أحوال الديار سعدية مفرح

أحوال الديار

قراءة نقدية في
المجموعة القصصية:

تأليف: عبدالعزيز مشري

تتسيج تجربة عبدالعزيز مشري القصصية بحدين يبدوان في ظاهرهما متناقضين، وهما في الحقيقة عرضان لموقف نفسي واحد، أحدهما التوتر والآخر الهدوء!. وإذا كانت أعراض التوتر تتجلى واضحة في سياق القصة الواحدة مقارنة لها بمثيلاتها من القصص الأخرى، فإن أعراض الهدوء تبدو أكثر وضوحا في سياق التصاعد الدرامي للقصة الواحدة ذاتها.

وفي مجموعته القصصية الجديدة " أحوال الديار" الصادرة أخيرا عن النادي الأدبي الثقافي في جدة بالمملكة العربية السعودية يؤكد عبدالعزيز مشري، وبإصرار عفوي، خواص تجربته القصصية سواء أكان ذلك على صعيد القصة القصيرة بمعزل عن مثيلاتها هدوءا، أم على صعيدها مقارنة لها ببقية قصص المجموعة توترا!!.

قبل التفكير بأية مقاربة محتملة لمجموعة "أحوال الديار" يجدر بنا أن نرصد ملامح الخصوصية "التاريخية"، إن جاز لنا استخدام هذا التعبير، والتي تميز عبدالعزيز مشري كواحد من رواد الكتابة القصصية المغايرة للتقليد في المملكة العربية السعودية، وربما في منطقة الخليج العربي كلها. لقد كان عبدالعزيز مشري الوحيد من بين مجايليه من الرواد الذي استمر في الأداء الكتابي القصصي والروائي بكل إصرار. لقد كانت كوكبته تضم كلا من محمد علوان الذي أصدر مجموعتين وتوقف، وعبدالله باخشوين الذي توقف بعد إصدار مجموعة قصصية واحدة رغم ما نالته تلك المجموعة من انتشار وترحيب نقدي كبيرين، أما فهد الخليوي وجبير مليحان فقد توقفا ولم يستمرا أبدا.

في حين ظل عبدالعزيز مشري هو الأكثر قدرة على تمثيل جيله القصصي، فهو بعد توقف قصير إثر صدور مجموعته الأولى "موت على الماء - 1979" عاد ليقدم أكثر من مجموعة قصصية ورواية، فقد قدم أربع روايات هي: "الوسمية - 1985"، "الغيوم ومنابت الشجر- 88/ 1990 "، "الحصون- 1992 "، "ريح الكادي - 1993 "، أما مجموعاته القصصية فهي: "أسفار السروي - 1986"، "بوح السنابل- 1987 "، "الزهور تبحث عن آنية - 1987 " بالإضافة إلى "أحوال الديار - 1993 ".

في مجموعة "أحوال الديار" نجد أنفسنا بصدد بنية جديدة للقص لا تعتمد على الشكل التقليدي للنص القصصي بقدر ما تعتمد على قدرة المشري على خلق طرائق جديدة وغير مستهلكة تحاكي في شكلها الأولي العام طريقة القص الشعبي والأسطوري، ولكنها تختلف عنه في جوهر الحدث وطريقة تناميه عبر مستويات عدة ينجح القاص في تحقيقها معتمدا على ضراوة وطرافة لغته الكتابية في أغلب الأحوال. وفي هذه المجموعة بالذات يدير عبدالعزيز مشري ظهره للمدينة كلية متجها بكل حواسه الكتابية نحو آفاق بيئية غير مطروقة كثيرا من قبل كتاب المنطقة. وإذا كان الخليج ليس نفطا فقط، فإنه أيضا ليس مجرد مدن متشابهة فقط، وإذا كان معظم قصاصي وروائي منطقة الخليج قد قسموا بيئاتهم الروائية إلى مدن نفطية حداثية، وقرى وسواحل وصحارى فقيرة ماضوية فإن عبدالعزيز مشري حاول أن يشل خيوط هذه المعادلة بحركة توفيقية رائدة حيث التفت إلى أحوال الديار القديمة التي ظلت معاصرة للزمن النفطي الجديد ومحاذية له.

إنه يعيش زمنه القصصي في هذه المجموعة، في الأمكنة الأولى والتي تظل خلفية دائمة ومميزة للأحداث والوقائع، والتي تبدو في كثير من الأحيان هامشية وغير مهمة على الإطلاق في ظل الحضور القوي للمكان والذي ينهض في مجموعة "أحوال الديار" بطلا أوحد رغم أن المشري لا يحدده باسم معين ولا يحده بظواهر تضاريسية خاصة، إلا أنه يبدو واضحا بمشاهده الفريدة: "... جاءت من أعلى الجبل، ومن سفوح كثيرة، وبلاد لا زراعة فيها، وقطعت نهيرا صغيرا فيه ذؤابات ماء مطحلبة، ونباتات الحبق الخضراء الغامقة، وصخور على الجانبين كبيرة وصغيرة ملساء كالبيض.

هناك أشجار كبيرة كالوحوش، وفي كل مسافة وأخرى.. تقفز طيور "السمان" و"القمري" و"طيور الذرة"، وتطير فتأخذ معها البصر إلى أن تختفي أو تهبط على الأرض.." "قصة الخرج صفحة 38".

وينبهر عبدالعزيز مشري بعظمة المكان المتكئة على غموض التاريخ وبساطة الجغرافيا فيحاول نقل انبهاره الجميل هذا إلى المتلقي وربما لذلك نجده يأتي على التفاصيل الدقيقة للمكان إلى درجة الإسراف في كثير من الأحيان، بل إنه في أحيان أخرى تستغرقه تفاصيل المكان وتشغله عن الأداء القصصي الحدثي حتى لتكاد القصة، في هذه الحالة تتحول إلى مجموعة من المشاهد الوصفية المتراكمة والتي لا تحتمل، لفرط الروح الوصفي السردي فيها، أي تواتر أو تصاعديا الأحداث أو تحريك للشخصيات فتبدو "القصة" مفتقرة للكثير من عناصر القص وجانحة لأن تكون مجرد عنصر واحد يمهد لقصة محتملة ولكنها غير متحققة. ومثلما ينشغل بالمشهد المكاني فإن عبدالعزيز مشري ينشغل أيضا بتفصيلات شعبية دقيقة تملأ هذا المشهد وتلونه بألوان حية من الطقوس اليومية التي تضفي على واقعه القصصي الكثير من عناصر الإمتاع المعتمدة على حكايات تقترب كثيرا من الجو الأسطوري وتحيل مشاهده القصصية في كثير من الأحيان إلى مشاهد "فرجة" مسرحية: ".... هذا هو اليوم الثاني بعد ليلة الزفاف، ومن بعد صلاة العصر، سيجتمعون، ويقيمون "رقصة العرضة". كان لهم ذلك، جاء واحد ينقر بعصاتيه القصيرتين، طبلة الزير وحضر الشاعر فلان، ليقول كلاما يمتدح فيه العائلتين وكرم الضيافة، انعقدت دائرة واسعة في ساحة عريضة قريبة من البيت، وحمل نفر غير قليل من الرجال بنادقهم، وتوسعت الدائرة بعد سماع الطبل. ورقص الأولاد في ذيل الصف الطويل الدائرة، وخرجت النساء على الأسطح وفي النوافذ، حوم الغبار من تحت الأقدام إلى ما فوق الرءوس، وعلى الإيقاع المرتب تقافز راقصان خفيفان في وسط الدائرة، دون ترديد مع الآخرين، فقفزا ونط عقالهما من على رأسيهما، ولوحا في الفضاء بـ "سلاق الجناني" الخاطفة كالبرق " (قصة الغطاريف ص 61).

وقد تعمدت إيراد هذا المقطع الطويل من قصة قصيرة، بل وقصيرة جدا، لنرى كم يسهب عبدالعزيز مشري في سرده الوصفي للأشياء والحيوات وأشكال العلاقات بين الناس والممارسات الحياتية لهم، وإذا كان ذلك يحقق لقصص مشري أداء شعبيا يتسع بخصوصيته المحلية شديدة البكارة رغم ضيقه الجغرافي، فإنه من جانب آخر يخلخل الأداء القصصي على صعيد الشكل على الأقل، وإذا كان هذا السرد الرصفي المحيط بكل الدقائق والتفاصيل الصغيرة يبدو مقبولا، بل ومطلوبا، في الرواية فإنه يبدو معيقا لحركة الأداء الدرامي في القصة القصيرة بشكل عام وفي قصص عبدالعزيز مشري القصيرة جدا بشكل خاص.

أبطال مهمشون

وفي ظل احتفاء عبدالعزيز مشري الكبير بالمكان يبدو أبطاله جزءا لا يتجزأ من هذا المكان وأحد أهم عناصره الثابتة. إنهم يتشيئون وفقا لمعطيات واقعهم البيئي الصعب، ولكنهم، رغم ذلك، يملكون حضورهم الخاص بهم. إنهم مدهوشون ومتوحدون مع بيئتهم، ورغم تطلعاتهم المتواترة بين آن وآن وتشوفهم للمدينة البعيدة بروائحها المختلفة وأصواتها الصاخبة إلا أنه تشوف محكوم دائما بالعودة إلى الجذر القروي هربا من "... زمان أفسد الناس خلف الأسمنت والحديد والمال، وأبعدهم عن لذة ثمرة الأرض، وحس طعم جني المحصول.." (قصة مهرة ص 70).

إن أبطال "أحوال الديار" هم أولئك البسطاء المهمشون والذين يقضون كل نهارهم وجل ليلهم كدا في سبيل اللقمة الصعبة المنال في معظم الأحيان، وفي سبيل تحقق أحلامهم البسيطة مثل حلم "أبو عبدالله" بشراء وانيت في قصة "الوانيت "، وحلم سعد بإبلال ابنته المعلولة وإيجاد حمارته الضائعة في قصة "تأتيك تجري"، وحلم الصبي الصغير بثوب العيد في قصة "ثوب العيد"، وحلم "أبوعروان" بالصلح والسلام مع القبيلة المعادية في قصة "الشامخ "، وبقية الأحلام البسيطة الصغيرة والتي يجهد هؤلاء البسطاء كثيرا جدا في سبيل تحققها الذي يبدو عسيرا. وهم في أحلامهم البسيطة الصعبة هذه وجهادهم المجهد يبدون متشابهين وكأنهم على اختلاف أسمائهم ومسمياتهم شخصية واحدة لرواية واحدة وتعيش هذه الشخصية مشكلاتها اليومية المتعددة كلا على حدة!.

ملاحظة أخرى على أبطال عبدالعزيز مشري في "أحوال الديار" تبدو جديرة بالرصد وهي أن معظم أبطاله المفضلين ينتمون للفئة العاجزة بالمفهوم التقليدي في المجتمعات التقليدية، فئة العجائز والنساء والأطفال، فهناك دائما الرجل الكبير السن والذي يجد نفسه، تحت إلحاح الظرف الصعب، مضطرا للإصرار على ممارسة الحياة بكل منغصاتها الكثيرة ولحظات فرحها القليلة حتى النهاية حيث يبقى سيد البيت المكون من الزوجة والأبناء والبنات وزوجات الأبناء والأحفاد، كل له من اهتمامه حظ ونصيب.

أما المرأة فلها حضورها القوي والغريب في المجموعة، فهي وإن كانت تبدو خارجيا هادئة ومستكينة وقانعة بل وخاضعة لمشيئة سيد البيت الكبير، إلا أنها - واقعيا - ذات حركة فاعلة، وإن كانت خفية، في تنامي الأحداث داخل القصة ككيان فني وكحدث قصصي أيضا.

بل إنها وفي بعض قصص المجموعة تكاد تنفرد بدقائق المشهد القصصي كله، ويبدو صوتها عاليا ومفجرا للأحداث كلها، ويبدو هذا جليا في قصة "مهرة" تلك المرأة القوية والتي يجلجل صوتها منذ بداية القصة شاتما أرذل الشامتين. (قصة مهرة ص 66).

إن عبدالعزيز مشري يصر إصرارا واضحا على رسم صورة إيجابية للمرأة في كل قصص المجموعة، وإذا كان صوت "مهرة" واضحا وقويا ومجلجلا فإن أصوات أم حمود في قصة "الغطاريف"، أو عزة في قصة "تأتيك تجري" وأم عبدالله في قصة "الوانيت " وزوجة عايض الصخري في قصة "بالمشعاب"، وخضراء في قصة "أبي القاسي "، وغيرهن لا تقل وضوحا وإن كانت خافتة إلى حد ما، وخفية إلى حد آخر. وربما كان اهتمام عبدالعزيز مشري بالعنصر النسائي من الملامح المميزة له كقاص في كل نتاجاته الكتابية قبل "أحوال الديار"، وقد جاءت هذه المجموعة لتبلور هذا الاتجاه بشكله الأوضح.

أما الأطفال، وهم الضلع الثالث من أضلاع مثلث الضعف والعجز في المجتمع التقليدي فإنهم يأخذون حيزا واسعا من مساحة "البطولة" في قصص المجموعة، وقلما تخلو قصة من قصص "أحوال الديار" من حضور طفولي على صعيد الوجود الفعلي الممثل بوجود أكثر من طفل يمارس دوره في دورة حياة الأحداث، وأيضا على صعيد الوجود الحلمي المتمثل بلحظات استرجاع ذكريات الطفولة التي لا تغيب.

ويتوج عبدالعزيز مشري اهتمامه الذكي بالطفولة بقصتي "ثوب العيد" و"الخرج " اللتين تجاوز فيهما مجرد الاهتمام بهذا العالم الحيوي الطفولي الواسع والالتفات إلى قضاياه التي تبدو لنا صغيرة وما هي بصغيرة إلى مستوى راق من التعبير بحس طفولي أخاذ تمثل فيه الكاتب عالم الطفل بكل ذكاء وبساطة.

لغة حلمية

لعبدالعزيز مشري في "أحوال الديار" لغة كتابية حلمية متفردة تتبلور عبر استخدامه لكثير من التعبيرات والمفردات العربية القديمة واضعا إياها ضمن سياقات لغوية منسابة وإن بدت غريبة كثيرا خاصة إذا ما طعمها الكاتب ببعض من مفردات لهجات القبائل الجنوبية في شبه الجزيرة العربية وهي التي تكون الواقع الاجتماعي والمكاني لأحداث "أحوال الديرة".

ولمشري طرائقه الخاصة جدا في نحت الكلمات الصعبة وسكبها معا في عبارة أكثر سهولة وبساطة في هيكلها الخارجي ولكنها تحتاج إلى مزيد من انتباه من هو بصدد سبر أغوارها وفتح مغاليقها: "... ليس على من رغب في سبر حقائق الحروب بين الرجال اليوم مطية، فالبنادق أفرغت بطونها، عند أول مستغيث صاح في مسامع القبيلة. فإن كان في الوقت باع من الفراغ، فها إن الآدميين يدورون عن سبب ينضحون به دماء الخطيئة، ويقتصون من المعتدي الفرد باسم قبيلته.. فهو ليس بابن فلان في الذنب.. بل ابن قبيلة بني فلان. وعلى من تسوقه إلى الحتف، غياهب الغيب.. فاتحة الكتاب والدعاء بالرحمة.." (قصة الرقبة ص 6). وهذه اللغة "اللغزية" لا تبدو معقدة على الرغم من غرابة تراكيبها، وربما صعوبتها في بعض الأحيان، فهي صعوبة مشبعة برائحة المكان وخصوصيته الجغرافية مما أكسب تشبيهاتها الدقيقة واستعاراتها وكناياتها الذكية نوعا من الخاصية الشعرية والتي تجعل من قصص عبدالعزيز مشري، بوجه عام، مرشحة للاستماع إليها مقروءة بنفس متعة قراءتها مكتوبة وربما بمتعة أكبر وهذه إحدى خواص القص الشعبي والتي تؤثر على النص القصصي لدى مشري أيما تأثير.

ويتنقل الكاتب برشاقة بين دوره كراوية لأحداث قصصه ودوره كمستظهر للحوارات، وبشكل لا يفاجئ قارئه أبدا: "... قال، إنه افتقد واحدة من دجاجاته مسية البارحة، وألقى ببصر عينيه المزمومتين إلى الأرض، وبرطم شفتيه، ولم يبد شاربه المجنح قليلا في هيئة مرضية، ثم ما لبث أن هذب من تربيعة قعدته، وحرك يمينه بكمها العريض، وألزم أصابع الأخرى على مهل ذؤابة لحيته الجامدة القصيرة، فبان أن هناك حديثا سيقال.. وقال:

- يا جماعة الخير.. الدجاجة ذهبت في فم "أبو الحصين"، و"أبوالحصين " عدو لكل دجاجاتنا، وإذا كان قد اقتنص دجاجتي اليوم، فإنه يعرف الآن طريق صيد دجاجات كل أهل القرية.

قال واحد:

- يخس "أبو الحصين"

قال آخر:

- "أبوالحصين " ما يغلب الرجال

قال ثالث:

- لا والله.. ما حقه إلا الرصاص" (قصة أبوالحصين ص 14).

كما يشير أيضا النص المجتزأ السابق إلى خاصية أخرى من خصائص القص الشعبي في قصص عبدالعزيز مشري القصيرة وهي الطرافة في التناول، وإضفاء روح النكتة على الحوارات المتبادلة، وقد تجلى ذلك في أوضح صوره بنوادر "أبو سالم مع الحيوان" وهي خمسة مشاهد قصصية اختتم بها مشري أحوال دياره الجميلة.

وأخيرا

ينهض عالم عبدالعزيز مشري القصصي في "أحوال الديار" على اهتمام نافذ بخصوصية الواقع المكاني والبيئي الذي يسيج هذه النصوص القصصية والتي تبدو في كثير من أحوالها أقرب إلى اليوميات القصصية منها إلى القصص القصيرة.

ولا ينبغي لمتلقي هذه النصوص القصصية أن ينشغل بتحديد الموقف الأيديولوجي العام لها، فالقاص نفسه لا يبدو منشغلا ببلورة موقف كهذا بقدر انشغاله بتوثيق تفاصيل البيئة القروية وتقديمها عبر نص لغوي متطور.

 

سعدية مفرح

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




عبدالعزيز مشري





غلاف المجموعة القصصية أحوال الديار





غلاف رواية ريح الكادي





غلاف مجموعة قصص الزهور تبحث عن آنية