المثقفون فهمي جدعان

المثقفون

من بين المشاهد المثيرة التي تعرضها علينا اليوم تحولات العصر مشهد مهيب لقرن - أي لجيل - من الناس يدخل في النفق ولا يعلم أحد إن كان سيقدر له اجتيازه أم أنه سيعتبر بعد حين في عداد المفقودين أو المنقرضين. ذلك هو جيل حملة الثقافة، أو المثقفون. وقد مضى حين من الدهر كان هذا الجيل فيه محط الأنظار ومعقد الآمال. لكن الأمور الآن لم تعد مثلما كانت عليه في العقود السالفة. والثقافة التي كان هؤلاء المثقفون يبثونها قد طالها وطال أصحابها ما يؤذن بانتهاء الأمور إلى ما لا تحمد عقباه. وللمثقفين أنفسهم اليد الطولى في هذا الذي نشهده مما يجري أمام أعيننا.

وإذا كانت المهمة الإيجابية لهذه المقالة "نقدية" وأنها لن تحمل قدرا كبيرا من "المجاملة" ومن الإعجاب بالمثقفين، فإن قصد الحق يوجب أن نقر ابتداء بأنها لن تذهب إلى حدود الزعم أنه لا جدوى من المثقفين وأن علينا أن نصنع بهم ما أراد أفلاطون أن يصنعه بالشعراء. فالحقيقة هي أن العلامة الفارقة التي تجعل من مجتمع ما مجتمعا "مدنيا" أو "متمدنا" تتمثل في مدى غزو "الوعي" لهذا المجتمع وانتشاره فيه. والوعي تنتجه الثقافة والخبرة. والمثقف هو الذي ينشط من أجل تكوين الوعي وتأسيسه والتقدم به في حقل الفعل البشري. فليس "الفعل الثقافي" مجرد "تركيب على مستوى الوعي" وإنما هو أيضا فعل بالغ محضر مؤسس هاد. وذلك بشرط صريح جلي قاطع هو أن يكون هذا الفعل متوخيا للنزاهة والصدق والحقيقة حتى حين يكون ذا دلالات ومقاصد أيديولوجية بينة. أما وظيفة المثقف الفاعل على مستوى الوعي فتحددها المرحلة الوضعية التاريخية التي يجتازها المجتمع وتحكمها الحاجات الأساسية التي تفرضها هذه المرحلة وبقدر ما يستطيع المثقفون تبين وظيفتهم الحقيقية في هذه المرحلة أو تلك، وبقدر ما يكونون أمناء على هذه الوظيفة، وبقدر ما يحالفهم التوفيق في الإدراك وفي الرؤية وفي البصيرة وفي اختيار الوسائل والأدوات الناجعة في إنفاذ مهماتهم وفي تحديد هذه المهمات ورعايتها وصونها، فإنهم يكونون جديرين بصنعتهم مستحقين لاعتراف المجتمع بهم وإقراره بالحاجة إليهم وبضرورة رعايتهم ودفع الأذى عنهم. ويدخل في هذا كله أنه ليس من مهمة المثقف، صانع الوعي وحارسه وراعيه، أن يتحول بالضرورة إلى "مناضل حزبي" أو إلى "مثقف جماعي"، حسب تعبير غرامشي، فذلك مما يضعف من بصيرته ومن قدرته على النظر الحصيف وعلى الرؤية الشاملة الواضحة خارج الإطار الضيق المغلق للحزب، وإن كان من الطبيعي تماما أنه قد يبدي شكلا من أشكال العطف أو التعاطف أو الميل أو الانتصار لهذا التيار أو ذاك من تيارات العمل الاجتماعي أو السياسي التي تتلاطم وتتقابل في أحشاء المجتمع وثناياه، كما أنه قد لا يجد لعمله "الثقافي" معنى إلا إن هو حوله إلى نضال اجتماعي مشخص، على نحو ما يوجب سارتر.

لكن الحقيقة هي أن ماهية المثقف تكمن في رسالته النوعية التي بها يتفرد أصلا وبفضلها فقط يكون ما هو عليه، أي مثقفا، أعني إنتاج الوعي في المجتمع في شروط نزيهة تجنبه مخاطر الوقوع ضحية انحرافات "حس التوجه" أو فوضى الإدراك أو ابتسار الأحكام المجافية للبراءة والسداد مما يمكن أن توقع فيه المواقف والرؤى الحزبية الاختزالية.

بؤس الموالي

ليس بالأمر المبتدع أن نلاحظ أن نجوم المثقف العربي الحديث قد ارتبط ارتباطا وثيقا بصدمة الالتقاء بالغرب وبوعي للذات وجه إلى آمر ردم الهوة التي باعدت بين عالم العرب والتمدن الغربي، وإلى طلب إدراك هذا التمدن الحائز على المعرفة والتقنية والقوة والسلطة. ومع أن سبل مثقفي القرن التاسع عشر قد تباينت بأقدار متفاوتة، إلا أن التحالف الذي دعا خير الدين التونسي إلى عقده بين رجال السياسة وعلماء الدين كان علامة فارقة في هذه الطريق، والتعديل الجوهري الذي أفضت إليه جملة التطورات في الأجيال التالية لجيل خير الدين والطهطاوي تمثل في أن "العلماء الدنيويين"، أي "المثقفين المحدثين"، قد تقدموا الصفوف ليحتلوا، إلى جانب العلماء الدينيين مكانا مرموقا في الشبكة الثقافية الاجتماعية، وليمهدوا لصوغ علاقات جديدة ليست قائمة بالضرورة على هذا التحالف الذي تمناه خير الدين. لكن الجموع جميعا: أهل الدين الجدد - اتباعيين وابتداعيين - والمثقفين الدنيويين، وأهل السياسة بالطبيعة والطبع، اتفقت على أن تصل الثقافي بالسياسي، وعلى الاعتقاد الراسخ بأن الوظيفة الثقافية ينبغي أن تلتحم بالفعل السياسي. وكان معنى ذلك - ولا يزال - أن الدولة هي قطب الرحى في المسألة وفي المشكل. وهكذا علق المثقفون أبصارهم وآمالهم بالدولة وذهبوا إلى أن كل شيء ينبغي أن يمر بها، فهونوا من شأن كل ما هو غير سياسي وألقوا عصيهم على باب الدولة، وكان حالهم كحال العقلانيين منهم الذين - بتعلقهم المتفرد بالمعرفي - سجنوا الإنسان في نظام العقل المغلق وهمسوا القطاعات الانثروبولوجية الأخرى فيه فتحول إلى كائن ضحل قد تم اختزاله في التعقل الموضوعي وفي العقلانية الذرائعية. ومثلما أفلتت كلية الإنسان من أيدي العقلانيين أفلتت هذه الكلية من أيدي المثقفين السياسيين. وحين أخفقت المشاريع السياسية الكبرى أخفق معها مثقفوها وتحولوا إلى أدوات طيعة في أيدي النظم السياسية التي كتب لها البقاء برغم كل شيء، ودخلت كثرتهم الغالبة في "الولاء" لأرباب هذه النظم. وليس ههنا موضع تقصي الدواعي والأسباب التي دفعت بالمثقفين إلى التنازل عن مسوغات وجودهم الأصلية وإلى هجر نضالاتهم القديمة ومثلهم الجميلة - فهي دقيقة ومعقدة وتحتاج إلى بحث من نوع أكاديمي خاص - لكن الظاهرة ماثلة للعيان تماما وهي تقدم لنا مشهدا بائسا لمثقفين أصبحت مهمتهم صوغ البيانات السياسية الغربية وكتابة الخطابات الصارخة لجميع أنماط رجال الدولة بل الدفاع عن أعتى الأنظمة السياسية وأكثرها قمعا وجبروتا، والاحتماء بالسلطة لممارسة نزعات خفية عميقة في السلطة والسيطرة والتسلط، وتسويغ أنكد السياسات وأفسدها، وتوظيف الخبرة العلمية والثقافية الراقية من أجل تأسيس مرجعيات أيديولوجية رمزية تضفي على هذه النظم السياسية مشروعية قانونية ومنطقية وفلسفية محكمة متماسكة. ونحن نتبين في هذا المشهد أنماطا غريبة من المثقفين على رأسها تلك التي تمثل النزعة "الأبوية" الاستبدادية، باسم دولة الوحدة " القومية " أو باسم النضال الوطني والتصدي "للمؤامرة".

في هذا الإطار مثلا يدعو مثقف قومي كنديم البيطار إلى "ممارسة العنف الثوري" بدون رحمة أو تردد أو مهادنة في حق "النقد الديمقراطي الشائع " الذي يتعلق بأمور "شكلية" في الديمقراطية كحرية الفكر والتنظيم والتعبير عن الرأي المستقل! وبالروح نفسها يرى مثقفون كثيرون آخرون في الديمقراطية مطلبا غير مسوغ حين يكون الأمر متعلقا بقائد أو زعيم مستبد قد بلغ درجة من الإلهام ومن الحس الخارق بالتاريخ وبالمصير وبالمستقبل! يعد معها معنى لديمقراطية "الشعب الجاهل" الذي لم يحن بعد أوان فطامه. فالحقيقة هي أن (الأب)، عندهم، لا يحتاج إلى مشورة الأبناء، وأن الراعي ليس في حاجة إلى أن يستمع إلى أصوات " الخراف " لكي يرى بوضوح وشفافية واستنارة ويتبين مصادر الخطر ومكامنه على "القطيع".وما على الأبناء والرعية إلا أن يضعوا كامل ثقتهم في (الأب البطل) ويتوكلوا على الله. فهو المخلص لا الديمقراطية ومتعلقاتها. وفضلا عن ذلك فإن ظروف (المؤامرة) - الداخلية أو الخارجية أو كلتيهما - لا تسمح بإغراق الشعب وشغله بالمهاترات الديمقراطية! والحكاية السائرة في كل مكان هي أن كل شيء سينهار إذا ما ذهب "الأب البطل" فلنتمسك به إلى الأبد! والحقيقة أن الأبناء والرعية لم يضنوا على آبائهم بهذا الذي طالبهم به المثقفون (بصراحة)، وذلك رغم جميع الرزايا والفجائع التي جعلت الولدان شيبا والتي تحدثت وتتحدث بها الركبان في كل بقاع المعمورة. أما المثقفون فلا يزالون يعقدون المؤتمرات "القومية العربية" وينشدون اللحن الغريب نفسه، وحين يتنبهون لموطن الحرج ولفداحة الخطب يكررون "الأزمة الديمقراطية" منوهين في الوقت نفسه بعمق (المؤامرة) وبقداسة (الأب المخلص)!.

خطابات ميتا - تاريخية

تعرض علينا الأدبيات الثقافية المعاصرة نماذج عدة للمثقف العربي. بيد أن المثقف الاتباعي التقليدي والمثقف الحداثي يقدمان الخطابين الرئيسيين اللذين يوجهان في طريقين متقابلين متباعدين متنافرين حركة الثقافة العربية المعاصرة. وتشاء المفارقة العجيبة أن يمثل كل من هذين الخطابين نمطا "ميتا - تاريخيا" صارخا. ذلك أنهما كليهما يقعان خارج دائرة التاريخ الحي المباشر، أي خارج الزمان العياني الحي. فالمثقف الاتباعي التقليدي يغض الطرف عن الحاضر، إنه يقفز فوقه ويذهب إلى حقل انسحب من الوجود الواقعي، حقل مجاوز للتاريخ عال عليه، وهو إذ يأبى الاعتراف بأية "شرعية" للمعطى الزماني الراهن يصبح في حالة "اغتراب" عن الواقع المباشر المشخص فيخسر المخزون المعرفي والاختباري الحضاري لهذا الواقع ويجهز بيديه على أسباب نمائه ودواعي قوته. أما المثقف الحداثي الذي جعل من الليبرالية أداته الدافعة وسر تطوره وارتقائه فإنه يقطع الروابط مع تاريخ مجتمعه أو أمته ويتوهم أنه يستطيع أن يبني أو أن يعيد البناء بدون الاعتراف بالمخزون التاريخي أو الحضاري لهذا المجتمع أو لهذه الأمة، لا بل إنه يقطع بأن منطق الحداثة يمكن أن يتحقق بضربة مباشرة خارج الامتداد التاريخي للكتلة الحضارية للأمة، وخارج تيار الشعور الذي يوجه الروح الاجتماعية. لا فرق بين الاتباعي والحداثي : فكلاهما ينتدب طرفا آخر للنطق باسمه وللتعبير عنه، فيقع الأول في الاغتراب ويتمثل الثاني القطيعة، ولا يصل أي منهما إلى نتيجة. والمشهد ماثل أمامنا منذ أكثر من قرن ؟ تقابل مرير لا يرحم بين قوى الطرفين، والحرب مستمرة واللغة سلاح الطرفين.

نقرأ الاتباعي التقليدي ونستمع إليه فنغيب عن الوجود، ونقرأ الحداثي أو نستمع إليه فلا يفهم معظمنا شيئا، يقارب الاتباعي قضايا ومقاصد الحداثي فيأخذه العصاب، ويحاول هذا أن يتمثل عالم الاتباعي فيصاب بالغثيان. الأول لا يعرف إلا أخبار الجيل الصالح والرجوع إلى مالك وأحمد وابن القيم وابن تيميه، والثاني لا يرى شيئا إلا من خلال هيجل أو ماركس أو فرويد أو غرامشي أو فوكو أو دريدا.

لا يأبه المثقفون كثيرا بالتأسيس العلمي المحكم لأفكارهم. وهم يكتفون من الشواهد والقرائن والأدلة العلمية بأقل المعطيات. وهم في جملتهم لم يمارسوا البحث العلمي ولم يخبروا طرائقه على وجه الحقيقة والإحكام. وتعجلهم في إطلاق الأحكام وفي التعميم جد ظاهر. وهم يسخرون من الأكاديميين وينعون عليهم اشتغالهم في ما لا حياة فيه ولا جدوى. وحين يتعلق الأمر بأحكام ذات علاقة بتاريخ العرب وحياتهم وحضارتهم وتراثهم وفكرهم فإننا نلقى الأعاجيب. فالمثقف السلفي لا يتحرج من القول إن المصائب التي حلت بالعرب والمسلمين قد جاءت من انتحال العلوم العقلية والمنطق السفيه المنحدر من ثقافة اليونان وفلسفاتهم.وسيد قطب يشجب الفلسفة ولا يقر دراسة التاريخ في ذاته ولذاته. أما المثقف الحداثي الليبرالي العلماني فلا يخجل من القول - على لسان هشام شرابي مثلا - إن تاريخنا المكتوب ليس في معظمه "إلا مجموعة أساطير وحكايات"، أو من إيراد هذا النص العجيب - بقلم هذا المثقف نفسه - :"كانت فئة العلماء المغلقة هي الوحيدة التي تخرجت منها النخبة المثقفة في العالم العربي. كانت طبقة العلماء تحتكر المعرفة والنشاط الثقافي لأجيال عدة حتى أواخر القرون الوسطى" (المثقفون العرب والغرب: 11، 17). ظاهر تمام الظهور أن أصحاب هذه الدعاوي المجانية - تقليديين وحداثيين - لم يطلعوا فعلا على المعطيات المباشرة للتاريخ العربي وللثقافة العربية التي انحدرت إلينا من عصور التدوين. وأنا بكل تأكيد لا أجاوز حدود العدل والإنصاف ولا أجري مجرى المبالغة إن قلت إن في مكنتنا تجريد مئات الأمثلة لهذه "المعرفة الغائبة" من كتابات المثقفين العرب على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم. ولا يصدق هذا على الكتابات المتصلة بالتراث عند هؤلاء وأولئك وإنما يصدق أيضا على الكتابات المتصلة بالثقافة الغربية الحديثة وعلى مقدار فهمها ومدى الاطلاع عليها ومطابقة ما ينقل منها لواقع أحوال هذه الثقافة في مظانها ومصادرها الأصلية. فإننا نلتقي هنا أيضا بالعجب العجاب ولا نملك إلا أن نأسى لما وصلت إليه أحوال الثقافة الحديثة بين أيدينا. وبين أنه يتوجب علينا في ضوء هذه الأحوال أن نكون حذرين تماما بإزاء جميع الأحكام التي يطلقها المثقفون في مسائل التاريخ والحضارة والفكر مما يساق في الغالب الأعم لأغراض أيديولوجية خالصة أو خارج دائرة النزاهة العلمية والدقة المنهجية. ويستوي في هذا كبار المثقفين وصغارهم، على اختلاف مشاربهم ومقاصدهم.

العقل المراوغ

لا سبيل إلى إنكار وجوه الشجاعة والإقدام اللذين ميزا عددا من الأعمال الثقافية التي أنتجها مثقفون مرموقون خلال هذا القرن الذي يكتمل الآن. وقد بذل هؤلاء المثقفون جهودا طيبة حقا في بث روح التنوير والنظر الحر والوعي الرفيع على اختلاف مذاهبهم ومناهجهم. بيد أن خصيصة غير محببة، لا بل هي مرذولة، قد صاحبت قدرا عظيما من هذه الأعمال. وقد تمثلت هذه الخصيصة في سمات "الالتواء" و"المراوغة" و"التحيل". وحدث هذا على وجه التحديد في القطاعين الحرجين: قطاع الدين وقطاع السياسة. فلم يواجه الخطاب "الثقافي" العربي المسائل السياسية الجوهرية مواجهة مباشرة وإنما سعى دوما إلى الدوران حولها وإلى التحايل على الدقيق منها. وهكذا نتبين مثلا أن كتاب علي عبدالرازق "الإسلام وأصول الحكم"، قد بدا في ظاهره بحثا "علميا" موضوعيا في نظرية الخلافة الإسلامية وفقا لما أتاحته (النصوص) ولما قدمته التجربة التاريخية الإسلامية، لكنه في حقيقة الأمر كان يرمي إلى شيء آخر تماما هو التصدي لرغبة ملك مصر في أن يجعل من نفسه خليفة، والانتصار لفكرة الدولة الوطنية الليبرالية. وفي دعوته إلى التحديث وضع طه حسين المسألة في إطار الصراع بين القديم والجديد ودعا إلى حل هذا الصراع حلا جذريا بحرية التعبير ووضع حد لتدخل السياسيين في الخلافات الفكرية. وكتاباته "الإسلامية" لم تكن إلا مجرد " تكتيك " يهدف إلى تهدئة المعارضة الدينية والسياسية المتنامية للمشروع الوطني (الهرماسي : المثقف والبحث عن نموذج). ومنذ عهد قريب ذهب الطيب تيزيني إلى "وجوب تأويل الإيمان الديني" للجماهير على نحو يبرر أهداف وآفاق العمل السياسية والاجتماعية على الطريقة الاشتراكية العلمية، لسبب بسيط هو أن "الجماهير العربية جماهير مؤمنة"! ولم يكن عمل الجابري في (نقد العقل العربي) عملا علميا أو فلسفيا خالصا، وإنما كان عملا أيديولوجيا موجها بصراحة، وفكرة مغايرة أو مفارقة (العقل المغربي) إلى (العقل المشرقي) و (القطيعة) بين الاثنين - وهي فكرة يتعذر تماما تأسيسها علميا على وجه التعميم والماهية - يمكن أن يساء الظن بها بحيث يفهم أن المقصود منها في نهاية المطاف هو الاعتقاد بتفوق (العقل المغربي) - العقلاني، عنده، في طبيعته وتكوينه - على (العقل المشرقي) - العرفاني، عنده، في طبيعته وتكوينه ! ومع أنني لا أميل إلى الاعتقاد بأن صادق جلال العظم يقع في فريق المراوغين المتحيلين - إذ عودنا على أن يكون من أكثر الكتاب المثقفين مباشرة وطلبا للنزاهة واستقامة القصد - إلا أنني أعترف بأنني قد احترت في أسلوب دفاعه غير المقنع عن سلمان رشدي في (ذهنية التحريم) ومازلت أتساءل عن قصده الحقيقي من وضع هذا الكتاب: هل أراد أن ينتصر للروح التي حركت صاحب (آيات شيطانية)؟ أم أنه أراد أن يعود إلى مقدمة خشبة المسرح بعمل يحمل طابع "الإثارة الصارخة"؟ لأن دعوى القول إن منتقدي سلمان رشدي لم يقرأوه ولم يفهموا معانيه لا تكفي وحدها للإبانة عن وجه التساؤل. أما إخراجه الصارخ، في (الاستشراق والاستشراق معكوسا)، لبعض عبارات إدوارد سعيد عن مواضعها البريئة، فإنه يقلل صراحة من ثقتنا بمقاصده المعلنة، وهو ما ينبغي الاعتذار عنه إن لما يكن ذلك قد تم حتى الآن. ومن باب (التحايل) بعض أشكال "الدليل المغالطي" التي تعلق بها نفر غير قليل من المثقفين إبان حرب الخليج الثانية. ففي تعزيز مواقفهم قصر هؤلاء المسألة على "اعتبار المعلول" فقط، وهو قدوم قوات أجنبية إلى أراض عربية، دون "اعتبار العلة"، وهي عملية الغزو أو الاحتلال التي ترتب عليها ذلك المعلول. وقد كان حكم المنطق يفرض اعتبار الاثنين معا على وجه الاقتران الضروري، فيتم التنكر للظاهرة - العلة قبل استنكار الظاهرة - المعلول، وذلك بغض النظر عن اتجاه "منطق العاطفة والرغبة". ومن باب المراوغة أيضا ما يلجأ إليه المثقفون السياسيون من اختيار "الصيغ الملبسة" في القضايا الدقيقة الحرجة، إذ يلوح لهم أنها "مناطق آمنة"، وذلك على نحو ما انتهجه محمد حسنين هيكل في مسألة المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية، إذ رأى أن ثمة سبعة أسباب تدعو إلى تأييد اتفاق غزة - أريحا، لكن الأسباب التي تدعو إلى رفضه هي أيضا وبالتحديد سبعة، بلا زيادة ولا نقصان! ونجد كثيرا من هذه الصيغ في الكتابات التي تعرض على وجه الخصوص للعلاقة بين الدين والدولة. ويدخل في الباب نفسه عمليات "الإسقاط " المذهبي التي تتلبس بعض أشكال "القراءة الجديدة" وتشبه أن تكون كالقفز بالمظلات. ويؤسفني أن أقول، على سبيل التمثيل، إن نصر حامد أبو زيد (العربي: مايو 1994) لم يكن ملزما بأن يسقط "المبادئ الكلية المقترحة الثلاثة: العقل والحرية والعدل" على مقاصد الشريعة التقليدية الخمسة إذا لم تكن هذه المقاصد قائمة أصلا على هذه المبادئ، وقد كان الأجدر به أن يظل عند حدود (الاعتزال) وأن يذهب إلى النصوص مباشرة بهذه المبادئ المستلهمة أصلا من مذهب الاعتزال نفسه.

غبار النرجسية

للمثقفين، في تصورهم لذواتهم وفي صلاتهم بالآخرين، "عادات" وهذه "العادات" تفصح عن نفسها في مناشطهم السلوكية العيانية أكثر مما تفصح عنها في "المكتوب"، وإن كان هذا "المكتوب " لا يضن هو أيضا بذلك. فليس من المتعذر على من ألف المثقفين وشاركهم الاتصال الحي أن يلمس لديهم إحساسا بالتعالي والكبرياء والاعتداد بالذات والكبر أيضا. والمثقف يعتقد أنه أوتي من العلم والفهم وحدة الذكاء ورهافة الحس والإحساس والقدرة على سبر أغوار الكون والأشياء والبشر، ما لم يؤته أحد على الإطلاق غيره. وهو مقتنع بأنه من طينة غير طينة البشر، وإن كان يقر اليوم بأن رجال المال والموسرين يفوقونه حظا ومكانة في الدولة وفي المجتمع. وهو لا يحتمل النقد، ويحتقر ناقديه ومنتقديه ويعاملهم بجفاء شديد متوسلا في الغالب الأعم باللغة القاسية والنظرات العنيفة. والمثقف، كالشاعر، شغوف بنفسه وبأعماله، مولع بإعجاب الناس به وبها، حريص كل الحرص على هذا الإعجاب، يتلمسه في كل رأي ويبحث عنه في كل مجلس ويتوقع أصداء له في وسائل البث الإعلامي المطبوع والمسموع والمرئي، فإذا ما وقع عليها أخذته عزة الخيلاء. والدلائل كثيرة على أن لديه نزعة التمثل بالنجوم، نجوم الفنون الكبرى، يلتف حوله جمهور من المعجبات والمعجبين يغمرونه بالحب والتكريم. وههنا يكمن أحد الأسباب أو الدواعي التي تدفع جل المثقفين إلى تبني قضية المرأة والدفاع عنها، وحتى أولئك الذين يمارسون سلوكا مضادا في حياتهم العملية يفعلون ذلك. وكثير من المثقفين مولعون بـ "الاستفزاز" أو "الإثارة" التي تصل إلى حدود "الفضيحة"، يتوسلون بذلك لفرض ذواتهم وللصعود على سلم الشهرة والوصول إلى قمته بالسرعة المطلوبة، أي القصوى. وهم يعرفون حق المعرفة الموضوعات الثلاثة التي تيسر لهم، في المجتمعات العربية "المرهفة الحساسية"، حرق المراجل وإدراك غاية الطريق بأقل جهد ثقافي وعلمي: الدين والجنس والسياسة. فهذه ثلاثة مقدسات محرمات تضمن للمثقف الخامل، إذا ما أوتي حظا من الذكاء والدهاء والقدرة على اجتياز الحد الأدنى من المعطيات المعرفية والعلمية ومن الخبرة، الوصول السريع إلى مبتغاه. تعينه على ذلك قوى الضغط الاجتماعية والسياسية الخرقاء إذ تسارع إلى إدانته أو الاعتداء عليه أو تقديمه للعدالة! وثمة أسماء "ثقافية" كثيرة لم تحرز لنفسها السمعة والصيت والصولجان إلا من هذه الأبواب المحرمة. وليس ثمة شك في أن كثيرا من هذه المظاهر التي أشرت إليها تجد لها تسويغات موضوعية، لكن أكثرها لم يكن الدافع إليه إلا نرجسية فردانية.

حزانى الزمن المعاند

ليس كل المثقفين أشقياء أو مراوغين أو نرجسيين، فإلى جانب "الموالي " الذين غيبوا وجودهم في شتى أشكال السلطة، وأولئك الذين لبسوا ثوب المراوغة والتحايل والنفاق والخداع، والذين سدروا في نرجسية عابثة، وأولئك الذين آثروا الهجرة، ثمة مثقفون حزانى، ينشدون ليل نهار أناشيد الألم والعذاب، ويفرغون في كتاباتهم آهات حزن عميق ليس هو الرومانسية في جميع الأحوال. وههنا يستطيع الباحث الأكاديمي أن يجرد من الكتابات السائرة التي تتردد بين قطبي المقالة السياسية وبين الشعر - مادة جليلة لنفوس يعتصرها الحزن والاكتئاب والمرارة والأسى. وليس يتعذر التعرف على دواعي هذه الأحوال وأسبابها، فإن "الإخفاق" هنا هو الكلمة السحرية التي تكاد تفسر كل شيء: إخفاق قضية النهضة القومية، وإخفاق الغايات والطموحات الشخصية، والعوز الاقتصادي، وإخفاق التواصل والحب، ونجاح القوى الشريرة والوصوليين والانتهازيين، وفوضى القيم أو موتها أو طردها من "المدينة"، وغياب الأمن والأمان... وبكلمة "أشياء الزمن الرديء". إن المثقفين الحزانى لا يملكون إلا حزنهم، فهو كل ما تبقى لديهم من حصاد الأيام. وحين لا يلوذون بالصمت ويتمسكون بالكتابة فإنهم يصبون جام غضبهم على "الزمن المعاند" الذي لم يجئ مواتيا و لم يف بالموعود فاستحق النقمة والعتب والكراهية والشجب والاحتقار. لقد أصبحت هذه " اللازمة " المكرورة ديدن حشد هائل من الأدبيات الثقافية في العقود الأخيرة. والعلة بينة، فقد شهدت هذه العقود انكسار الطموحات الكبرى والأماني العزيزة.

مثقف المستقبل الآتي

إذا كان النظر في واقع المثقفين يكشف، في الجملة، عن هذه الأحوال والعوارض الذاتية التي لا تبعث على السرور كثيرا، فما جدوى هؤلاء المثقفين في حياتنا العامة؟ وما الذي يمكن أن ننشده لدى أناس تعرض علينا "أفعالهم"، خارج "مستوى الوعي"، هذا الحشد الجسيم من المثالب والنقائص وضروب الضعف؟ ما الذي نستطيع أن نرجوه وأن نفيده من أفراد ينشدون التقدم بوعي الأمة أو المجتمع وهم في وعيهم معطوبون قيميا؟ إن الوعي المعطوب في ذاته قيميا لا يستطيع أن يقدم شيئا لمجتمع هو، بدوره، معطوب في ذاته قيميا. ذلك لأن الظواهر والحقائق جميعا تشير إلى أن وجوه المصير العربي جميعا قد طالها الخلل وعصف بها العطب. ما من أحد يعجز عن تقديم الدليل على ذلك، وما من أحد يطالب بتقديم الدليل. ومع أن الأسباب تعددت وكل الأطراف المصابة تصرخ بطلب العلاج، وكل واحد منها يسأل الدواء قبل غيره، إلا أن من الواضح تماما - ودون أن يعني ذلك تعلقا بعلية أحادية - أن الإصابة البالغة تقع في "قيم الفعل" التي توجه أحوال الفرد الذاتية وأحوال المجتمع المشخصة، وإذا لم يتوجه إلى هذه القيم بالنظر والتحليل وإعادة البناء فإن أي تقدم يمكن أن يحدث على المستويات والجبهات والأطراف الأخرى لن يكون حاسما.

ههنا يصبح "المثقف" الذي ينشط على مستوى الوعي ورعاية الفعل وهدايته، ذا فائدة وجدوى. وههنا أيضا يكون من واجبنا العودة إلى التمييز التقليدي السائر بين المثقف "الحقيقي" والمثقف "المزئف" و"المزيف" الذي ألقى هذا القول الضوء على بعض أحواله ووجوهه الصارخة منبها بذلك إلى شروط المثقف الحقيقي وإلى ما يجدر بالمثقف على وجه الإجمال أن يتحرر منه على وجه الخصوص، قبل أن يشرع في المهمة الجليلة التي تدعوه إليها معطيات الواقع الاجتماعي والتاريخي المباشرة.

 

فهمي جدعان

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات