلة (قناة البحر الأحمر والبحر الميت - مشروعات سياحية - موانئ مشتركة - تطوير الطاقة الكهرومائية).

الضلع الثالث ويهدف إلى تخطي الانغلاق القومي إلى التطور فوق القومي ببناء أربعة أحزمة: نزع السلاح، الحرب على الصحراء، التكنولوجيا الحيوية والمياه، هياكل النقل والاتصالات والسياحة لبناء الأسواق المشتركة. ثم يورد في صفحات كتابه أمثلة لبعض المشاريع المشتركة:

* ففي مجال خطوط السكك الحديدية: خط مصر- بورسعيد - حيفا - بيروت. خط بضائع من حيفا إلى الأردن وسوريا. خطوط لخدمة الحجاج والسياحة.

* وفي مجال الطرق: شمال إفريقيا إلى أوربا عبر مصر - إسرائيل - لبنان - سوريا - تركيا. شمال إفريقيا إلى العراق والخليج. غزة - الخليل - القدس - عمان - حيفا - المفرق أو حيفا - دمشق.

* مناطق حرة: في موانئ اللاذقية، بيروت، حيفا أو أسدود، غزة، الإسكندرية، أو بورسعيد على البحر المتوسط. جدة، إيلات، العقبة على البحر الأحمر. تخضع إدارتها في الفترة الأولى لبلدانها، وتخضع إدارتها بعد ذلك للإدارة المركزية الخاصة بالمجتمع الإقليمي.

* القنوات: قناة البحر الأحمر - البحر الميت. قناة البحر المتوسط - البحر الميت.

* أنابيب المياه (مشروع أنابيب السلام): أنبوب شرقي تركيا - سوريا - الأردن - الإمارات - عمان. أنبوب غربي تركيا - سوريا - إسرائيل - الضفة الغربية - السعودية.

* ويتحدث بعد ذلك عن موانئ مشتركة ومشروعات السياحة والمطارات وتحلية المياه وأنابيب النفط وتوليد الكهرباء وبرك لزراعة الأسماك. وحينما يتحدث عن المياه يستبعد الحروب من أجل مواجهة مشكلتها، والمياه في الشرق الأوسط ملك للمنطقة مما يستدعي قيام هيئة إقليمية تشارك فيها كل الأطراف متجاوزة حدود المصالح الوطنية لتكون في خدمة الجميع.

السلام ومخيلة بيريز

وهناك تفاصيل أخرى كثيرة ومهمة ولكننا نعتقد أننا أعطينا بما قدمناه فكرة عامة وواضحة عن " الشرق الأوسط الجديد " في مخيلة شمعون بيريز، ومن المفيد أن نختم قراءتنا للكتاب بتحديد الاتجاهات الاستراتيجية الخطيرة التي تحدد إطاره:

1 - فهو يريد أن ينقلنا من النظام العربي القومي الذي نسعى إلى تحقيقه إلى نظام إقليمي تدخل فيه إسرائيل وتركيا، وربما إيران بعد ذلك، والمحاولة قديمة بدأت في أوائل الخمسينيات بمحاولة إدخال العرب في أحلاف عسكرية أبرزها حلف بغداد لمواجهة عدو الولايات المتحدة وقتئذ وهو الاتحاد السوفييتي، ولكن رفضت مصر والسعودية وسوريا هذا الاتجاه على أساس أن الاتحاد السوفييتي لا يشكل عدوا لنا ولكن إسرائيل هي التي تشكل العدو.

2 - في ظل وجود العدو السوفييتي كانت الوسيلة لفرض النظام الإقليمي والابتعاد بنا عن النظام القومي العربي وسيلة عسكرية، ولكن وبعد انتهاء الحرب الباردة أصبحت الوسيلة اقتصادية، فالغرض واحد ولكن اختلفت الوسائل.

3 - يقفز بيريز على المشاكل السياسية فهي ليست سبب عدم الاستقرار، ولكن المدخل الاقتصادي للتعاون الإقليمي هو الذي يعالج كل الأسباب التي تهدد المنطقة وتجعل في نفس الوقت من الأصولية خطرا يحفز على النظام الإقليمي أي أصبح العدو واحدا بيننا وبينهم وهو الأصولية.

4 - يرسم المؤلف مشروعا كاملا للتطبيع الاقتصادي متجاهلا التطبيع السياسي، وهنا نتساءل من الذي يسبق الآخر: التطبيع السياسي بإزالة الأسباب الحقيقية للنزاع والصراع أم التطبيع الاقتصادي فوق الرمال المتحركة نتيجة لوجود قنابل سياسية متفجرة من الحقوق الضائعة والحدود المخترقة والأراضي المحتلة والشعب الفلسطيني المطرود والأماكن المقدسة الموضوعة تحت الحكم العسكري؟! من يسبق الآخر؟

5 - يتحدث الكتاب حديثا معقولا في المسائل التي تتعلق بالدفاع، وينتهي إلى حلول عرجاء من طرف واحد ترمي إلى نزع أي إمكانات لدى العرب لخوض حروب مستقبلية، والأخطر من ذلك حديثه عن ترتيبات "منع طرف ما من الضغط على الزر المهلك "، أي أنه يعني احتفاظ إسرائيل بالاحتكار النووي في مواجهة عدم تملك الجانب العربي لأي مقدرة نووية.

6 - ويطالب بيريز بعد ذلك بالشراكة في التنمية على أساس أن يأخذ ولا يعطي، فنحن الذين لدينا رأس المال والعمالة والمياه والأرض والطاقة والمواد الخام والسوق، وبالرغم من ذلك فإنه يطالب بشراكة دون إزالة العوائق السياسية الناجمة عن الاستيلاء على الحقوق تحت التهديد بتوازن قوى تقليدي ونووي في صالحه، وليس معنى هذا إلا الهيمنة. ولكن شمعون بيريز حاول بطرح مشروعه. وهذا في حد ذاته يعتبر تحديا للمثقفين العرب ليكون لهم مشروعاتهم لبناء "العمل العربي الواحد" فالحوار الآن حوار مشروعات محسوبة، لأن البلاغة والشعر والكلام المرسل لا يبني مستقبل التحديات الذي نواجهه ونحن على أعتاب القرن الواحد والعشرين.

 

أمين هويدي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الكتاب