مصير العالم الثالث خليل كلفت

مصير العالم الثالث

كتاب الشهر
المؤلف: شوما كوترد
ميشيل إسون

الحساب الختامي مثير للذهول. فسكان الشمال أو الدول الأغنى في العالم الذين تصل نسبتهم إلى 25% يستهلكون 70% من الإنتاج العالمي للطاقة و75% من المعادن و83% من مجمل الإنتاج العالمي. وقد ارتفع مستوى الفارق في الدخل بين الخمس الأغنى والخمس الأفقر من سكان العالم فأصبح بنسبة واحد إلى 95.

في الثمانينيات كان العالم الثالث ينمو بسرعة أقل من البلدان الصناعية بل هناك مناطق بأسرها كفت عن النمو حيث تراجع نصيب الفرد من الناتج. وفي بداية التسعينيات ظل الدخل الحقيقي للفرد راكدا في مجموع بلدان الجنوب (العالم الثالث)، بل بلغ هذا التراجع 6.4% في سنتين بالنسبة للشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

وباختصار توقف اللحاق والفجوة تتسع طوال السنوات العشر الأخيرة.

ويلخص المؤلفان النتيجة الاجتماعية الجوهرية لعقود طويلة من التنمية في العالم الثالث:

البلدان التي كانت متخلفة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ثم حققت للغالبية الساحقة من سكانها العيش في شروط لائقة من ناحية التغذية والصحة والتعليم، هي بلدان تعد على أصابع اليدين.

في آسيا: الصين الشعبية، وتايوان، وكوريا الجنوبية (كما يمكن إضافة هون كونج ، وسنغافورة، وجزيرة موريشيوس).

في أمريكا اللاتينية: كوستاريكا، و( بصورة مشكوك فيها أكثر فأكثر كوبا).

في إفريقيا: ولا بلد واحد.

ويتساءل المؤلفان عما هو مشترك في السياسات المتبعة في هذه البلدان المعدودة، والذي من شأنه تفسير نجاحها. ويخرجان بالاستنتاج الرئيسي للكتاب بكامله: " هناك سمتان على وجه الخصوص: هيكل اجتماعي وزراعي يقوم على المساواة نسبيا، حكومات فعالة ويقظة إزاء الاندماج في السوق العالمية. وحتى اليابان ، آخر بلد يدخل نادي القوى الصناعية العظمى خلال هذا القرن ، حققت ذلك وفقا لهذا النموذج ".

مفهوم وواقع العالم الثالث

يبدأ المؤلفان الفصل الأول بالتمييز بين تيارين فكريين بخصوص مشكلات التنمية.

التيار الأولى: بنيوي، كينزي، ماركسي، عالم- ثالثي، ويصف الاقتصاد الرأسمالي العالمي باعتباره بنية هيراركية تتألف من مركز (خاصة الولايات المتحدة ، وأوربا الغربية، واليابان) ومحيط ( إفريقيا، وأمريكا اللاتينية ، وآسيا باستثناء الصين واليابان).

والتيار الثاني: ليبرالي المنحى ، ولا يرى علاقة تبعية أو هيراركية بين الشمال والجنوب ، بل ينطلق من النظرة الخاصة باقتصاد عالمي موحد لا يملك فيه كل بلد، وفقا للنظرية التي صاغها ( ديفيد ريكاردو) لا بداية القرن التاسع عشر، إلا أن يستغل مزاياه النسبية " لكي يربح.

وبرغم التباينات الضخمة بين بلدان العالم الثالث فإن هناك سمات مشتركة أكيدة تشكل الوحدة وسط هذا التنوع:

  • نمو سريع للسكان.
  • نسبة مرتفعة للسكان العاملين بالزراعة: في المتوسط 30% في الجنوب مقابل 7% في الشمال.
  • نقص توظيف قسم ضخم من السكان العاملين، ويرجع ذلك إلى بقاء العلاقات العتيقة في الزراعة كما يرجع إلى الهجرة الجماعية الريفية الناشئة عن انهيارها. ويصب هذا في تضخم فوضوي للمدن وكذلك قي " قطاع غير رسمي" مديني ضخم وكذلك أيضا في ضعف الحافز إلى التجديد التكنولوجي والاجتماعي.
  • ضخامة التفاوتات الاجتماعية: إلى 10% الأكثر غنى من السكان العاملين يتلقون حوالي 25% من الدخل الإجمالي في البلدان المتقدمة، أما في البلدان النامية فإنهم يحتكرون 44% في ساحل العاج، و37% في الفلبين، و40% في المكسيك، و50% في البرازيل.
  • ضعف القدرة على التجديد التكنولوجي: وبالتالي تصبح كل بلدان العالم الثالث تقريبا تابعة للشركات عبر القومية، ويتركز 97% من الإنفاق العالمي على تنمية الأبحاث في البلدان المتقدمة.
  • تضخم الدولة.

من أين جاء التخلف؟

فما منشأ هذا التخلف؟ وهل يرجع إلى أسباب داخلية أو خارجية؟.

يجيب المؤلفان كما يلي: " تجد علاقات التبعية منشأها في الوجود المتزامن، في سوق عالمية واحدة، لأمم تطورت داخلها علاقات الإنتاج الرأسمالية بصورة غير متساوية. وهكذا يمكن تعريف " التخلف" على أنه الصدام بين قانون المنافسة الذي ينظم السوق العالمية، ومجتمعات مجردة من التماسك الداخلي الوظيفي لهذا القانون". وبالتالي فإن جذور التخلص " لا هي داخلية ولا هي خارجية، بل هي داخليه وخارجية.. دوما ".

والحقيقة أن العالم الثالث ينقسم إلى ثلاثة عوالم ثالثه:

1 - اقتصاد الاستنزاف قبل الصناعي الذي يسود بلدان إفريقيا جنوب الصحراء ( باستثناءات ) بالإضافة إلى بلدان أخرى مثل هايهامتيورما وبنجلاديش.

2 - الاقتصاد الأولى التصديري، حيث الانتشار الحاسم كيفيا لعلاقات الإنتاج الرأسمالية في قطاعات مهمة وخاصة تصديرية، وتنتمي إليه يلدان بترولية مثل نيجيريا والجزائر والكونغو ومصر وأندونيسيا، وبرغم أن السبعينيات شهدت معدلات نمو مرتفعة أحيانا في هذه البلدان فإن تراجع الثمانينيات كان عنيفا ( مثلا ، تراجع معدل نمو الصناعة الأندونيسية من 11.9% سنويا بين 1965 و 1980 إلى 5% منذ ذلك الحين). وفي بلدان أخرى تنتمي إلى هذا الاقتصاد ( مثلا، بوليفيا، المغرب، سوريا، كان النمو أقل سرعة في السبعينيات وبطيئا جدا وحتى سلبيا منذ الثمانينيات.

3 - البلدان الصناعية الجديدة أو البلدان شبه الصناعية، كما يفضل المؤلفان تسميتها: وهناك في المحل الأول التنانين أو النمور الآسيوية الأربعة لكن أيضا المكسيك والبرازيل وإن كان هذان البلدان يتجهان إلى الهبوط في فئة البلدان الثقيلة الديون، كما يمكن إدراج الأرجنتين وتركيا وخاصة الهند في هذه الفئة .

وتتميز هذه البلدان بامتلاك برجوازية صناعية تقف على أقدامها وطبقة عاملة تشغل مكانا مركزيا في النضالات الاجتماعية والسياسية ، وكذلك بنمو سوق داخلية حقيقية للمنتجات المصنعة لا ترتكز فقط على الطبقات السائدة بل كذلك على شرائح متوسطة مهمة.

وبرغم هذا التنوع وبرغم الواجهة الدعائية التي تمثلها النمور الأربعة ، هناك ما يشكل وحدة هذه البلدان . فالأمر الجوهري هو أن " عمليات التصنع الجارية في عدد من هذه البلدان هي واقع فعلي غير أن الأمر يتعلق، باستثناءات قليلة نادرة ، بتصنيع ناقص ، ومشوه، وتابع ، وهش ، ولم يرتكز على نمو السوق الداخلية وإشباع الحاجات الشعبية ".

والنتيجة المنطقية والتاريخية هي أن بلدان العالم الثالث، بوجه عام ، دخلت مع بداية الثمانينيات مرحلة جديدة ، هي مرحلة التراجع الاجتماعي: أصبح على عدد من بلدان المحيط، التي ترزح تحت عبء الديون ، أن توقف نموها وأن تخصص جانبا مهما من مواردها لدفع فوائد ديونها .

السكان: نعمة أم نقمة ؟

يمكن القول إن العالم يشهد اليوم مشكلتين سكانيتين لكل منهما خصائصها وأخطارها النوعية.

وفي هذا العالم المنقسم إلى عالم البلدان الغنية أو المتقدمة أو المركز أو الشمال ، وعالم البلدان النامية أو المتخلفة أو المحيط أو الجنوب ( أي العالم الثالث)، نجد لكل عالم منهما المشكلة السكانية الخاصة به.

وباختصار فهناك ركود سكاني في الشمال، وانفجار سكاني في الجنوب.

وقد شهد التاريخ منذ بدايته في كل مكان وإلى اليوم نوعين من الركود السكاني أو تباطؤ النمو السكاني. فمنذ بداية التاريخ وحتى بداية العهد الرأسمالى ساد ركود سكاني كان محصلة الالتقاء بين معدل مواليد مرتفع ومعدل وفيات مرتفع. وفي المجتمع الرأسمالي الناضج كما في الشمال اليوم ( أو منذ عقود طويلة ) يسود ركود سكاني هو محصلة الالتقاء بين معدل مواليد منخفض ومعدل وفيات منخفض.

وبين هذين الركودين المختلفين نوعيا تمتد فترة، قد تصل إلى قرون، تتميز منطقيا وتاريخيا بانخفاض معدل الوفيات بفضل بعض التطورات الصحية والطبية لا البداية، ثم بفضل المزيد من التطور الاقتصادي والاجتماعي والصحي اللاحق. أما معدل المواليد فإنه يبقى على ارتفاعه على مر القرون إلى أن يبدأ الانخفاض التدريجي بفضل تطورات اقتصادية واجتماعية وعلمية وطبية بذاتها.

وبقدر ما يبقى معدل المواليد مرتفعا مع استمرار انخفاض معدل الوفيات، ومحصلتهما ارتفاع معدل النمو السكاني ونشوء هيكل عمري جديد يتميز بارتفاع نسبة الشباب والأطفال ، نكون أمام ظاهرة لا مفر منها: ظاهرة الانفجار السكاني.

أما التطور المنطقي اللاحق: استمرار انخفاض معدل المواليد مع استمرار انخفاض معدل الوفيات، بفضل تطورات تحديثية تاريخية، فإنه يتوقف على حدوث واكتمال ونضج هذه التطورات الأخيرة. وإذا كان هذا التطور قد حدث بالفعل في البلدان المتقدمة مؤديا إلى الركود السكاني الراهن في الشمال، فإن حدوثه واستمراره ونضجه واكتماله النهائي في الجنوب أشياء تتوقف في نهاية المطاف على استمرار أو انقطاع التطورات التاريخية في الجنوب. وإذا كانت بعض مناطق الجنوب قد صارت من الآن أوربية من الناحية الديموجرافية (الصين بالذات) فإن الانفجار السكاني هو الواقع الفعلي إلى الآن ، وإلى مستقبل طويل ، في أغلب المناطق الأكثر نموذجية في تمثيل العالم الثالث.

وإذا كانت مشكلة الركود السكاني في الشمال تنطوي على مشاكل اقتصادية ضخمة وثيقة الصلة بالشيخوخة الديموجرافية في المدى القريب والمتوسط، وعلى مشاكل تتعلق بالبقاء ذاته في المدى البعيد، فإن مشكلة الانفجار السكاني تواجه العالم الثالث بمشاكل تتعلق بالاقتصاد وبالبقاء في المدى المباشر والقريب والمتوسط، إلى حد أن إفريقيا مرشحة لتدخل الضوابط المالتوسية وللتحول إلى قارة قليلة السكان نتيجة للمجاعات والحروب الأهلية.

ويرى المؤلفان أن الطريقة العقلانية تتمثل، بعيدا عن المالتوسية القديمة والجديدة، في إدراك وتقييم مدى واتجاهات العمليات الديموجرافية وتقدير آثارها الاقتصادية والاجتماعية واستخلاص نتائجها على الاقتصاد العالمي.

في أمريكا اللاتينية يعاني 14% من السكان الجوع برغم الكثافة السكانية المنخفضة والأراضي الواسعة القابلة للزراعة. ولاستثناء المكسيك وكوبا، حيث جرت إصلاحات فراعية عميقة، يبرز دور التركيز العقاري وراء هذا الرضع ( 1.3% من الملاك يملكون 6،71% من الأراضي الزراعية).

وفي آسيا نجاح أكيد ولكنه جزئي من خلال زراعة كثيفة في العمل ومقتصدة في رأس المال ومن خلال ثورة الأصناف الجديدة. الحبوب الغذائية ومكافحة الطفيليات وتحسين أساليب الري واستخدام الأسمدة.

أما إفريقيا فتمثل كارثة حقيقية حيث يعاني أكثر من 300 مليون إفريقي من أصل 650 مليونا سوء التغذية ( الفاو). ويتواصل تفاقم انعدام الأمن الغذائي ، كما أنه يمكن أن ينقلب إلى مجاعة في حالة الحرب الأهلية، كما كان الحال في الصومال..

فهل تشكل معونة التغذية أو معونة التنمية حلا؟ في الواقع، يرتفع باستمرار المبلغ الإجمالي المخصص لمعونة التنمية: من 14 مليار دولار في 1975، إلى 27 مليار في 1980، إلى 51 مليارا في 1988.

فإلى أين تذهب هذه الأموال؟ الواقع أن المعونة الدائمة تهم حكومات البلدان المانحة والمستفيدة أكثر مما تلبي مصالح السكان المعنيين بل هي ضارة بهم.

والمعونة الغذائية الدائمة تنافس المحاصيل المحلية وتنافس العادات الاستهلاكية لصالح الأغذية المستوردة من الغرب (وخاصة القمح)، وتقلص أسواق تصريف الزراع المحليين بسبب رخص المواد الغذائية المستوردة، ويؤدي هذا إلى هبوط الأسعار الزراعية الداخلية الأمر الذي يؤدي إلى تقليص الإنتاج المحلي وبالتالي تزايد المعونة والواردات.

الطريق الضيق إلى التصنيع

خلال قرابة ربع قرن بعد الحرب العالمية الثانية تضاعف الإنتاج الصناعي للفرد: 3 أضعاف في إفريقيا، 8، 3 في آسيا، 7، 2 في أمريكا اللاتينية، 2، 3 في أوربا، وأكثر من 98 ضعفا في اليابان.

وبرغم تباين مستويات الانطلاق والوصول، تجري عملية لحاق حقيقية فينمو نصيب العالم الثالث في الإنتاج العالمي كما في صادرات المنتجات المصنعة.

هكذا تغيرت صورة المحيط المتخصص في المواد الأولية (الزراعة والمناجم) والمركز الصناعي.

ويتعلق الفارق الرئيسي بنسبة صناعات التجهيزات ومعدات النقل أشد الإنتاج الصناعي (40% في المركز مقابل 25% في المحيط،، وبالمقابل يكون للصناعات الزراعية الغذائية وصناعات السلع التقليدية أو الوسيطة وزن أكثر أهمية في المحيط.

ويتضح اتساع نطاق التصنيع في المحيط من دافع أنه حيثما يحدث التصنيع هناك ينتج عن ذلك تقارب في هيكل الإنتاج الصناعي بين المركز والمحيط، ولكن هيكل صادرات المنتجات المصنعة هو الذي يحدد بدقة ملامح عملية التصنيع. وبرغم أن حصة هذه الصادرات تضاعفت من 26% إلى 53% بين 1965 و1989، إلا أن حصة السلع التجهيزية تطورت بسرعة. أقل من المجموع، كما أن تطورها تركز في عدد قليل جدا من بلدان العالم الثالث.

وفضلا عن ذلك أدى نمو صادرات النسيج إلى ظهور تخصص للجنوب على أساس هذه المرحلة التصنيعية ذات المحتوى التكنولوجي الهزيل وقد وصلت بلدان الجنوب إلى هذه النتائج من خلال شروط موضوعية متباينة واستراتيجيات اقتصادية مختلفة: الصناعات التصنيعية، إحلال الواردات ، التصنيع بتنمية الصادرات.

ويقف المؤلفان عند النموذج الكوري ( الجنوبي بالطبع ) ويخرجان بدروس مهمة قد تصدم أولئك الذين يعولون عليه والذين لا يدركون جيدا أن النموذج الكوري يتميز بشروط وخصوصيات تاريخية واجتماعية لا تتفق مع تصوراتهم عنه أو بالأخص مع مصالحهم المباشرة: دور المعونة الخارجية الضخمة ، ودور الإصلاح الزراعي الجذري الذي فرضته قوات الاحتلال الأمريكية هناك لصد الخطر الشيوعي، والدور الكبير للرأسمالية المحلية. ويرفض المؤلفان أسطورة أن كوريا لم تكن سوى قاعدة تصدير لأمريكا واليابان والشركات المتعددة الجنسيات، دور واقع أن تفاوت الدخول في كوريا الجنوبية أقل من بقية بلدان العالم الثالث باستثناء الصين أساسا، واقع أن الاقتصاد الكوري كان اقتصادا مخططا إلى حد بعيد ولم يكن اقتصادا ليبراليا على الأقل خلال مرحلة النهوض والهجوم على السوق العالمية.

وبالتالي فإن الطريق الكوري ليس طريقا ملكيا يسهل لبلدان العالم الثالث أن تسلكه من خلال مجرد تطبيق تدابير ليبرالية، وذلك لأسباب تاريخية واجتماعية وإيكولوجية.

وأخيرا فليس هناك نموذج عام للعالم الثالث كله اليوم. وإذا كانت بلدان النمط قبل الصناعي- حتى البترولية منها بسبب هبوط أسعار البترول - تجد نفسها عاجزة أمام مهمة إعادة انتشار جهازها الإنتاجي صوب صناعات أخرى وإذا كانت الاقتصادات الأولية التصديرية تتعرض لدفع قوي من جانب البنك الدولي إلى التخلي عن طموحاتها في التصنيع وإلى التركيز على مزاياها النسبية التقليدية، فإن البلدان شبه الصناعية تجد نفسها في مواجهة مشكلة خاصة بالتماسك الاجتماعي والسياسي ( كوريا الجنوبية، البرازيل، المكسيك).

النماذج الاجتماعية

لا يشهد العالم الثالث انفجار سكانيا فقط بل يشهد كذلك انفجارا سرطانيا في نمو سكان المدن والمدن الضخمة (الميجابولات) Megapoles. وفي العقد الأخير كان نمو السكان بمعدل 2% ونمو سكان المدن " بمعدل 6.9% سنويا. وفي 1965 كان 24% من سكان البلدان النامية من سكان المدن فأصبحوا 41% في 1988.

ولا تصب هذه الهجرة الريفية الضخمة في عملية تحديث حقيقية بل تقذف بها التكنولوجيات المستوردة في صناعات البلدان النامية إلى النمو الانفجاري للبطالة المدنية وتهديد الاستقرار الاجتماعي.

كما يصب كل هذا في انخفاض الأجور ( الذي يعني أيضا انخفاض الإنتاجية) وتدهور مستويات المعيشة والعمل العرضي الدائم والواسع النطاق وفيما يسمى بالقطاع غير الرسمي، الأمر الذي يؤدي في تحولات ضخمة في سوق العمل وفي تكوين الطبقات العاملة والشعبية.

وفي ظل سيطرة نخبة صغيرة، كثيرا ما تكون بيروقراطية حكومية أو عسكرية، على الاقتصاد، وفي ظل دولة كلية الوجود حيث ينبغي ألا تتدخل وعاجزة حيث ينبغي أن تفعل، وفي ظل تركيز متعاظم للموارد والسلطة، لا تؤدي استراتيجيات وسياسات التنمية إلى إزالة العراقيل من طريقها، بل إلى إعادة إنتاج المنطق الداخلي للتخلف

اندماج الثمانينيات

تبقى مسألة أساسية هي تلك المتعلقة باندماج بلدان العالم الثالث في الاقتصاد العالمي. وفي بداية الثمانينيات ساد تطلع متفائل إلى " تقسيم دولي جديد للعمل " والنتيجة في نهاية الثمانينيات هي ظاهر، المديونية الثقيلة للبلدان المرشحة للتنمية إلى يتمثل أحد مظاهرها في انقلاب صافي التحويل، ( القروض الجديدة مطروحا منها الفوائد والسداد) ليصبح إيجابيا لصالح البلدان الغربية ، أي أن العالم الثالث، بما في ذلك إفريقيا، هو الذي "يساعد" اليوم البلدان الغنية ، بما يؤدي إليه من تراجع كل تصنيع طموح أو تنمية حقيقية . ومن هذا الباب يدخل التكيف الهيكلي برعاية منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والمقصود: خفض قيمة العملة، إلغاء تدابير الحماية الجمركية، تقليص الدولة، أي تقليص الإنفاق العام والقطاع العام والدعم. غير أن إدراك واقع الاقتصاد العالمي باعتباره اقتصادا هيراركيا يؤدي إلى استنتاج لا مفر منه: التكيف الهيكلي لا يقدم إمكانا حقيقيا للتنمية.

وهكذا فبرغم نجاح عدد ضيق من البلدان أو حتى أجزاء من بلدان، فإن العالم الثالث بمجمله يتجه أكثر فأكثر إلى التهميش من وجهة نظر مساهمته في الاقتصاد العالمي الذي أصبح يتميز بشكل ثلاثي الأقطاب حيث تنظم كل قمة من قمم "الثالوث " مناطق خاصة بها. وتتجه الولايات المتحدة إلى إعادة فتح القارة الأمريكية، بينما يصبح العملاق الياباني مركزا تنتظم حوله آسيا بصورة هيراركية، لا تتجه أوربا نحو المناطق ذات الأجور المنخفضة للجنوب والشرق.

أما بقية الجنس البشرى ، غالبيته في الواقع، فليست مدعوة إلى أن تلعب دورا فعالا، ومن وجهة النظر هذه يمكن حقا " إلغاء العالم الثالث " على حد تعبير مقال لمجلة " نيوزويك" بتاريخ 27 أبريل 1992.

 

خليل كلفت

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الكتاب