مساحة ود ممدوح عزام

مساحة ود

الهاتف

حين تتصل به كان يأخذ السماعة بخده، ملصقا أذنه بها ومقربا فمه من المرسلة الصفراء، هامسا في الدائرة المثقبة كأنما يقدم لها نبرات صوته، ويخشى أن تضيع أو تتلاشى خارج الإطار الفضي، حاشرا جسده وراء الحائط قريبا من الممر الصغير الضيق المفضي إلى الحمام، مبتعدا عنا، حذرا، متفاديا أي متلصص منا، ينوي استراق السمع، ومعرفة الأسرار الخفية التي تقال.

ولا يفعل أي شيء، سوى ذلك، تجاه محاولاتنا الخبيثة، وتحرشنا به، وسعينا المحموم، رائحين، غادين، بين المطبخ وغرفة النوم أو الحمام فالممشى والمغسلة، إنما يقتفي آثار كلماتها، ويراقبنا وحسب، مرقصا بؤبؤيه الأسودين، وراء حركاتنا الخرقاء، وتدخلنا الأحمق في قدس لحظاته.

عدا ذلك، فقد كان يرفع صوته، ويحكي بلكنة واضحة، عندما يحدثها عن مدرسته، ومعلميه، وكتبه، ووظائفه، ولعبة الكرة التي تفوق فيها، واللوحة التي رسمها لها، وبطاقة العيد الخاصة بها أو يترنم، ويلوك صوته حتى يستطيع إخراج غنة مملوءة بالدلال، شارحا لها بالتفصيل، كيف استطاع أن يحدق في وجه طالب آخر كان يريد هزيمته بعينيه. ثم يقول "لا!!!" لتعليق غامض أتى عبر الهاتف منها، إليه، أو يضحك ضحكة ناعمة ممجدة قائلا "جميل! رائع!" لحديث بعيد خفي آت عبر الهاتف.

طريقته تلك أسدلت على المكالمات غموضا، جعلنا مسحورين بها، فصرنا ننتظرها جميعا، وننصت - إذ يجيب - لألغازه وهمساته، ونراقب بلهفة لعبة الإشارات التي ينفذها بلا كلل أو ملل.

بيد أننا لا نعرف ماذا حدث!

فقد بدل طقوسه ذات يوم فجأة، وصار يرفع حاجبيه صامتا حائرا لا يدري ماذا يقول وراء الهاتف الشاحب، يتأتئ أو يغمض عينيه إغماضة من يريد أن يوقف حواسه.

في البداية اعتقدنا أن الحركة طريقة مبتكرة، أو براعة جديدة يسيطر بها على انتباهنا لكنها حين تكررت في الأيام العشرة التالية، أدركنا أن شيئا ما قد حدث. لم نعرفه وعجزنا عن فك طلاسم الشعائر التي تحدث أمامنا، فقد واصل الركض، ورفع السماعة، والاتكاء عليها، والاختباء، ليقطع ذلك كله ويقول لأحدنا غاضبا: "تعال! احك مع علي!" "احك مع هادي!".

ومرة واحدة فقط مضى إلى الهاتف، وأدار رقما ما، ثم قرب السماعة إلى فمه، فيما حدقنا فيه، ممسكين قلوبنا على حافة الترقب والانتظار.

لم يتكلم، إذ إن الجهاز ظل يرن، ويرن، هناك بعيدا خلف الحجاب الغامض السري المتحجر، بلا توقف.

 

ممدوح عزام

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات