العرب، الإسلام وأوربا خالد زيادة

العرب، الإسلام وأوربا

المؤلف: أندريه ميكال، دومينيك شفالييه، وعز الدين فلوز

لم يمض وقت طويل على صدور هذا الكتاب الذي يريد أن يضيف أصواتاً جديدة حول العلاقات التاريخية والحاضرة بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط الذي يصل ويباعد ما بين عالمين متقابلين ومتصارعين جمعهما القدر الجغرافي والمصير التاريخي وفرقهما الدين ونعني بهما العرب وأوربا.

لكن ميزة الكتاب الذي بين أيدينا أنه نتيجة حوار بين مؤرخين فرنسيين اختصا بالتاريخ العربي - الإسلامي القديم والحديث، هما " أندريه ميكال" الأستاذ في الكوليج دو فرانس وصاحب الأطروحة الشهيرة عن "الجغرافية الإنسانية العربية"، و"دومينيك شفالييه" الأستاذ في جامعة السوربون. وشاركهما في النقاش الذي تحولي كتابة من 333 صفحة أكاديميان من تونس هما عز الدين فلوز وعبدالوهاب بو حديبة اللذان يملكان ثقافة مزدوجة فرنسية وعربية على السواء.

ونوع الموضوعات التي يتناولها الكتاب تحمل عناوين لفصول أو أبواب مثل: من هم العرب؟، إشراقة الحضارة الإسلامية، الحداثة، والإسلام والعلمنة. وكان يمكن لمثل هذه الموضوعات أن تسند إلى باحثين متخصصين ولكن لم يكن ذلك هو المطلوب، علما بأن القارئ الفرنسي يمكنه - إذا أراد - أن يعثر على أبحاث متخصصة في هذه المجالات، ولكن ما أراده مؤلفو الكتاب هو مناقشة الموضوعات المذكورة من خلال حوار متعدد الأصوات، مما أضفى عليها طابعاً خاصاً من خلال تغليب التساؤلات على الاستنتاجات، فضلاً عن الابتعاد عن الصرامة الأكاديمية، إذ ترك المتحاورون لأنفسهم حرية الخروج عن حرفية العناوين والتنقل بين الماضي والحاضر.

وطرق المواضيع من جوانبها الحاضرة والتاريخية هو ميزة أخرى من ميزات الحوار الذي يشتمل عليه الكتاب. ذلك أن الكلام عن الماضي والتاريخ إنما يهدف إلى فهم الحاضر، حاضر العرب والمسلمين، كما حاضر العلاقات بين أوربا والعالم الإسلامي ومن ضمنه، وخصوصا، العالم العربي. كما أن ربط الحاضر بالماضي سمح بإضاءات جديدة غير مسبوقة لعدد من القضايا، مثل هجرة المسلمين إلى أوربا بأعداد متزايدة من خلال تحديد اتجاهات الهجرة عبر الحقب التاريخية.

من هم العرب؟

يبدأ الكتاب بالتساؤل: من هم العرب؟ ويبادر أندريه ميكال إلى التأسيس للسؤال تأسيسا لغوياً، ويحدد: العربي هو ذلك الإنسان الذي يشعر بأنه ابن حضارة معينة وثقافة معينة تعبر عن نفسها باللغة العربية. أما دومينيك شفالييه فإنه يشير إلى أهمية اللغة في الدعوة الإسلامية، وكل ذلك يقود مباشرة إلى الحاضر، وإلى تبلور العروبة واللغة وقضايا العالم العربي الراهنة.

على هذا النحو يجري الكتاب، إذ يتعمد الباحثون المشاركون طرح قضايا الحاضر على الماضي. ولا شك أن القارئ سيجد في الكتاب مادة تاريخية يقدمها المتحاوران الرئيسيان المعروفان بخبرتهما وسعة اطلاعهما. لكن أسلوب عرض المادة يهدف إلى جعل القارئ ينخرط في النقاش من خلال متابعته للآراء المتبادلة.

يضع الكتاب - الحوار يده على نقطة مهمة متفرعة من النقاش حول من هم العرب، ودور العربية في تحديد الهوية الثقافية، وهذه النقطة تتعلق بالنزوع إلى الوحدة التي غابت منذ القرن الثالث عشر الميلادي. يقول ميكال: "ألح على القول بأن عامل الوحدة هو ذو طبيعتين، ثقافية وعاطفية في آن واحد. وهما أمران متلازمان ومتداخلان، فنحن الغربيون قليلاً ما نحس بأهمية العامل العاطفي في تشكيل الدول والتجمعات البشرية.. ما أريد قوله - الكلام لميكال - هو أنه لا ينبغي أن نستهين بهذا الشعور الوحدوي العميق الذي يجمع كل العرب، على الرغم من خصوصياتهم وتوزعهم على دول عدة مستقلة، فهم يحسون بانتمائهم إلى لغة واحدة وتاريخ مشترك ونمط متشابه في الحياة والتقاليد".

ويشير شفالييه إلى الظاهرة الاجتماعية القائمة على التضامن "العصبية" وصلتها بالموقف الفقهي. ومدى الغنى والتنوع في الحياة المجتمعية العربية واستمرار التقاليد عبر حقب من الزمن.

المسيحي العربي

يصل النقاش إلى نقطة تتعلق بالخلط الذي يقيمه العالم الغربي بين الإسلام والعرب، وعدم التمييز بين الأمرين لا يتعلق فقط بالمستويات الدنيا ولكنه يطال المستويات السياسية العليا. ومن هنا طرحت مسألة كيف يمكن للمرء أن يكون مسيحية وعربياً في آن واحد. ويتولى شفالييه شرح ذلك من خلال وجهة نظره، ويختصر قائلا: أن تكون عربياً فهذا لا يعني بالضرورة أن تكون مسلما، كما أن هناك مسلمين غير عرب. ولا شك بأن هذا الشرح موجه إلى القراء الفرنسيين بالدرجة الأولى.

يأخذ انتشار الإسلام السريع "الفتح " حيزاً من النقاش، خصوصاً لإزالة بعض الأوهام. ويعرض ميكال أسباب نجاح المسلمين: حماسة المؤمنين، عبقرية بعض الاستراتيجيين العرب، العامل الاقتصادي الضريبي، تمكن السلطة الجديدة من فرض نفسها على الأوضاع القائمة في البلاد المفتوحة.. ويضيف: "ثم إن العرب ما كانوا برابرة فقد كانوا معروفين آنذاك، خصوصا من سكان تلك المنطقة". ويضع شفالييه المسألة في إطار الجدلية التاريخية فيقول: "لماذا لم تؤد قرون عدة من السيطرة الهيلينية والرومانية على الشرق الأوسط إلى نتائج حاسمة ودائمة، لماذا فشلت ونجح الإسلام؟ الجواب في رأينا، هو أن الفتح الإسلامي بدا لشعوب المنطقة بمثابة الشقيق الشبيه، لقد كان يحمل في طياته الثقافة الاجتماعية نفسها المترسخة في أعماق الوعي والعقليات ".

الغرب والقرآن

يشارك عز الدين فلوز في الحوار حول "كيف نقرأ القرآن؟ " وهو نقاش غني وعميق، يتطرق إلى النص الإلهي ثم إلى قراءته بلغات أجنبية ويتحدث عن تجربته الذاتية في هذا المجال، ثم يتحدث عن ممارسة الشعائر الدينية، ويشارك في هذا النقاش أيضاً عبدالوهاب بوحديبة.

أما العلاقات بين العالم العربي وأوربا، فيبدأ الحوار حولها بعد عرض واسع للتطورات السياسية في حوض المتوسط، مع قيام دول وانحطاط أخرى، وتحتل الحروب الصليبية مكانا واسعاً من النقاش الذي لا يخلو من الحرارة، ذلك أن الحروب الصليبية تبعث ذكريات الحروب الاستعمارية، فقد كان بعض القادة الأوربيين يعتقدون في القرنين التاسع عشر والعشرين أنهم يجددون ما قام به أسلافهم قبل سبعة قرون من الزمن. لكن للصراعات الدامية والحروب أوجهاً أخرى، والعطاء الحضاري العربي الإسلامي في فترة الحروب الصليبية كان غنياً، ويعرض أندريه ميكال تأثير العرب على أوربا انطلاقاً من صقلية وإسبانيا، لقد تعلم الأوربيون الكثير من العرب وفي الميادين المختلفة.

العرب وعصور الانحطاط

والسؤال الذي يتوصل إليه الكتاب من خلال الحوار، هو التالي: لماذا ذبلت الحضارة العربية - الإسلامية، بعد فترة نهوض رائعة وناجحة؟ يقول ميكال: "يجدر بنا أن نذكر بأن "عصر الانحطاط" لم يكن كله انحطاطاً، ذلك أن الإسلام كان قد شهد بدءاً من العهد التركي، مرحلة توسع وانتشار كبيرين، حيث انتقل إلى إفريقيا السوداء والهند وأندونيسيا.. غير أنه يبقى صحيحاً القول أن المبادرة التاريخية والسياسية، على مستوى العالم، قد انتقلت من أيدي العرب إلى أوربا، التي ظلت حتى نهاية الألف، الأولى للميلاد تابعة للعالمين العربي والإسلامي، وتولت أوربا بعد ذلك المكانة الأولى". ويتفق المشاركون في الحوار على التقويم السلبي للحروب الصليبية، لأنها لم تساهم في توثيق العلاقات بين الشرق والغرب وأدت إلى تدهور المسيحية الشرقية.

في ذلك الوقت كانت أوربا تتقدم. ويعدد ميكال العوامل التي مهدت لنهضتها: استقرار الشعوب الأوربية في مناطقها، التغلب على الأمراض والأوبئة مما أدى إلى تزايد عدد السكان الأمر الذي أتاح توافر اليد العاملة، قيام نظام اجتماعي وسياسي ثابت هو الإقطاع، وأحد العوامل المهمة في نهضة أوربا هو التبادل التجاري بين أوربا والعالم الإسلامي وتصدير التقنيات من العالم العربي إلى الغرب.

الصليبية لم تتغير

يأخذ النقاش طابعاً أكثر حيوية حين يصل إلى العصور الأقرب عهداً، زمن الدولة العثمانية التي وصلت جيوشها إلى وسط أوربا وهددت أسوار فيينا، ثم المواقف من تقسيمها، لقد حدث في أوربا تواطؤ بين الأدب والسياسة في تشييد المواقف والآراء من الإسلام، واستمرت في الأدب روح صليبية، يقول فلوز: "هذا يعني أن مفهوم الحروب الصليبية لم يتغير في الأوساط الفلسفية عما هو في الأوساط الدينية، ذلك أن آراء فلاسفة عصر الأنوار الأوربي لا تختلف نوعية فيما يتعلق بهذه المسألة عن آراء المبشرين ".

لقد حدث انقلاب في القرن التاسع عشر يتعلق بتطور حركة التبادل على طرفي المتوسط، لكن ذلك جاء في نهاية مرحلة طويلة من تطورين حضاريين فرقا الشرق عن الغرب، يقول ميكال: " إن الهوة بدأت بالاتساع بين العالم الإسلامي وأوربا، منذ أواخر القرون الوسطى ومع بداية عصر النهضة حول أسس الثروة لدى الأفراد والجماعات، تلك الأسس التي أدت إلى التفاوت الكبير، بل إلى البعد الهائل بين الشرق والغرب ".

تطرح الفصول الأخيرة من الكتاب المشاكل الراهنة وجذورها التاريخية، مثل علاقة الإسلام بالعلمنة، وهنا تحتل النقاش قضية سلمان رشدي، وتأتي مسألة إقامة دولة يهودية ودور أوربا في ذلك، ومدى ما خلق من تباعد بين العالم العربي وأوربا، ويتطرق النقاش إلى قضايا اللحظة الراهنة والتي هي بمثابة مشكلات مثل الانفجارات الديموغرافية (السكانية) وهجرة العرب والمسلمين إلى أوربا والغرب، لقد حدث في حقبة من حقب التاريخ أن هاجر سكان أوربا في اتجاه بلدان العالم عبر الاستعمار، ثم حدثت، وتحدث اليوم، هجرة معاكسة من بلدان العالم في اتجاه أوربا وأمريكا.

صراع أم تكامل؟

ويلخص شفالييه غاية الكتاب بالقول: "السؤال الذي يطرحه اليوم جميع العرب، سواء أكانوا في بلدان إفريقيا الشمالية أم في بلدان المشرق، يتعلق بمستقبل العلاقات بين الشرق والغرب، فهل سيقوم نزاع مسلح بين أوربا والقسم الإسلامي من حوض البحر المتوسط؟، أم سيكون هناك تعاون وتكامل بينهما؟ أعتقد أن التكامل مرغوب فيه بمقدار ما أصبح ضرورياً، وهدفنا من مداولات هذا الكتاب التمهيد لإقامة تكامل فاعل بين الكتلة الأوربية والكتلة العربية في حوض البحر المتوسط ".

لا شك في أن الكتاب موجه بالدرجة الأولى إلى القارئ الفرنسي والغربي عامة، ليتعرف إلى الإسلام والعرب، إلا أن ترجمة الكتاب إلى العربية التي قام بها باقتدار كل من الأستاذين منير إسماعيل وهاشم صالح ستمكن القارئ العربي من الاطلاع على آراء مفكرين غربيين متعاطفين مع قضايا العالم العربي، وقبل التعاطف فإن المتحاورين مدركون للمسئولية الملقاة على عاتق العالمين المتجاورين في سبيل ازدهار إنساني وتبادل حضاري عبر المتوسط.

إن الكتاب لا يضع حلولاً ولكنه يطرح تساؤلات في سياق حوار طويل، ومن هنا فإن ترجمة الكتاب إلى العربية تساهم في الغاية التي وضع من أجلها أصلاً، أي تنمية الأسئلة حول المسائل المتفرعة عن العلاقات بين العالمين.

 

خالد زيادة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الكتاب