الأمم المتحدة على مشارف نصف القرن الثاني: التحدي الهائل والفرص الذهبية محمد الرميحي

الأمم المتحدة على مشارف نصف القرن الثاني: التحدي الهائل والفرص الذهبية

حديث الشهر

الحديث عن دور الأمم المتحدة في القضايا الشائكة في العالم من حولنا وعن قضايانا العربية الملحة حديث ليس جديدا، فالدوريات العالمية والعربية تزدحم بالدراسات المكثفة والتفصيلية، ونحن في "العربي" أيضا طالما انتبهنا لأهمية هذه المنظمة الدولية. فقد نشرت "العربي" دراسات ومقالات حول الأمم المتحدة ومجلس الأمن من منظورات عدة معظمها أصيل ويحمل خبرة طازجة لمن واكبوا عملها أو من لهم الاطلاع الكافي ليعلقوا على بعض ما تتخذه هذه المؤسسة الدولية من قرارات أو أفعال مادية على الأرض.

لعل من المناسب أن نعود إلى الحديث عن دور الأمم المتحدة ومجلس الأمن من جديد لعدة أسباب، أولها الدور الذي قامت به الأمم المتحدة ومجلس الأمن منذ خمس سنوات خلت عندما اتخذ الأخير مجموعة من القرارات مهدت لردع العدوان العراقي على الكويت، وثانيهما الاحتفال بمرور نصف قرن على إنشاء هذه المؤسسة الدولية، والتطلع إلى دورها الحيوي والعقبات التي تواجهها لتحقيق الأهداف الرفيعة التي تضمنها ميثاق إنشائها الذي كان من أهدافه الأولى تحقيق السلم بين الأمم والارتفاع بمستوى المعيشة للشعوب في جو من الحرية أرحب وأفسح.

ولعله من المصادفات الجميلة أن أعود إلى الحديث عن أحوال المنظمة الدولية الأولى بعد أن تناولها المرحوم أحمد زكي في حديث الشهر في هذا المكان قبل واحد وعشرين عاما ( أغسطس 1974م ) وتحت عنوان يظهر التشاؤم - وقتها - من دور الأمم المتحدة فقد اختار عنوانا لمقاله ذاك هو هيئة الأمم المتحدة: تركت الكرة في الميدان وجلست تشهد اللعب مع المشاهدين!" لقد كان ذاك العنوان ومحتوى المقال يحملان في طياتهما العتب الخفي والظاهر على دور الأمم المتحدة تجاه القضايا العربية المثارة حينئذ في زمن اشتد فيه التنافس بين القطبين الكبيرين وقتها الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة.

ولقد تفاءل المعلقون والمتابعون لدور الأمم المتحدة تارة، وتشاءموا تارة أخرى معتمدين على توقعاتهم لهذا الدور ودور مجلس الأمن وأجهزتهما المختلفة، ناظرين إلى القضايا ذات الأولوية الوطنية والإقليمية لديهم، وما إذا كانت هذه المنظمة الدولية شارعة في التدخل فيها تدخلاً إيجابياً أم ضاربة عرض الحائط بها تاركة المجال للاعبين الأساسيين يقررون مصير الصراع، وهي تقف متفرجة. وبين التفاؤل والتشاؤم في أعمال الأمم المتحدة يتأرجح بندول السياسة الدولية. ميثاق الأمم المتحدة الذي وقعته خمسون دولة في سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة في يونيو 1945م أصبح ساري المفعول لأول مره في 24 أكتوبر 1945م (وسمي ذلك اليوم من أكتوبر يوم الأمم المتحدة) وقد وقع الميثاق وبقايا دخان الحرب العالمية الثانية مازالت في مواقع المعارك متصاعدة مخلفة وراءها نظاما دوليا متهاويا وعلاقات دولية منهارة على أمل وضع نظام دولي جديد، وما لبث هذا النظام أن اصطدم بالحرب الباردة والقاسية التي نشبت بين معسكرين- برغم توقيعهما معاُ على الميثاق- أخذا يتباعدان كل منهما عن الآخر في الأهداف والوسائل، آخدين معهما إلى هاوية هذا الصراع البارد دولا وحكومات جديدة، في العالم الثالث الذي بدأت دوله تظهر إلى الوجود، وأصبحت الأمم المتحدة بعد حين مسرحاً للصراع بدلاً من الوفاق.

الناظر إلى تاريخ إنشاء الهيئات والمواثيق الدولية التي تهدف إلى الحفاظ على السلام والأمن يجد أنها تنشأ دائما بعد صراعات طويلة ومريرة، فبعد الحروب النابليونية اجتمع مؤتمر فيينا سنة 1815، وحددت الدول المشاركة فيه مسار أوربا لما بعد هذه الحروب، واتفقت على قواعد جديدة حكمت أوربا والعالم لعقود من السنين، هذه القواعد هي التي تحول في ظلها العالم إلى مستعمرات مقسمة بين دول أوربا تسببت في القضاء على الدولة العثمانية وعلى قوة محمد على الناشئة في مصر، وفرضت أوربا هـيمنتها على كل مصادر الثروة والقوة في العالم، وبعد الحرب العالمية الأولى سنة 1918 تم الاتفاق على معاهدة " فرساي " بين المنتصرين، وولد عن هذا الاتفاق "عصبة الأمم" ولكنها كانت قصيرة العمر فما لبثت آلياتها أن تجمدت في مواجهة الصراعات المستجدة والتناقضات الدولية التي تمخضت عنها الحرب العالمية الثانية وهي التي أسفرت بدورها عن إقرار ميثاق الأمم المتحدة، وكان الرئيس الأمريكي روزفلت هو أول من أطلق تعبير الأمم المتحدة في عام 1942 على أثر مؤتمر عقدته 26 دولة لمواجهة خطر المحور.

وبعد الحرب العالمية فرضت الأمم المتحدة نفسها مع تطور جديد في آلياتها وهي أن تكون جمعيتها العامة مكونة من كل الدول المستقلة والمقبولة في الأمم المتحدة على قدم المساواة على أن يكون لها جهاز آخر أكثر فاعلية، وقدرة على الحسم هو "مجلس الأمن " الذي يهيمن على عضويته الدائمة الخمسة الكبار الذين خرجوا منتصرين من الحرب العالمية الثانية، ويكون مجلس الأمن بمنزلة مجلس إدارة وتحكم ولا تطبق قرارات الجمعية العامة إلا بموافقته، ويمتلك كل واحد من هؤلاء الخمسة الكبار حق " الفيتو " أي الاعتراض دون إبداء أسباب على أي قرار منه، أو من الجمعية العامة فيتجمد ذاك القرار.

المعضلة التي يراه ا المتشائمون والتي تواجه أعمال الأمم المتحدة اليوم هي أن الحرب الباردة التي وازنت، وربما عطلت، مسار الأمم المتحدة أو معظم أهدافها قد انتهت في نهاية الثمانينيات دون مؤتمر دولي ينظم مسار العالم في ضوء المتغيرات الهائلة الجديدة التي حدثت، ودون ميثاق يحدد مبادئ النظام العالمي الجديد. لذا فقد نشأ هذا الفراغ السياسي الذي يشهـده العالم اليوم وتزداد مخاوفه منه.

أعمال الأمم المتحدة بها نجاحات قليلة وإخفاقات أكثر. وهي مرحلة من تاريخ العالم المعاصر لم يسبق لها مثيل، وقد عبر عنها بطرس بطرس غالي الأمين العام الحالي للأمم المتحدة بقوله: "منذ أن توليت منصبي أمينا عاما للأمم المتحدة في مطلع 1992م وأنا أعايش مرحلة انتقالية جديدة، بمعدل مرة كل ستة أشهر".

نجاحات عديدة.. ولكن

لقد قامت الأمم المتحدة بإنجاز تاريخي عندما تصدى مجلس الأمن للعدوان العراقي على الكويت منذ أغسطس 1990 حيث أصدرت مجموعة من القرارات الواضحة والرادعة، وكان ذلك قمة الإنجاز لهذه المؤسسة في عصر التحولات الدولية، وبدا العالم وقتها راغباً بل جاداً في تحقيق أهداف ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة.

ففي هذه الحالة تحولت المبادئ المكتوبة على الورق إلى واقع فعلي. وأصبح العالم بعدها يأمل في منجزات أخرى لإحلال الحق والسلام والأمن، ولكن الإحباط الذي أصاب همة المنظمة - وقبلها الدول الرئيسية المشاركة فيها - في ساحات مثل البوسنة والهرسك والصومال وأفغانستان أوصل أعمال المنظمة إلى الفتور، وأصاب المؤمنين بدورها بإحباط، انعكس هذا الأمر في أحد مقالات الأمين العام الحالي حين يقول: " لا أستطيع القول إن محصلة المنجزات أخيرا أكبر بكثير من النكسات التي واجهت أجهزة الأمم المتحدة وبرغم هذا التشاؤم والحذر فان الشعوب ما زالت تعلق آمالا كبارا على هذه المنظمة الدولية وأجهزتها المختلفة، لأنها عندما وقعت ميثاقها قبل نصف قرن فقد فعلت ذلك حتى تنفذ الالتزامات التي جاءت بهذا الميثاق، كما أن هناك اعتقادا راسخا في وجدان العالم بأنه لا يستطيع أن يستغني عن هذه المنظمة لتحقيق أمنه وتقدمه".

وإذا حسبنا نجاحات هذه المنظمة من خلال زيادة الوعي بالمبادئ التي أسست عليها فإننا نجدها في مثالين واضحين: أولهما البرتغال التي هيمن عليها لفترة طويلة حكم متسلط قاوم طويلا التخلي عن مستعمراته في إفريقيا، وقد عانت تلك الشعوب الإفريقية من التسلط البرتغالي وتصاعدت الانتقادات ضد ممارساته سنة بعد أخرى من فوق منابر الأمم المتحدة ووكالاتها المختلفة، وكانت وتيرة الانتقادات مريرة وقاسية الأمر الذي مهد لحدوث انقلاب في البرتغال مما أدى إلى تخلي الحكومة الجديدة عن تلك المستعمرات. لم يكن للأمم المتحدة هنا قدرة بالفعل، ولكن كان لها فقط قدرة النقط والإعلام المستمر.

وتعطينا الجزائر مثلا آخر، فقد ظلت فرنسا لسنوات تدعى من فوق منابر الأمم المتحدة أن الجزائر جزء منها وأن تدخل الأمم المتحدة في الموضوع هو خرق لميثاقها على أساس أنه تدخل في الشئون الداخلية، ولكن القضية الجزائرية فرضت نفسها على هذا المحفل الدولي وحاصرت المنطق المعوج لفرنسا وتداعت تفاصيل القصة المعروفة عندما استقبلت الجمعية العامة وقوفاً وبالتصفيق أول رئيس للجمهورية الجزائرية.

هذان مثالان فقط ضمن أمثلة عديدة استطاعت فيها دول من العالم الثالث أن تنجز استقلالها ولو جزئيا من فوق منابر الأمم المتحدة.

المخاوف على دور الأمم المتحدة

تثير التطورات النوعية التي يشهدها العالم منذ بداية عقد التسعينيات احتمالات عديدة منها تجاهل دور الأمم، بل والمنظمات الدولية، وتقول وجهـة النظر هذه إن الولايات المتحدة التي خرجت من الحرب الباردة المنتصر الوحيد والأقوى سوف تشكل قرارات الأمم المتحدة في المستقبل وبالتالي تتداخل المصالح المباشرة لها بما قد يتعارض مع مصالح الدول الأخرى. وقد يكون لهذا التخوف أسبابه، لأن وجهة النظر هذه تمضي لتقول: صحيح أن الحرب الباردة والصراع بين الجبارين قد عطلا قضايا دولية كثيرة. ولكن هذا الصراع، أيضا، دفع بقضايا أخرى إلى أن تجد حلولا منطقية. بل إن (التعددية) في قمة المؤسسة الدولية أبان الحرب الباردة كانت مدخلاً لعرض وجهة نظر الضعفاء والمقهورين وكان بعضها يجد المساندة المعنوية والإعلامية على الأقل من طرف من الطرفين. لقد استخدم حق النقض (الفيتو) إبان الحرب الباردة (279) مرة في مجلس الأمن وعطل هذا الحق - بغض النظر عن الدول التي استخدمته - نظر قضايا دولية شائكة وعاجلة تفاقمت بعد ذلك إلى حروب، في المقابل لم يستخدم حق النقض منذ سنة 1990م إلا مرات محدودة جدا، وظاهر ذلك هو الانسجام والتوافق الدوليان.

أما الموضوعات الأكثر جدية في إثارة المخاوف على الدور المستقبلي للأمم المتحدة فهي أولاً المشكلة المالية، فكما هو معروف أن المؤسسة الدولية ومنظماتها المختلفة تعاني نقصا شديداً في التمويل بعد أن اتسعت أعمالها سواء في قطاع حفظ السلام أو صنع السلام أو في قطاع التنمية بأشكالها المتعددة، ومازالت دول عديدة مدينة للأمم المتحدة بمبالغ ضخمة وهي دول كبيرة وغنية تخلفت عن تسوية حصتها في ميزانية المنظمة الدولية لأسباب سياسية، كما أن هناك انتقادات مالية توجه إلى طريقة الأمم المتحدة في التصرف في أموالها، هذه الانتقادات تظهر في الصحف وتأتي أيضاً من مؤسسات رقابية وتشريعية وطنية في دول عديدة، مما يربك أعمال المنظمة بل ويهدد بعض أنشطتها بالتوقف.

بجانب القضية المالية هناك ثانيا مخاوف من عدم فعالية الأمم المتحدة، خاصة أنها تتكون من دول ذات سيادة، وقد طرأت تطورات مهمة على مفهوم السيادة - في عصر يتسم بالسرعة، وانتقال المعلومات، وشبكات التجارة الدولية. ولم يعد الحديث اليوم يدور عن تأثير الحكومات في الأحداث ولكن عن تأثير الاقتصاد العالمي، إلى درجة أن بعض الدول قد تنازلت طواعية عن بعض جوانب سيادتها لمؤسسات دولية أو مجموعات اقتصادية متعددة مما يتعدى الحدود الدولية المعترف بها بين الدول. وهناك أيضا فورة من المنازعات الدينية والعرقية والاجتماعية والثقافية وحتى اللغوية تمزق الدول القديمة لتظهر دول جديدة. لذلك كله فإن (الدولة) بمفهومها القديم تتعرض لتحولات غير مسبوقة، دون أن تكون هناك مرجعية دولية تقوم بضبط هذه التحولات مثل مؤسسة الأمم المتحدة، فإن مثل هذه التحولات قد تقود إلى منازعات لم يفترضها أو يتخيلها الذين قاموا بصياغة ميثاق الأمم المتحدة في ذلك اليوم الصيفي على ضفاف المحيط الهادي في سان فرانسيسكو.

وتتعدد المخاوف حول دور الأمم المتحدة لتصل إلى شخص الأمين العام، وربما لأنه اليوم شخصية عربية تزداد الانتقادات لدوره. لقد قيض للأمم المتحدة منذ إنشائها أن يصل إلى أمانتها العامة إما رجال من دول محايدة كالنرويج والسويد والنمسا، أو من دول فقيرة مثل كمبوديا و بيرو ومصر. وإذا كان الأشخاص القادمون من دول محايدة يفترض فيهم الحياد الكامل في المشكلات المعروضة ولأنهم أوربيون فقد نشطوا نصوص الميثاق المتعلقة بعملهم. إلا أن القادمين من دول فقيرا لها علاقة بمشكلات عالقة يتعرضون - مهما بذلوا من جهد لإظهار حيادهم - لاتهامات مختلفة عندما لا يروق لهذا الطرف أو ذاك الموقف الذي يتخذونه. ولقد جرت مواثيق المنظمات الدولية - في الغالب- على اعتبار الأمين العام (الموظف الإداري الأكبر) ولم تسند إليه اختصاصات سياسية، بل حرصت بعض المواثيق الدولية - كميثاق منظمة الوحدة الإفريقية - على أن تلقبه بالأمين العام الإداري، وفي حالة الأمين العام للأمم المتحدة فإن بعض مواد الميثاق تعطيه دورا سياسيا محدودا، إن استخدمه بما لا يروق لطرف من الأطراف فتحت عليه أبواب جهنم !! والنقد الموجة للامين العام الحالي لا يخلو من دوافع سياسية، ومع الأسف يأتي معظمه من بني جلدته أي منا نحن العرب..... فمعذرة.

العرب والأمم المتحدة

قصة العرب في الأمم المتحدة تستحق الرواية، فقد دخل العرب إلى هذه المنظمة على دفعات مؤسسين ثم منضمين. كما أن خلافاتهم فيما بينهم، أو بينهم وبين الآخرين، وجدت صداها في أروقة الأمم المتحدة، على الرغم من أن العرب قد أنشأوا منظمة خاصة بهم هي جامعة الدول العربية في الوقت عينه الذي ظهرت فيه الأمم المتحدة. كان عدد الوفود العربية في مؤتمر سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة خمسة، يمثلون الدول العربية الخمس المستقلة وهي مصر وسوريا والعراق والمملكة العربية السعودية ولبنان. ثم بدأت الدول العربية الأخرى تدخل إلى النادي الدولي تباعاً ولكن ليس دون عقبات، فقد كان دخول الأردن عملية شاقة لأنه دخل ضمن خمس دول كانت محل مساومة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي (سابقا)، وتمت صفقة بين الدولتين الكبريين، ودخلت تلك المجموعة من الدول بما فيها الأردن، أما ليبيا فقد كان لها مع الأمم المتحدة قصة أطول بعد أن تم تقسيمها بين الاستعمار الأوربي إلى مناطق، فذهبت "برقة" إلى بريطانيا و "طرابلس" إلى إيطاليا و "فزان" إلى فرنسا وصوتت اللجنة السياسية في الأمم المتحدة فوافقت على هذا التقسيم، إلا أن الدول العربية الأعضاء تساندها دول إسلامية وأخرى من العالم الثالث قاومت هذا التقسيم. وأقرت الأمم المتحدة، بعد مناورات سياسية، وحدة ليبيا ووضعتها تحت إدارة الأمم المتحدة لثلاث سنوات بعدها أصبحت ليبيا دولة مستقلة في ديسمبر 1951 وعضواً في الأمم المتحدة. وفي وسط عقد الخمسينيات ( 1956 ) دخلت المغرب وتونس والسودان، وبقيت الجزائر في الشمال العربي الأفريقي التي قبلت في 1962 بعد نيل استقلالها عن فرنسا.

ثم جاء دور الكويت التي نالت استقلالها عام 1961، وحتى تأخذ الدولة الجديدة - أية دولة - مقعدها في الأمم المتحدة كان عليها أن تمر بمرحلتين: أولاهما موافقة مجلس الأمن بأغلبية أعضائه على شرط ألا تعترض إحدى الدول الخمس الدائمة، وثانيتهما موافقة الجمعية العامة بأغلبية أعضائها. وكان الاتحاد السوفييتي وقتها غير مستعد أول الأمر للموافقة على عضوية الكويت، ولكن سرعان ما عدل عن موقفه وأصبحت الكويت عضواً في الأمم المتحدة في 14 مايو 1963 ورفع وزير خارجيتها آنذاك ( ولا يزال ) الشيخ صباح الأحمد علم الكويت أمام مبنى الأمم المتحدة. ولقد كان للكويت والأمم المتحدة تاريخ لاحق وحافل، فبعد العدوان العراقي على الكويت أصدر مجلس الأمن مجموعة من القرارات - مستخدماً لأول مرة الفصل السابع من الميثاق - والتي بموجبها قامت الدول المحبة للسلام واستتاب الأمن الدولي بطرد العدوان العراقي. وفي أوائل السبعينيات دخلت بقية الدول العربية في الخليج العربي الأمم المتحدة، بعد انسحاب بريطانيا كلياً من شرق السويس وانضمت لأخواتها العربيات وبقية دول العالم في هذا المحفل العالمي.

قصة العرب مع الأمم المتحدة لها بعد آخر، فقد تأثرت الدول العربية - بشدة - بالحرب الباردة لدرجة شبهها بعض الكتاب بأن حرباً باردة عربية قد نشبت في الخمسينيات والستينيات من هذا القرن بين العرب أنفسهم، تحولت في أحيان كثيرة إلى حروب ساخنة. فالحرب الأهلية اللبنانية سنة 1958 قسمت العرب فيما بينهم وعندما تعقدت هرول الجميع إلى الأمم المتحدة شاكين ومشكيا عليهم، إلى درجة أن الجمعية العامة عقدت دورة خاصة في سنة 1958 أسمتها " دورة مشكلة لبنان" وجاء العرب منقسمين بخطبائهم وهاجم بعضهم بعضا، فيما جلست وفود الدول الأخرى تستمع! والعجيب أن الجمعية العامة أصدرت قراراً جماعياً بعد ذلك صاغته الوفود العربية بذاتها.. ويدعون فيه أنفسهم للتفاهم فيما بينهم، ويدعو الجامعة العربية للقيام بدورها !! ومنحت الجامعة العربية منذ ذلك الوقت مقعد المراقب الدائم في الجمعية للأمم المتحدة. في الحرب العربية الباردة - التي كانت امتداداً بشكل من الأشكال للحرب الباردة بين العملاقين - شهدت أروقة الجمعية العامة ومجلس الأمن شكاوي العرب ضد بعضهم البعض، وفي تلك الفترة لا يكاد ينعقد مجلس الأمن إلا ويشهد شكوى من طرف عربي ضد طرف عربي آخر. القضية العربية الأخرى التي تضخمت وسط أضابير الأمم المتحدة هي قضية فلسطين، في السنوات الأولى لم تكن الأمم المتحدة بدائرتيها الأساسيتين مجلس الأمن والجمعية العامة تعرف قضية فلسطين بهذا الاسم فقد كان العرب يثيرونها تحت عنوان آخر عندما تناقش تقارير " وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين" وما لبثت القضية ذاتها أن طفت على سطح مناقشات الأمم المتحدة أولا باستحياء، ثم بقوة، حتى أصبحت القضية الرئيسية سنويا، ونوقشت بكل تشعباتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى حقوق الإنسان ومنحت منظمة التحرير الفلسطينية مقعد مراقب في الأمم المتحدة. إلا أن القضية الفلسطيني / الإسرائيلي على أساس أن الجانبين المعنيين قد وجدا بينهما سبل الاتفاق على حل لهذه القضية الشائكة، إلا أن الأمم المتحدة ستبقى في إطار النظام العالمي الجديد الذي يتشكل الآن، محطة مهمة للدول العربية وقضاياها العالقة في منطقة شديدة السخونة السياسية.

مستقبل الأمم المتحدة

ونحن ننظر إلى المستقبل بعد خمسة عقود من نجاحات وإخفاقات هذه المؤسسة الدولية التي من المفروض أن تكبح صيحات الحرب وتضبط آليات السلم وترعى التعاون والتنمية بين الدول نجد أن مستقبلها يتحدد فيما تسفر عنه المرحلة الحالية التي تمر بها، فهي تبحث عن دور جديد مغاير لما كان عليه الحال إبان الحرب الباردة، فقد تغيرت القوى والموازين الدولية. فلا بد والأمر كذلك أن تتغير الوسائل أيضاً. لقد طرأت على منظومة العلاقات الدولية خلال السنوات القليلة الماضية. متغيرات عميقة سوف تترك دون شك آثارها الواضحة على تركيبه وآلية هذه المنظمة. ونحن نسمع اليوم أن دولاً كاليابان وألمانيا وربما دول أخرى مثل إيطاليا تطمع في أن يكون لها مقعد دائم في مجلس الأمن أي مجلس إدارة العالم. ومن الملاحظ أن اليابان وألمانيا يقع عليهما الآن النصيب الأوفر من تمويل المنظمة، كما أن ألمانيا قد شاركت لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية بقوات عسكرية في البوسنة وهي الأولى خارج نطاق التحالف الأطلسي. ولم يعد حفظ السلام بالمعنى السلبي هو المطلوب فقط في عالم تنهار فيه العلاقات الثابتة والمستقرة، ولكن المطلوب تحقيق السلام بالمعنى الإيجابي الذي يتطلب بجانب الرغبة السياسية القدرة المالية أيضاً والإجماع..

وهناك حديث عن تفعيل محكمة العدل الدولية وهي الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة، وتفويضها صلاحية مراقبة السلوك التصويتي للدول الدائمة العضوية وتقرير ما إذا كان هذا السلوك يتطابق مع أحكام الميثاق ويحقق مقاصده أم يتناقض معها مفضلاً المصالح الوطنية الضيقة على مصالح المجتمع الدولي، ثم هناك تساؤل يدور حول مدى ملاءمة الإبقاء على دول بعينها تتمتع بحق النقض ( الفيتو ) داخل مجلس الأمن، ولماذا لا يقنن هذا الحق!!

إن الحديث يصل أيضاً إلى المطالبة بميثاق جديد يستوعب ما قامت به الأمم المتحدة منذ إنشائها كما يستوعب المتغيرات الدولية المحتملة لنصف القرن الجديد القادم.

لقد أضيفت مهام جديدة لمنظمة الأمم المتحدة منها على سبيل المثال مكافحة المخدرات، القضاء على الفقر، تشجيع الثقافة ورعايتها، رعاية الأطفال وحقوقهم، حماية البيئة، النهوض بالمرأة، السكان والهجرة بالإضافة إلى موضوعات في التجارة الدولية والقانون الدولي وحقوق الإنسان، ومساعدة بعض الدول من أجل التحول من أنظمة دكتاتورية إلى أنظمة مدنية ديمقراطية وتعددية، ولقد قامت أجهزة الأمم المتحدة على سبيل المثال بالرقابة على الانتخابات في ثلاثين دولة ناشئة، وهو عدد يتزايد باطراد.

هذه المهام وغيرها التي توسعت أو استجدت من أعمال الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة بالغذاء والزراعة أو التجارة أو رعاية المنكوبين تحتاج إلى تمويل وتقنية ومساندة أيضاً، بل تحتاج إلى تفكير جديد وحلول مبتكرة في مناخ يسوده الأمل والتفاؤل.

الحاجة ملحة في المستقبل، خاصة لدول العالم الثالث، لكي تساهم في التوجهات الجديدة لهذه المنظمة العملاقة لتطوير أدائها في اتجاهين: الاتجاه السياسي والاتجاه الاقتصادي والاجتماعي، حيث إن القضايا الدولية وحتى الإقليمية والمحلية سوف تجد لها مكاناً أوسع في الأعوام القادمة على مسرح الأمم المتحدة في نيويورك أو في مؤسساتها المختلفة المنتشرة في العالم.

إن الاقتناع بالحقوق الثابتة للشعوب والدول وتأكيد القيام بالواجبات الدولية أمور سيزداد عرضها على مسرح الأمم المتحدة ونحن نرى أمامنا اليوم أن المشكلات في معظمها لم تعد محلية، فقضايا مثل الانتفاع بالمياه، أو إقرار حلول نهائية للحدود المختلف عليها، أو مكافحة الجريمة الدولية للإرهاب الدولي، بل حتى تنظيم بث وسائط الإعلام الحديثة، كل ذلك وغيره يتطلب جهداً دولياً في الوقت الذي يتسع فيه تعاون الشعوب القريبة من بعضها البعض جغرافيا أو سياسياً، مثل الدول الأوربية ودول أمريكا اللاتينية في الإشارة إلى مثالين فقط، من بين أمثلة أخرى، في كيفية تنظيم الدول والشعوب لنفسها لتؤثر أكثر كمجموعة في مسيرة هذه المنظمة وبالتالي توجهات العالم في القرن القادم.

بين المبادئ والواقع

على الرغم من أن نصوص ميثاق الأمم المتحدة حافلة بالمبادئ التي لو طبقت لأصبح العالم أكثر أمناً، فإن بعضها في السابق كان نصوصاً خاملة على الورق لعدم اتفاق الإرادة الدولية على تفعيلها، ولنا في نصوص الفصل السابع من الميثاق قدوة. فقد كانت هذه النصوص تحرم اللجوء للحرب في العلاقات الدولية، وتحرم الاستيلاء على أرض الغير بالقوة، بل تفصل طرق قمع العدوان، وقد جرى العمل بهذه البنود على أثر رفض العراق الانسحاب من الأراضي الكويتية التي احتلها في أغسطس 90 والامتثال للقرار 660 الذي يطالب بالانسحاب، فصدرت بعد ذلك مجموعة من القرارات من بينها القرار رقم 678 في 29 نوفمبر 1990 الذي يسمح للدول الأعضاء المتعاونة مع الكويت باستخدام جميع الوسائل اللازمة لدعم وتنفيذ القرار 660، وكل القرارات اللاحقة له لإعادة السلم والأمن الدوليين إلى نصابهما.

إعمال هذه المواد لأول مرة فتح آفاقا جديدة للحفاظ على الأمن والسلم ووضع سابقة تستطيع أن تطمئن لها الدول الصغيرة والمسالمة من العدوان. وللأمم المتحدة اليوم قوات حفظ السلام أو صناعته في أكثر من عشرين موقعاً دولياً، كما أن هناك بعض بؤر التوتر لم تقرر الإرادة الدولية التدخل فيها بعد، أو أن هذه الإرادة محدودة بظروف إقليمية ودولية قاهرة وتمنعها من ذلك.

غاية القول أن الأمم المتحدة بمؤسساتها المختلفة، وآلياتها، تشهد تطوراً وتعيش عصر تحولات كبرى، ولقد قاومت حتى الآن جليد الحرب الباردة، وهي تقاوم اليوم الشد والجذب بين القوى الدولية الجديدة، ولا شك أن هناك إخفاقات تحسب ضدها في الصومال وأفغانستان والدول الجديدة في أرض الاتحاد السوفييتي السابق، بجانب نجاحاتها العديدة في ميادين وقضايا دولية كثيرة. ولكنها اليوم على مفارق طرق يعترف بها أول من يعترف القائمون عليها، إلا أنها كمؤسسة في نهاية المطاف ملاذ لكل محبي السلام والتعاون، وهي الطريق الأرخص والأوفر لحل المنازعات في عالم عرف على وجه اليقين ما تجلبه الحروب من دمار. إن هناك تفكيراً جديدا للدور المستقبلي لهذه المنظمة وهو باختصار ليس المعالجة اللاحقة لأسباب الصراع بل السابقة لنزع دافعة كالتصدي بالمعنى الأوسع والأعمق لأسباب الصراع الدولي المتمثل في العجز الاقتصادي والجور الاجتماعي والقهر السياسي ، وهو مفهوم أخلاقي يتزايد في الظهور ويجد بعدا له في القوانين الدولية التي تطمح إلى النظام دولي جديد.

ولن نستفيد نحن العرب ونشارك مشاركة إيجابية في هذا العالم الذي يتشكل أمامنا إلا عندما نقوم بعرض حلول منطقية ودائمة لمشكلاتنا العالقة، ويتخلى بعض عن مفاهيم عفا عليها الزمن في طلب التوسع من جهة وفي التشدق بأيديولوجيات لم تعد صالحة للقادم من السنين. أنه عالم جديد يتشكل في نهاية قرننا هذا له معطياته غير المسبوقة إما أن نفهمه ونلحق به أو نظل في عناء نحاول أن نلحق بالسراب. مع اعترافنا بأن التباين والتعارض في المصالح والأهداف والأفكار سنة تسير عليها المجتمعات المختلفة عبر التاريخ، إلا أن الإنسان يتعلم جزئيا من هذا التاريخ - وقد تعلم - خاصة في ضوء المعطيات العلمية من جهة وتطور وسائل التدمير من جهة أخرى، أن العمل الجاد لمعالجة تعارض الأهداف بالتفاوض، ودرء التباين بالتسامح والتصالح هو الطبيعة الثانية للإنسان، وليس أمامنا إلا دعم المؤسسات التي في ساحتها يحدث التفاوض والتصالح وبمقدورها ردع العدوان.

 

محمد الرميحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات