الحادثة فؤاد دوارة

الحادثة

أو الاستيلاء على "الحب" بالقوة !

يقول الكاتب المسرحي اللامع لينين الرملي في تقديم "الحادثة" أحدث مسرحياته: " قرأت هذه القصة وشاهدتها فيلما منذ سنوات.. وشعرت على الفور برغبة شديدة في إعادة كتابتها مرة أخرى! "

والقصة، أو الرواية إن أردنا الدقة، التي يشير إليها الكاتب هي رواية "جامع الفراشات" للكاتب الإنجليزي جون فاولز، التي حققت نجاحا كبيرا فور صدورها سنة 1964، فوزعت طبعتها الأولى أكثر من مليون نسخة، خاصة بعد أن تحولت إلى فيلم سينمائي في العام التالي من إخراج الأمريكي الشهير ويليام ويلر.

ما الذي جذب لينين الرملي في هذه الرواية، ودفعه إلى "إعادة كتابتها" كما يقول أو "اقتباسها" في المصطلح الشائع، مع علمي بحرصه الشديد على ألا ينضم لزمرة المقتبسين الذين يزحمون حركتنا المسرحية، ويسيئون إليها أكثر مما يفيدونها؟

للإجابة عن هذا السؤال - أو هذه الأسئلة، كان لا بد من قراءة نص المسرحية بعد مشاهدة عرضها أكثر من مرة، ثم العودة لقراءة رواية "جامع الفراشات" لنرى ماذا أخذ لينين وماذا ترك، لنعرف سر جاذبيتها له، ثم ماذا أضاف إليها ليبرر إقدامه على "إعادة كتابتها"، وهل انضم بالفعل إلى زمرة المقتبسين، أم أن إضافاته من الضخامة والأصالة بحيث تحتفظ له بمكانته كواحد من أهم كتاب المسرح العربي المعاصر ممن أثروه، وما زلنا نتوقع منهم خيرا كثيرا لمستقبله.

ومن حسن الحظ أن عبدالحميد الجمال نشر أخيرا ترجمة كاملة لنص الرواية، جاء في مقدمتها:

"تتناول رواية "جامع الفراشات " قصة موظف كتابي يكسب مبلغ 73 ألف جنيه إسترليني في مقامرة على مباراة لكرة القدم، وبعدئذ يقوم باختطاف طالبة في كلية الفنون الجميلة ويسجنها في البدروم بمنزله إلى أن تلفظ أنفاسها الأخيرة وتموت، وهذا الموظف الكتابي ليس له أصدقاء على الإطلاق وليست لديه مشاعر عميقة وقوية إزاء أي شيء.. " ولا هواية له سوى جمع الفراشات الجميلة، وتثبيتها في مجموعات، أي قتلها، والاحتفاظ بها شبه محنطة، في محاولة للاستحواذ على جمال ألوانها، والاستيلاء عليه، ولو مجردا من الروح والجمال، وهو بالضبط ما يفعله مع الفتاة التي أعجبته، وتصور أنه أحبها. لم يحاول أن يتقرب منها، أو يتعرف بها، بل ظل يراقبها، حتى تمكن من تخديرها وخطفها، متصورا أنه بذلك قد حصل عليها وعلى حبها، وكأنها فراشة سيضمها إلى مجموعته الجميلة.

الحاكم والرعية

والرواية حافلة بالتفصيلات والمواقف الإنسانية المثيرة، بحيث تنجح في تشويقك وإقناعك بواقعيتها وصدق مشاعرها، ومن ثم يصعب عليك التوقف عن قراءتها قبل أن تأتي على صفحاتها التي تربو على الأربعمائة. والفكرة الرئيسية في الرواية هي تأكيد معنى الحرية الإنسانية فبدونها يستحيل قيام أي علاقة سوية، وبخاصة علاقة الحب التي حاول بطل الرواية فرضها على بطلتها الجميلة، باختطافها، وحبسها في قبو البيت المهجور الذي اشتراه لهذا الغرض، ولكن كل أساليبه ومغرياته تفشل في استثارة حبها له، لانتفاء الشرط الأول لقيام علاقة الحب، وهو الحرية.

يخيل إلي أن هذه الفكرة بالذات هي التي اجتذبت لينين الرملي لاستيحاء تلك الرواية، في كتابة مسرحيته "الحادثة" ولعله لم يأخذ من الرواية غيرها، بل لقد نجح في إثرائها بمضمون سياسي متقدم، بالإضافة إلى مفهومها الإنساني والاجتماعي والنفسي الواضح.

فعلى الرغم من تنبه جون فاولز إلى هذا المضمون السياسي الذي تحويه روايته إذا وسعنا فهمنا لها وطبقناه على علاقة الحاكم بالمحكوم، أو الحاكم والرعية أو الشعب، بدلا من العلاقة بين العاشق والمعشوق، أو العاشق والحبيبة، فقد أشار سنة 1970 إلى أخطار النظام الشمولي الاستبدادي القائم على القوة وفرض الأفكار، فقال:

"إن أي شخص يقوم بجمع "أي يقوم بقتل " مجال من مجالات الحياة لمجرد المتعة أو الغرور تكون لديه كل الخصال التي يتميز بها قائد معسكرات الاعتقال.. " ولكن على الرغم من تنبه فاولز إلى هذه الفكرة الكامنة في أحداث روايته، فإنه من الصعب على القارئ أن يهتدي إليها لغلبة الجانب النفسي، والاجتماعي بدرجة أقل، على علاجه، مع ازدحام الرواية، بالعديد من التفصيلات الواقعية الدقيقة التي طمست هذا المضمون السياسي المهم، وهو ما حاول لينين الرملي تجنبه في علاجه، وإضافة تفصيلات أخرى تبرزه بدلا من أن تطمسه، فلنر إلى أي حد وفق في محاولته.

تظهر "زهرة" بطلة المسرحية تجري محاولة اللحاق بآخر أوتوبيس بعد منتصف الليل، ولكنه يفوتها فيلاحقها "عبودة بك " صاحب الشركة التي تعمل بها، لتصحبه إلى شقته الخاصة بإغراء "أنا هشتريلك عربية سيات وشقة محترمة بدل الجحر اللي أنتي عايشة فيه، وأخواتك يبقوا يزوروكي وقت ما يحبوا... " ولكنها ترفض. يتبعه "نبيل " زميلها في كلية الآداب يعرض عليها الزواج رغم فقره الشديد، حتى ليقترض منها خمسين قرشا قبل انصرافه.. تعتذر له ليأتي أحد المارة يدعوها لمصاحبته إلى شقته فإذا هددته باستدعاء العسكري قال:

"هو فيه عساكر الناحية دي؟ هنا ما فيش غير حرامية! "

فإذا بعاصم - بطل المسرحية - يزيح الجريدة عن وجهه، وكان مختفيا وراءها يرقب ما يحدث أمامه، إنه "يرتدي سويتر كاكي وبنطلون بنفس اللون وعلى رأسه كاسكيت، ونسمع صوت أفكاره وهو ينظر إليها. "

"عاصم : "اليوم قررت أن آخذ على عاتقي مسئولية إنقاذها من الفقر والجهل وأيدي الطامعين فيها. ". ويطبق المنديل على فمها ليخدرها ويخطفها. وشخصيتا عبودة بك الثري الرأسمالي، ونبيل الفقير الاشتراكي، لا وجود لهما في رواية "فاولز" ومهمتهما في المسرحية واضحة وهي الطمع في البطلة الجميلة، ومحاولة استغلالها كل بطريقته، فإذا أضفنا الطامع الثالث، وهو الآخر من إضافات الرملي، وجو الفساد والتسيب، المتمثل في غياب الشرطة، وكثرة اللصوص والساقطات، أدركنا ضرورة وجود ذلك المجهول الذي يأخذ على عاتقه مهمة إنقاذ زهرة من الطامعين فيها دون أن تطلب عونه، أو حتى تعرفه. نحن إذن أمام فتاة بريئة، كثيرا ما رمز بها في الأعمال الفنية للشعب أو الوطن، تتعرض لمحاولات استغلالها من الطامعين في جو يغلب عليه الفساد، فيتدخل مجهول فيخطفها ويحبسها، بزعم إنقاذها، فكأنه استولى عليها، أو استولى على السلطة، بانقلاب، ويدعي أنه يحبها، وأن هذه طريقته في الاستيلاء على حبها، التي تكسبه شرعيته في حكمها. وسيضيف الكاتب في المشاهد التالية كثيرا من المواقف والعبارات والسمات التي تؤكد صدق هذا الفهم السياسي للمسرحية.

فبطل المسرحية يكثر من ترديد عبارة " أنا ما أغلطش أبدا! " ومسدسه جاهز دائما للاستخدام، وهو يحبس البطلة ويصادر حريتها ويراقب كل ما تقرأه ويخفي عنها كل ما يرى - هو- أنه يسئ إليها أخلاقيا، ويتصور أنه بهذه المصادرات إنما ينقذها من الأخطار التي كانت تهددها، ويتيح لها فرصة تغيير مصيرها وتبدأ حياة جديدة، ويضيف موضحا: "يعني عاجبك المجتمع اللي عايشة فيه؟ كله مغشوش.. كله كذب ونفاق وناس بتدوس على غيرها.. "

وهو لا يعترف بالقوانين، فقد التحق مرة بكلية الحقوق، وتركها بعد أسبوع واحد".. أصلي اكتشفت إن القوانين اتخلقت للضعفا والجبنا"، فإذا ضربه أحد، فلا بد أن يقتله ليرد كرامته، ومن أجل ذلك تعلم الملاكمة، ولكنه لا يعترف حتى بقوانينها، ولا مانع عنده من أن يضرب "تحت الحزام " ما دام ذلك يحقق له النصر على خصمه.

في المشهد التاسع نرى البطل "عاصم " يقبض على منافسيه السابقين بعد أن تنكر في زي ضابط شرطة، ويقود "عبودة " الرأسمالي "ونبيل" الشيوعي ليحاكمهما أمام "زهرة" ولكن بعد أن يرهبهما ويبث الرعب في نفسيهما، حتى تكاد زهرة لا تعرفهما.

وفي المشهد السادس عشر نراه يبيع قطعة أثرية نادرة لعالم آثار أجنبي دون تقدير لقيمتها التاريخية باعتبارها جزءا من التراث القومي. وقبل ذلك رأيناه يحرص في نرجسية متضخمة على تعليق صورته الكبيرة في صدر المكان، وكلما ألقتها "زهرة" على الأرض تعبيرا عن سخطها عليه، أعادها إلى مكانها بعد تقبيلها.

أما الغانية الرخيصة التي جلبها إلى القبو في المشهد الحادي عشر، فمهمتها في البناء الدرامي، هي تأكيد عجز "عاصم" الجنسي، بالإضافة إلى نرجسيته. لذلك لا ندهش حين يشير المؤلف بوضوح إلى جنون بطله، كجنون قريبه الذي ورث منه البيت بعد أن أودع مستشفى الأمراض العقلية. فإذا أضفت الملابس الكاكية التي يرتديها في مشهد الافتتاح لم يعد لدينا مجال للشك في أننا أمام شخصية حاكم مستبد ديكتاتوري التكوين مختل القوى والتصرفات، ومن ثم لا ندهش من إصراره على الاستيلاء على حب "زهرة" بالقوة، ومن خلال الحبس والقمع!

غير أن هذا البطل الذي لا يخطئ أبدا أخطأ مرة فكانت فيها نهايته ونهاية المسرحية، وذلك حين نسي مفتاح باب القبو الحصين في متناول "زهرة"، فتلقي به من النافذة، وتحبسه معها إلى الأبد وهي تصرخ:

"كنت عايز تضمن إن ما فيش راجل غيرك يبص لي. ارتاح يا عاصم أديني بقيت لك لوحدك وأنت بقيت جوزي وأبويا وريسي وسيدي وتاج راسي ".

معتقلات النازي

هل تصدق أن هذه المسرحية الفكرية العميقة رفيعة المستوى تقدم بنجاح غير قليل في إحدى فرق القطاع الخاص.

نعم، لقد جهد المؤلف، ومعه المخرج القدير عصام السيد، في الاستعانة ببعض تقنيات المسرح الخاص، من فكاهة وتشويق وإثارة، بل ورقص أيضا، لتذويب تلك الجرعة الفكرية الدسمة، وإخفاء مضمونها السياسي الخطير، بحيث يحسه المشاهد وهو يرقب حادثة الاختطاف والحبس على المستوى الفردي والنفسي، ولا يفطن إلى حقيقته السياسية إلا بعد قدر من التأمل والمراجعة.

القدرة على المزاوجة

ومن حق المخرج والمؤلف أن نسجل لهما مقدرتهما على المزاوجة بين الفكر والمتعة، بين الرسالة الجادة والمشهيات والمثيرات التي اقترنت في أذهاننا بالمسرح التجاري، ولا لوم عليهما في تلك المزاوجة، ما لم يطغ الجانب الأخير على المسرحية، بحيث يطمس فكرها ومضمونها، وهو ما لم يحدث في مسرحياتنا، وإن كنا نأخذ عليها مع ذلك قدرا من المبالغة في استخدام تلك الأساليب، وبصفة خاصة في مشاهد الغانية، والشبح، ومحاكمة "عبودة " و"نبيل"، وفي تراقص "عاصم" دون مبرر كاف. ولولا ذلك التراقص لكان أداء النجم حسين فهمي للشخصية مثاليا ومقنعا، قام بالدور الأكبر في نجاح العرض مع شريكته القديرة عبلة كامل بأدائها التلقائي في ظاهره عميق الصنعة في مخبره.

وشاركهما هذا النجاح ممثلو بقية الأدوار، وبخاصة أمينة سالم في دور "الغانية" وحمدي سيد في دور "عبودة " وسيد الرومي في دور "نبيل"، وفكري سليم في دور "جون". وصمم الفنان القدير أشرف نعيم ديكورا مقنعا للقبو، السجن، فذكرنا - بأبوابه المصفحة وألوان حوائطه الرمادية الكابية، وحديد نوافذه - بمعتقلات النازي!

في حين أسهم الفنان عمرو سليم، في إنجاح العرض بمؤثرات موسيقية معبرة ورشيقة وبعيدة عن الإزعاج والافتعال والصخب.

إن هذه المسرحية هي أول إنتاج للينين الرملي بعد انفصاله المؤسف عن شريكه الفنان محمد صبحي. وكأني به يؤكد اتجاهه نحو مزيد من الجدية والسمو والالتزام، وهو ما نرجو أن يوفق إلى مثله ذلك الشريك فيما يعتزم من إنتاج، فنكسب بذلك فرقتين جادتين بدلا من واحدة.. في وقت اختفت فيه الإضافات الإيجابية لمسارح الدولة أو كادت!

 

فؤاد دوارة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الرواية





عبلة كامل وحسين فهمي في مشهد من الحادثة