إلي أن نلتقي

رجل لم يكن هناك

التاريخ شيء لم يحدث. والمؤرخ رجل لم يكن هناك..".

لا أذكر من قالها.لكنني أتذكرها كلما طالعت كتابا من كتب التاريخ العربي فدخلت في متاهاته دون أن أستطيع الخروج.خضم هائل من المكائد والحروب وقيام الدول وأفولها، ومع ذلك لا يوجد شيء يمكن التيقن منه أو الركون إليه. لقد تداخل الكذب في الصدق. وعشش الوهم داخل أنسجة الحقيقة.

قرأت أول سطور التاريخ في كتب المدرسة. وهي أسوأ أنواع الكتابة التاريخية. فهي ليست فقط مليئة بالثغرات وإهمال العصور والشخصيات التي لا ترضي النظام الحاكم، بل إنها تفتقر أيضا إلى العنصر الإنساني. تحيل كل شيء إلى أسباب ومسببات جاهزة للحفظ. صورة محنطة للتاريخ يرددها التلاميذ كالببغاوات.

ثم تعرفت على الوجه الخيالي للتاريخ من خلال روايات جورجي زيدان. وهكذا تحولت الفتن والأحداث الدامية إلى قصص من العشق الموله. وأصبحت تقلبات الدول مجرد مصادفات فردية تعسة وأصبح في كل حقبة تاريخية عذراء لا هم للملوك والسلاطين إلا التغرير بها.. أو طفل ضائع تعقد كل المؤامرات لإبعاده عن أبويه. ثم أدركت أن التاريخ هو أشد قسوة وأكثر جدية من مجرد مصادفة. وأن الحب هو استثناء عابر وسط عهود الاستبداد الطويلة. قرأت كتب التراث بعد ذلك محاولا أن أصل إلى جذور الحقيقة. ولكنها ظلت مراوغة. كانت الأوراق الصفراء تعرض الحقيقة ونقيضها بالدرجة نفسها من القوة والإحكام. كان تاريخا يعتمد على الذاكرة الشخصية. وتتحكم في ذات المؤرخ نوازع الخوف والرهبة والتوقي من غدر الزمان وبطش السلطان.. تاريخا خائفا مرتعدا.

وتواصلت رحلتي مع كتب التاريخ المعاصر التي تدعي الموضوعية وتدعم رأيها بالوثائق وإذا بالأحداث - الأحداث نفسها- تنقلب إلى النقيض. كل مؤرخ يقرأ التاريخ وفق منظور معين ويقدم له تفسيرا مختلفا. وفي النهاية فإن كل ما فعلو هو أنهم أفقدوا التاريخ تلك الهالة الرومانسية التي كانت تحيط به دون أن يقدموا له مذاقا مختلفا. وعندما كنت في زيارة إلى أحد البلاد العربية، سألتهم عن كتب التاريخ الخاصة ببلدهم فنظروا إلي في فزع ثم قالوا بتردد " التاريخ هنا مسألة حساسة. ولا توجد لدينا كتابات قاطعة بهذا الشأن ". وعندما سألتهم في دهشة عما يدرسه الأطفال في المدارس قالوا في ثقة.. " كل شيء.. فتوحات الإسكندر.. الثورة الفرنسية.. حرب الاستقلال الأمريكية.. و.. و... ".

ويظل التاريخ العربي غريبا. ويبدو أننا لكثرة ما نعيش في الماضي لا تستطيع أن نراه جيدا. فهو يكتسب بالتقادم نوعا من القدسية لا يمكن المساس بها. ويتخذ الحكام صفات مطلقة لا تدع لنا مجالا لانتقادها. ويلبس السفاحون ثياب القديسين لأن القديسين الحقيقيين لا يقدرون على لبسها. ونفتقد ذلك العقل الحر القادر على الجدل بحيث يفرق بين ما هو أصيل وما هو زائف.