من المكتبة الأجنبية: إعادة اكتشاف العثمانيين

   من المكتبة الأجنبية: إعادة اكتشاف العثمانيين
        

عرض: د. محمود حداد*

          بعد نحو قرن من الحرب العالمية الأولى، يبدو أن الكثير من العرب استعادوا اهتمامهم بالمرحلة العثمانية من تاريخهم بأيامها الحلوة وأيامها المرّة. كذلك، عاد الأتراك إلى إلقاء نظرة جديدة فاحصة أكثر رأفة وتفهمًا لتاريخهم العثماني.

          صدر كتاب «إعادة اكتشاف العثمانيين» قبل عدة سنوات بالتركية وطبع منه 30 طبعة وباع نحو 150 ألف نسخة، لكنه ما لبث أن تُرجم إلى البلغارية واليونانية وإلى العربية هذه السنة تحت عنوان «إعادة استكشاف العثمانيين» (لا يبدو لنا أن كلمة «استكشاف» هي الترجمة الصحيحة في العنوان، بل «اكتشاف» هي الأفضل).

          أما المؤلف فهو الدكتور إيلبير أورتايلي وهو مؤرخ تركي معروف يشغل حاليا منصب المدير العام لمتحف «توبكاي» في إسطنبول ويُعرف عنه أنه «المؤرخ الذي جعل التاريخ مسليًا». وقد نظر أورتايلي من زاوية غير تقليدية إلى السلطنة العثمانية ولم يركز على التاريخ السياسي، بل تحدث عن الهوية العثمانية الاجتماعية والحياة الأسرية والسلاطين وفن العمارة والمطبخ العثماني والولايات المستقلة ضمن النظام الإداري الذي كان معمولاً به وكذلك عن مفاهيم جديدة لبعض المصطلحات ولماذا يجب أن تتغير أو تظل على حالها.

          يعتبر إيلبير أورتايلي أن سقوط القسطنطينية بيد الأتراك العثمانيين في منتصف القرن الخامس عشر (1453م) كان الحدث الذي مثّل نهاية العصور الوسطى في الشرق الإسلامي وفي أوربا على حد سواء. وهو يرى أن السلطنة العثمانية لم تكن سلطنة بالمعنى الحقيقي للكلمة قبل ذلك التاريخ، ويقول إن التمييز بين العصر الوسيط والعصر الحديث بهذه الطريقة أكثر واقعية من تطبيق معايير أخرى مثل استخدام الطباعة أو تدمير القلاع الإقطاعية. ولابد من ذكر أن فتح القسطنطينية أدى إلى انحطاط المدن الإيطالية المستقلة الواقعة على البحر المتوسط مثل البندقية وجنوى اللتين كانتا تعتمدان على التجارة في منطقة شرق البحر المتوسط (ارتكب مترجم الطبعة العربية خطأ فادحًا عندما استخدم «فنيسيا» بدلا من «البندقية» لترجمة اسم مدينة Venice الإيطالية المشهورة). ومنذ ذلك الحين بدأت المدن التجارية الإيطالية بالتراجع وتحولت التجارة شيئًا فشيئًا إلى المحيط الأطلسي وجرى تسريع هذه العملية التي يمكننا القول إنها انتهت بوصول العالم الأوربي إلى القارة الأمريكية عبر المحيط الأطلسي.

          ويدعونا المؤرخ التركي إلى عدم استخدام كلمة بيزنطة التي سقطت على أيدي العثمانيين، بل أن تستبدل بها «روما الشرقية» لأن بيزنطة اسم أطلقه الأوربيون بعد سقوط هذه الإمبراطورية بهدف التقليل من شأن إرثها. والسبب لأن الألمان كانوا يريدون تثبيت أن الإمبراطورية الرومانية - الجرمانية المقدسة، كانت هي الوريث الحقيقي للإمبراطورية الرومانية القديمة. وقد تطلب ذلك منه إزالة الإمبراطورية الرومانية الشرقية الساقطة من التاريخ عبر الإشارة إليها باسم بيزنطة، رغم حقيقة أن هذه الإمبراطورية كانت تصف نفسها بأنها رومانية أو الدولة الرومانية (ونضيف: كان العرب يصفونها بدولة الروم).

          وبالإضافة إلى أبرز منجزات السلطان محمد الفاتح المتمثلة بوضعه نهاية لهيمنة البندقية الإيطالية على بيزنطة والإمبراطورية اللاتينية التي تأسست في 1204 وأمالته لميزان القوة لصالح جنوى، فإنه أيضًا كان قادرًا على جمع كمية غير عادية من المعرفة فيما يتعلق بالشئون الداخلية والحياة الثقافية للدول الأوربية المعاصرة. ولم يكن مهتمًا بالأماكن الجغرافية فقط، وإنما بتاريخها وثقافاتها أيضًا. ويذكر الكاتبان العثمانيان في ذلك العصر، كريتوفيولوس وكمال باشازاده، أن الفاتح جلب تماثيل إغريقية ورومانية إلى اسطنبول، ومع أنه لم ينصبها في ساحات العاصمة، إلا أنه كان يحب أن يحيط نفسه بمستشارين إيطاليين ويونانيين - عثمانيين  على دراية بالتاريخ اليوناني والروماني.

          والواقع أن المؤرخ التركي حاول باقتدار الإضاءة على بعض النقاط التاريخية غير الواضحة عند القارئ غير المتخصص وتصحيح كثير من الأفكار الخاطئة عن المجتمع والدولة العثمانية. ويمكننا تلخيص بعض هذه الأفكار كالتالي:

سياسة التجنيد

          1 - في الفترة العثمانية المبكرة مورست سياسة تجنيد الفتيان (من منتصف القرن الخامس عشر حتى القرن الثامن عشر) المسيحيين ويقال إن المسلمين لم يكونوا يستدعون للتجنيد. هذا صحيح جزئيا لأن المسيحيين كانوا يأتون من المناطق الجبلية القاسية خاصة في البلقان ويتم تجنيدهم وتعليمهم الإسلام وإدخالهم في الفرق «الانكشارية». إلا أن الفتيان المسلمين كانوا يجندون أيضًا لأن قراهم الفقيرة كانت تطلب ذلك حيث إن معاشات الجنود كانت مجزية.

          كذلك جُند كثيرون في منطقة الأناضول والقوقاز وألبانيا حيث كانت القرى تنتظر لجنة التجنيد كل بضع سنوات بفارغ الصبر. ولم يكن الفتيان يجندون قبل سن التاسعة للتأكد من أنهم لن يصابوا بأمراض الأطفال المعدية. كذلك، لم يكونوا يجندون بعد سن الرابعة عشرة لأنه كان يُعتقد أنهم تخطوا سن التعلم. وكان التجنيد في بعض الحالات وسيلة للارتقاء إلى أعلى المناصب في السلطة لأن السلطنة لم تكن تُحكم بواسطة أرستقراطية وراثية في المراتب التي تقع أدنى من العائلة العثمانية الحاكمة. ويروى أن امرأة أعطت في يوم شتوي بارد حذاء مهترئا لمواطنها إياس محمد في جنوب ألبانيا. وعندما كبر الشاب، وأصبح الصدر الأعظم في ولاية السلطان سليمان، ملأ الحذاء ذهبًا وأعاده للمرأة الفقيرة!

          لكن مؤرخنا يتابع مسرعًا دون أن يتوقف عند حقيقة أن هذا الوضع تغير في القرن التاسع عشر عندما جرت محاولة تحديث الجيش العثماني بعد سلسلة من الهزائم خاصة على يد قوات إبراهيم باشا، ابن محمد علي باشا، حاكم مصر الذي استطاع الاستيلاء على بلاد الشام في ثلاثينيات ذلك القرن. وجرى التخلي عن قوات «الانكشارية» وحل محلهم قوات «النظام الجديد» وهو الاسم الجديد للجيش العثماني الذي كانت قواته مؤلفة من المسلمين فحسب. وإذ تم هذا التغيير في مرحلة تراجع وأفول الدولة العثمانية، فإنه كان على المسلمين تحمل أوزار ونتائج الحروب والهزائم التي حصدت الآلاف منهم. وكان هذا التطور أحد العوامل التي جعلت مجتمعات الأغلبية المسلمة تتأخر عن مجتمعات الأقليات العثمانية المختلفة التي سبقتهم في مجالات التعليم والمهن الحديثة.

النظام القضائي والشريعة

          ومهما يكن فإن هذه التغييرات كان لها أثرها على مجالات أخرى، فقبل مرحلة «التحديث» أو «الغربنة» كان النظام القانوني والقضائي العثماني نظامًا قائمًا على الشريعة الإسلامية وممثليها من العلماء وقضاة الشرع. إلا أن فئة القضاة هذه فقدت دورها في العام 1826 عندما ألغيت القوات الانكشارية وكانت السلطنة تحاول تحديث نفسها على الطريقة الأوربية. وبسبب هذه التغييرات تعرّض النظام العام للاهتزاز لأن القادة من المسئولين عن أمن المدن، مثل شوباشي وأشباشي، كانوا من الجيش الانكشاري أيضًا. وحتى مقار قيادة الشرطة كانت تحوي جنودًا انكشاريين تابعين للسلطان لضمان حفظ الأمن، لكن هذه كانت مسئولية جنود في البحرية يسمون Levents في المناطق التي تحوي أحواضًا لرسو السفن مثل قاسم باشا، بالإضافة إلى الجزر وبعض الموانئ. وكان القضاة يعتمدون على الجنود الانكشاريين في تنفيذ الأحكام، ليس في اسطنبول فقط بل سائر أرجاء السلطنة. ولهذا السبب، عندما ألغي الجيش الانكشاري فقد القضاة مسئوليتهم عن الشئون المالية. ولاحقًا، عندما جرى توحيد الأوقاف ضمن إدارة منفصلة، اضطر القضاة إلى تسليم السلطة إليها أيضًا.

          وأخيرًا، عندما أنشئت محاكم إدارية وجزائية، لم يبق للقضاة من واجبات سوى القضايا التي تقع ضمن مجال قانون الأحوال الشخصية.

العائلة في ثلاثة أجيال

          2- كانت العائلة هي الوحدة الأساسية في المجتمع. ويقول المؤلف إن فكرة أن المرأة كانت حبيسة المنزل هي فكرة غير صحيحة لأن النساء كن يخرجن إلى الأسواق كما كانت زيارة القبور شائعة بينهن. وقد ذهب أحد الرحالة الألمان في القرن السادس عشر إلى حد وصف المرأة العثمانية بأنها كانت تتمتع بحرية الحركة. وبالرغم من أن نموذج العائلة الكبيرة كان منتشرًا في الريف، فإن نموذج العائلة الصغيرة كان سائدًا في المدن خاصة إسطنبول في القرن التاسع عشر. وعلى الرغم من أن نظام العائلة التي يساند أفرادها بعضهم بعضًا بدأت بالتداعي في ذلك القرن، فإن العائلة التركية تفضل حتى اليوم أن يعيش ثلاثة من أجيالها معًا. (يذكرنا هذا بنظرية المفكر السياسي الإنجليزي المحافظ إدموند بيرك (1729-1797) الذي كان يرى أن «العقد الاجتماعي» المتعارف عليه يُعقد في العادة بين أجيال الآباء والأبناء والأحفاد).

          ويقول المؤلف إن تلك العائلة العثمانية التي كانت تتألف من جيلين أو ثلاثة أجيال تعيش معًا وتملك جذورًا راسخة في الحي مثلت نموذج تواصل مميزا يحترم فيه الصغير الكبير ويقدم فيه الشاب المساعدة للمسن. ولازال هذا النموذج قائمًا نوعًا ما في تركيا والبلاد العربية. ويلاحظ أن الذين هاجروا من السلطنة العثمانية لم يكونوا يتخيلون أن سكان حي ما لا يقيمون علاقات وثيقة بين بعضهم البعض. وهذا أحد الأمور التي يشتكي منها بمرارة المهاجرون الأتراك (ونضيف من عندنا «والعرب») في أوربا وأمريكا.

          ويجب ألا نعتقد، كما هو شائع، أنه كان بمقدور الرجل تطليق زوجته بسهولة تامة، فالطلاق كان أكثر صعوبة مما هو الآن، لأن الرجل كان يسأل عن السبب. وهذا كان يجعله يتصرف بحذر. وفي بعض الأحيان، كان هذا يعني أن يستمر بعض الرجال في العيش مع زوجاتهم بالرغم من عدم وجود أي انسجام فيما بينهم. بعد منتصف القرن التاسع عشر ازداد الإقبال على التعليم وشمل ذلك تعليم النساء والفتيات. كان الناس يقبلون أنفسهم على نموذج العائلات التي كانوا يشاهدونها في كتب القواعد الأجنبية، مثل السيد والسيدة براون في الكتب الإنجليزية، والسيد والسيدة دوفال في الفرنسية. أي أنهم كانوا يتوقون للحصول على منازل جيدة الإضاءة والتدفئة يعيش فيها طفلان وأمهما وأبوهما مع جدّين عجوزين، وحيث يقرأ الناس الكتب وتقوم النساء بأعمال التطريز في المساء.

المطبخ العثماني

          3- لقد طوّرت إسطنبول مطبخًا غنيًا ونجحت - مثل بعض الولايات الأخرى - في جلب مواد غذائية غير اعتيادية لم يكن يتوقع المرء إيجادها في ظل اقتصاد تقليدي كان مضطرًا إلى الاعتماد على نظام نقل متخلف. وبالرغم من أن هذه الإنجازات جعلت الناس تكتسب حاسّة ذوق رفيعة، إلا أنها كانت تعني أيضًا أن هؤلاء الناس كانوا أقل قدرة على التأقلم مع حالات النقص. خلال الحرب العالمية الأولى، أظهرت الأمة عجزًا كاملاً في التعامل مع المشاق التي واجهتها.

التأثيرات الثقافية.. الإقليمية المتشابكة والمتبادلة

          4- يشير المؤلف إلى نقطة بالغة الأهمية تتعلق بالتأثيرات الخارجية على الدولة والمجتمع العثماني. فبينما يركز معظم المؤرخين على أثر الغرب الأوربي، لا ينسى أورتايلي الإشارة إلى التفاعل بين المجتمعات الإقليمية القريبة. فهو يعتقد، مثلاً، أن الرسم الإيراني أثر منذ القرن السابع عشر في الفنانين العثمانيين ويدعو إلى عدم نسب كل التغييرات العثمانية في هذا الفن إلى الغرب وحده. وهو يشدد على أن الحضارة العثمانية دخلت في القرن الثامن عشر في عملية تبادل ثقافي مع أوربا الغربية. وكان هذا التبادل يعني سيرًا في اتجاهين لا اتجاه واحد. لذلك، يجب ألا ننسى أن مظاهر من الألبسة التركية، مثل العباءات والأقمشة أثرت في الألبسة الأوربية، الأمر الذي أدى إلى رواج زي يُدعى توركوري.

          5- العلاقة مع الحجاز ومصر: كانت مكة مركز العالم الإسلامي بأسره. ولم يكن المسئولون الذين خدموا كحكام لهاتين المدينتين يُدعون بصفتهم الوظيفية بل كانوا يُعطون ألقابًا مثل «شيخ المدينة المنورة». وبالطريقة نفسها كان قضاة مكة والمدينة يُدعون بـ«مولوية الحرمين» ويتمتعون بموقع رفيع جدًا ضمن البروتوكول العثماني. وبرهانا على ذلك، كان من غير العادي أن يُعيّن في منصب كبير قضاة إسطنبول رجل لم يكن قاضي مكة المكرمة أو المدينة المنورة في السابق.

          في الجنوب، كانت مصر، من دون أدنى شك، المنطقة التي مكّنت السلطنة من بسط سيطرتها على البحار وإظهار عظمتها، فضلاً عن الثروة الكبيرة التي كانت تقدمها. وكانت مصر، في السابق أيضًا، بمنزلة الجوهرة في تاج الإمبراطوريتين الرومانية والبيزنطية، اللتين لم تستطيعا الاستغناء عنها أبدًا. وما إن فقد البيزنطيون مصر حتى بدأوا في طريق الانحطاط، والحقيقة أن ذك كان لأسباب عدة:

          أولاً: كانت مصر مصدرًا وفيرًا للحبوب. ثانيًا: كانت قاعدة عظيمة لمراقبة المنطقة الإقليمية المحيطة بها. وثالثًا: كانت تقدم الكثير للسلطنة من الناحية المالية. يشدد المؤرخون دائمًا على أن الإمبراطورية الرومانية لم تصبح إمبراطورية بمعنى الكلمة إلا عندما احتل يوليوس قيصر مصر، وأن يوليوس قيصر لم يتمكن من تأسيس الخزينة إلا بعد أن عرف كيف كان يطبّق النظام المالي والضريبي في مصر.

          وكان كبير قضاة مصر يحظى بمنزلة خاصة، وكان يجب أن يكون زعيم مذهب مختلف عن معظم زملائه. وهذا لأن غالبية المسلمين المصريين كانوا ينتمون للمذهب المالكي في حين أن عددًا قليلاً منهم كانوا ينتمون للمذهب الحنفي الذي كان سائدًا في المركز العثماني. وبهذه  الطريقة يصبح بمقدور كبير القضاة الحفاظ على هيمنته على القضاة المحليين.

          أما مهمة والي مصر. فكانت تتمثل في إنفاق العوائد التي يجمعها من مصر عليها. ولهذا السبب، لاتزال هناك الكثير من بقايا التأثير العثماني في مصر. كما كان يرسل حصة معينة من المال من «الحبيب الهمايوني» (MayunuHCib) إلى إسطنبول من أجل نفقات السلطان الشخصية. انتهى الحكم العثماني لمصر مع ضم بريطانيا لمصر خلال الحرب العالمية الأولى واستبدل بالخديوي المصري - العثماني عباس حلمي الثاني السلطان حسين كامل المصري بدعم من بريطانيا.

          وبسبب الغنى الذي كانت تتمتع به مصر، أظهرت في القرن التاسع عشر رخاء واضحًا ونمط حياة بورجوازيا امتد إلى العاصمة العثمانية نفسها. وكانت هذه الولاية تعيّن شخصًا مسئولاً عن الإشراف على طرق الحج إلى مكة، وكان مقره في السويس ويسمى أمير الحج المصري وهو لقب مشابه للقب أمير الحج الشامي.

من اللامركزية الواسعة إلى المركزية الضيقة

          6- أخيرًا يمكن القول إن الانعطافة الأساسية في التاريخ العثماني الحديث انتشرت على امتداد القرن التاسع عشر وذلك الجزء القصير من القرن العشرين الذي انتهى بنهاية الحرب العالمية الأولى. والظاهرة الأهم في هذه المرحلة الحديثة تمثلت في التخلي عن التنظيم الإداري اللامركزي الواسع وتطبيق فكرة وسياسة المركزية في معظم قطاعات الدولة وسيطرة الدولة على مصالح ومرافق كانت تعود بشكل حصري للمجتمعات المحلية (الأوقاف على سبيل المثال). وهذا ما ساهم في ازدياد شعور العداء بين الدولة العلية والمجتمعات المحلية المختلفة.

          لقد قدم لنا كتاب «إعادة اكتشاف العثمانيين» صورة تاريخية بانورامية عامة ومسلية لتطوّر الدولة العثمانية منذ بداياتها. إلا أن هذا الكتاب ما هو إلا مقدمة للاهتمام بالتاريخ العثماني خاصة في البلاد العربية والذي امتد أربعة قرون كاملة. هناك في مكتبات الجامعات العديد من كتب التاريخ العثماني المتخصص بمواضيع معينة ومختلفة عن الولايات العربية العثمانية سابقًا. وقد كتب عدد من المؤرخين العرب في مواضيع تتعلق بالتاريخ المحلي في الحقبة العثمانية معتمدين على وثائق محلية. إلا أن الحاجة ملحة اليوم لكتابة هذا التاريخ من منظور المركز العثماني في إسطنبول، وبالتالي استخدام الوثائق العثمانية التي كانت تعود إلى مكتب الصدر الأعظم أو قصر السلطان وغيرهما من السلطات المركزية. وهذا عمل لن يستطيع القيام به إلا مؤرخون عرب وأتراك يعرفون اللغة العثمانية بعد دراسة وتمرين كافيين.
----------------------------------
* مؤرخ لبناني.

------------------------------------------

الشَيبُ يَنهاهُ وَيَزجُرُهُ
                              وَالشَوقُ يَأمُرُهُ وَيَعذِرُهُ
وَإِذا تَوَقَّرَ شَيبُ مَفرِقِهِ
                              خَرِقَت مَدامِعُ لا تُوَقِّرُهُ
كَيفَ اِستَسَرَّ هَوىً يَفيضُ بِهِ
                              لَحظٌ فَصيحٌ لَيسَ يَستُرُهُ
قالَت لِجارَتِها أَرى رَجُلاً
                              مُتَنَكِّراً لِلشَيبِ مَنظَرُهُ
لَولا تَلَفُّعُ عارِضَيهِ لَما
                              أَخطا عَلَيها حينَ تُبصِرُهُ

علي بن الجهم

 

تأليف: د. إيلبير أورتايلي