لسان النار صلاح عبدالسيد

لسان النار

وجاءني عبدالرحيم.. لم أكد أضع أول لقمة في فمي حتى جاءني عبدالرحيم.. دق الباب بكلوة يده فأثار الغبار في الحجرة.. فلما فتحت الباب وجدته واقفا يلهث. أدخل يا عبدالرحيم لم يكن يلهث بالضبط، لكنه كان يشخر، وكان قاطعا للنفس.

.. أدخل

وقال كلمته التي يقولها في كل مرة - لماذا تسكن قرب السماء؟ فقلت له الذي أقوله في كل مرة - لكي أكون قريبا منها..

فقال وهو يجلس: أبوك يريدك

فقلت: ما الذي حدث؟

سعل: يريدك

.. يا عبدالرحيم؟!!

قال: يريدك

فقمت لأرتدي بذلتي الوحيدة.. وقام هو ليأكل من بقايا الخبز والجرجير.

عندما ارتديت بذلتي الوحيدة.. كان قد انتهى من بقايا الخبز والجرجير..

وخرجت معه.. وكان صامتا..

وانتابني شعور بأن هناك شيئا.. شيئا ما يخفيه هذا البغل - نسميه في قريتنا البغل.

.. ما الذي حدث يا عبدالرحيم؟

.. لا شيء.. هو فقط يريدك

وكان شعر صدره نافرا.. وعيناه محمرتين.. وهيئته توحي بالتوجس..

يا عبدالرحيم؟!!

وعبدالرحيم تقدمني وهو يلهث.. صوت لهاثه يسبقني.. مسموع موقع.. كأن هناك فرقة تلهث معه..

ولما ركبنا العربة أسند فخذه علي.. وكان فخذه ثقيلا..

يا عبدالرحيم؟

كان عبدالرحيم قد نام..

وظلت العربة تهتز.. وعبدالرحيم داخلها يهتز.. وكلما ارتجت العربة انهبد فخذه علي..

يا عبدالرحيم؟

فيصحو ويدعك في عينيه المحمرتين.. ثم يستغرق ثانية في النوم.. وأصبح همي طوال الطريق أن أسند فخذه بيدي..

يا عبدالرحيم؟

ولا عبدالرحيم هنا..

ما الذي جاء به إلي..؟ لا بد أن وراءه مصيبة..

منذ تزوج أبى من أخته الأرملة ولم نر من ورائهما غير المصائب..

ترى ما الذي يخفيه هذا البغل عني؟

والطريق طويل.. طويل طويل.. والليل يستعد للهجوم...

جيوش الليل على البعد قادمة، لا بد قادمة.. وأنا منزو في العربة إلى جانب عبدالرحيم.. والصمت حل على الركاب.. ليس غير همهمات عبدالرحيم.. واهتزازات بطنه المتواصلة..

كنت في شوق إلى أبي.. لو أن صرف المرتبات كان اليوم.. لكان ممكنا أن آخذ بعض الفاكهة إلى أبي..

وارتجت العربة فانهبد فخذ عبدالرحيم علي.. كاد يقتلني..

يا عبدالرحيم؟

فتح عينيه ثم عاد إلى نومه.. كأن لم يحدث من شيء..

كان الليل قد أحكم سطوته.. فاشتدت ظلمته.. والأشجار على الجانبين تزيده وحشة وظلاما.. وعين العربة الواحدة.. بالكاد ترسل ضوءا شاحبا تحجل به وسط هذا الدغل الكثيف..

ترى ما الذي أصاب أبي؟

وارتجت العربة فانهبد فخذ عبدالرحيم علي..

متى نصل إلى قريتنا؟

وبانت القرية في البعيد. امرأة عجفاء تتلفع بالظلمة.. لا يبين منها غير عين واحدة تلمع..

وتوقفت العربة..

أسرعت نازلا..

كنت أهرول متجها إلى بيتنا..

كانت هناك ريح.. ريح ساقعة.. ونباح كلاب..

وكانت البيوت نائمة..

بيت في البعيد يفتح.. ولمبة تطل.. وهمهمات تسري.. والأرض تحت قدمي تميد..

لست أعرف ما الذي قبض قلبي..

هل جرى لأبي شيء؟

جريت..

كان وقع قدمي مفزعا..

أبطأت..

وبان بيتنا مفتوح المصاريع.. به كلوب مضاء..

كدت أصرخ - أبي وهرولت داخلا..

كان الكلوب يفح صهدا.. ولسان من النار يخرج من راتينته المائلة..

أبي..

وكان لسان النار يلسعني في عيني..

وكانت زوجة أبي ترضع ابن أبي ذلك الذي له شهور..

واندفعت إلى حجرته..

لم يكن أبي.. لم يكن أبي بالحجرة..

كان حذاؤه.. حذاؤه وجلبابه.. جلبابه وعصاه..

وكانت رائحته..

رائحة أبي.. وصرخت..

كانت على الحائط صورته، وكان ينظر لي..

أبي..

وأجهشت بالبكاء..

جاء أخي وشدني.. والبغل شدني..

أمسكت بجلباب أبي.. بصورته.. بحذائه.. برائحته..

.. أين أبي..؟

.. لقد دفناه

.. ولماذا تعجلتم..؟

.. لأنه لا بد من دفنه

.. وأنا ألست ابنه؟

.. أنت هناك في مدينتك تلهو.. ولولا عبدالرحيم لما

أخبرناك..

.. كيف..؟ إنه أبي.. لي فيه أكثر منك.. كله لي..

وأخذت أنشج..

جسدي يرتج.. قلبي يرتج. دموعي تسيل..

ولسان النار يلسعني..

.. كيف مات أبي..؟ كيف؟

.. مثلما يموت الناس

.. لا.. لا بد أن أعرف.. ماذا فعلتم به؟ هل قتلتموه؟

وقبض على رقبتي.

.. لو استمررت في لجاجك فإنك ستلحق به..

كانت عينا أخي حمراوين.. وطاقتا أنفه ترتعشان.. وصدره يعتمل.. والشر باديا عليه..

هل هذا أخي..؟!!

وخلصت يديه عن رقبتي..

زعق أخي

.. الآن جاء وقت الحساب

.. أي حساب؟

.. حساب لهوك في المدينة طوال السنوات الفائتة.. كل قرش صرفه عليك أبوك في هذه النوتة - ودق بيده عليها - كل قرش..

.. لقد كانت نقود أبي

.. لا.. إنه عملي.. أبوك لم يكن يعمل.. أنا الذي كنت أشقى..

وفرد النوتة أمامي

.. لقد أخذت حسابك كله.. ولم يعد لك من شيء

.. والأرض؟ والبيت؟

.. الأرض والبيت لي.. ولهذا الطفل - وأشار إلى طفل أي..

.. لا.. تلك مؤامرة لن أخضع لها..

.. بل ستخضع

وقبض على رقبتي.. وعادت عيناه غريبتين..

عينا قاتل على وشك أن يقتل..

لا بد أنه هو الذي قتل أبي..

رفعت عيني إلى صورة أبي..

كان أبي ينظر لي في مرارة وكأنه يعتذر..

قمت واقفا..

كان لسان النار يمتد من الكلوب ويطول.. يصبح طريقا.. تناولت عصا أبي ومضيت على لسان النار..

 

صلاح عبدالسيد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات