أرقام

200 عام من التدخل

هذه معركة لها تاريخ.

أن تتدخل الدولة في الاقتصاد، أو ترفع يدها عنه. قصة قديمة، وان احتدمت هذه الايام في محاولة لجعل كل شيء حراً، وكل مرور مباحاً، وكل تدخل مكروها.

يروي التاريخ أن فكرة الحماية الجمركية- وهي إحدى الوسائل الرئيسية للتدخل- كانت سابقة على الثورة الصناعية، وكانت الأسباب- في بعض الأحيان- غير اقتصادية.

وفي القرن الثالث عشر أصدرت إنجلترا سلسلة من القوانين تقيد نوع ومصدر الأقمشة التي تتحول إلى ملابس، وكان الهدف: تمييز الطبقات وفقاً لنوع الملبس الذي يرتديه أفرادها.

بعدها أصدرت إنجلترا قوانين تمنع استيراد المنتجات الفرنسية، وفي القرن السابع عشر نجح المنتجون البريطانيون في استصدار قانون يحظر استيراد أو ارتداء الحرير والشيت الوارد من الصين وفارس والهند، وذلك حماية للصناعة الإنجليزية.

وهكذا بدأت فكرة الحماية في الدول الصناعية الأكثر تقدماً، وفي ظل ما أسميناه اقتصاداً حراً، وقد تطور الأمر فأخذ أشكالا مختلفة من التدخل الإداري في حركة التجارة فإلى جوار سلاح منع الاستيراد، لعبت الضريبة وأسعارها دوراً في تدفق التجارة أو الحد من هذا التدفق. كما لعب تحديد حصص هذه السلعة أو تلك، وهذا البلد أو ذاك، دوراً آخر. وانضم للقائمة الدعم المالي الذي تقدمه الحكومات للسلع والصناعات والأنشطة المختلفة.

200 عام من التدخل

في دراسة للبنك الدولي حول القرن التاسع عشر والقرن العشرين، تبدو الصورة مثيرة وجديرة بالتأمل. فالولايات المتحدة الأمريكية التي تتزعم اتجاه الحرية في الوقت الراهن كانت تفرض رسوماً تصل في المتوسط إلى 45% عام 1820، لكنها أخذت في النقصان حتى بلغت 13% من قيمة السلع عام 1950 و 6% عام 1987.

وبينما كان المتوسط العام لأسعار الضريبة الجمركية على مجموع السلع في الدول الصناعية الكبرى 6% فقط عام 1875، كان ذلك المتوسط في الولايات المتحدة الأمريكية في العام نفسه 45%، أي أن الدول الصناعية الأخرى كانت تسبق أمريكا في التحرير الاقتصادي، وإن كانت الرحلة قد انتهت عند مستوى متقارب من الرسوم المخفضة والتي تسمح بمرور السلع دون عائق.

لقد سقط الحائط، عدا تدخلات محدودة داخلية وخارجية.

من هذه التدخلات: الضغوط الأمريكية لتوجيه التجارة اليابانية التي غزت أسواق الولايات المتحدة، والتي جعلت المنتجين الأمريكين يقولون: لم تعد هناك صناعة واحدة لا يدخلها شيء ياباني. لقد غزت اليابان أمريكا ليس بالسلع فقط، بل بالمكونات والخامات أيضا.

وبينما تتواصل الجهود- ومنذ سنوات- لحماية السوق الأمريكية من الغزو الياباني، فإن جهود القرن الماضي كانت تسير في اتجاه عكسي، حيث فرضت المعاهدات على اليابان تعريفة جمركية منخفضة حتى لا تكون الرسوم عائقاً دون تدفق السلع الأوربية والأمريكية على اليابان.

وفي الحالين لعبت السياسة دورهما، وهو ما نلاحظه من استقرار التاريخ الاقتصادي وتاريخ العلاقات الدولية، فالرسوم الجمركية أيضاً لم تكن بريئة من التدخل.

وتبزز ملاحظة ثانية عندما نقرأ أرقام البنك الدولي عن قرنين من التدخل والحرية. ففي فترات الأزمة يرتفع حائط الحماية، تزيد الرسوم، ويزيد التدخل الإداري. في عامي 1913 و1930 كان متوسط الرسوم الجمركية التي تفرضها الدول الصناعية على مجموع السلع 23% من ثمن السلع. والعامان كما نعرف قبيل الحرب العالمية الأولى، وفي أثناء الأزمة الاقتصادية الكبرى؟ وربما كان ذلك أكثر وضوحاً في الولايات المتحدة حيث بلغت الرسوم 40%. عام 1913، و 45% عام 1930. الشيء نفسه شهدته الدول الصناعية الأخرى فزادت الرسوم المفروضة على الصناعة التحويلية في إيطاليا من 22% عام 1925 إلى 46% عام 1930. وفي فرنسا وخلال العامين المذكورين زادت الرسوم من 21% إلى 30%.

الأزمات إذن تدفع للتدخل وإقامة الأسوار، رغم ذلك فالدراسة الدولية- والتي صدرت عام 1991- تنتهي إلى أن رحلة الدول الصناعية- وبالقياس لتدخلات الدول النامية- رحلة متواضعة، فالحماية الجمركية في جنوب آسيا- على سبيل المثال- أكثر مرتين من المستوى التاريخي للبلدان الصناعية، والمتوسط العام للضريبة التي فرضتها الدول النامية على السلع المصنوعة كان في حدود 34% خلال المائتي عام الأخيرة.

مؤيدون ومعارضون

هذا السجل التاريخي من الدراسات النادرة يمتد لقرنين من الزمان، لكن الأهم ما تثيره الأرقام من معركة حول التدخل والحرية.

يقول أنصار الحرية وانسياب السلع إن القيود سواء كانت بالتعريفات المرتفعة أو الدعم المالي أو التدخل الإداري المباشر تصفع سوقاً غير طبيعية. قد تحمي سلعاً رديئة، وقد ترفع الأسعار بلا مبرر، وقد تزيل عنصر المنافسة الذي يدفع للجودة وتخفيض السعر. إنها تكرس السوق المحلية، وتكرس الاحتكار، وتزيد اعتماد الصناعة- وربما الزراعة- على دعم الدولة ومساندتها بحيث يصبح متعذراً الاعتماد على الذات، أما الحرية فهي تزيد الإنتاج والإنتاجية، وتزيل أي تشوهات في الاقتصاد. بل إنها تعمل على تفويت فرص الفساد الذي ينشأ في ظل السوق المغلقة، الذي يتحول إلى امتياز تستفيد منه فئات حكومية وغير حكومية.

وعلى النقيض، يقول أنصار التدخل إنه لا مفر من حماية الصناعة الناشئة والحفاظ على السوق المحلية بجناحيها: الإنتاجي والتجاري. ويضربون أمثلة بدول عدة مارست أنواعاً من التدخل، منها: كوريا وكندا وماليزيا، بل اليابان أيضاً والتي استخدمت بعض أنواع الحماية.

ويحذر الفريق الأول من أنه عندما تفرض بعض الدول إجراءات حماية وترتفع بحائط الجمارك والقيود الإدارية تلجأ الدول الأخرى إلى إجراءات مضادة من النوع نفسه.

بينما ينبه الفريق الثاني إلى أنه في ظروف الدول النامية فإنه لا مفر من وجود قيادة للتنمية، ولا مفر من أن تكون الدولة- وليس السوق وحده- حارساً لهذا الهدف. أيضاً فإنه لا مفر من الاعتماد على الرسوم الجمركية كمورد رئيي للخزانة العامة.

وبين الاثنين يقف خبراء البنك الدولي ليقولوا: إنه إذا كان التدخل ضرورة، فيجب ألا تنسوا إتاحة الفرصة للمنافسة المحلية والخارجية. فربما هذبت شرور التدخل.

وما زالت المعركة مستمرة.