الحضور المزدوج للإبداع جابر عصفور

الحضور المزدوج للإبداع

يقترن كل حضور إبداعي بنوع من الازدواج في الدلالة والحركة. على مستوى الدلالة، يزدوج الإبداع في إشارته إلى نفسه في الوقت الذي يشير إلى غيره. وأوضح ما يكون ذلك في الأدب حيث تلفت اللغة الانتباه إلى حضورها الذاتي، في الوقت الذي تلفت الانتباه إلى ما يشير إليه هذا الحضور، كأنها الزجاج (المعشق) الذي يلفتنا إلى ذاته في الوقت الذي لا يحجب ما يقع وراءه.

على مستوى الحركة، ينقسم فعل الإبداع على نفسه، أو ينعكس على ذاته، في الازدواج الذي يصل الفعل بتأمله، واللغة المباشرة للإبداع باللغة الواصفة له. وذلك ازدواج يضفي صفة الناقد على المبدع، ولا تُعكر هذه الصفة على عمليات الاختيار التي يقوم بها المبدع أثناء فعل الإبداع، أو على طرائق التنقيح التي يستكمل بها ما قد يشوب التدفق الآلي للتعبير، وإنما تجاوز الصفة ذلك إلى الوعي بالإبداع، ووصفه في فعل يوازي فعل الإبداع نفسه،أو ينسرب فيه، بما يؤكد ازدواج حركة الإبداع، من منظور إشارته إلى العالم الذي يسعى إلى وصفه أو تفسيره أو تغييره، ومن منظور إشارته إلى وعيه الذاتي الذي يسعى إلى تأكيده.

هذا الحضور المزدوج للإبداع ليس وليد عصر بعينه، وإنما هو سمة ملائمة لوجود الإبداع، أو هو خاصية من خصائصه، ما ظل كل إبداع يلفتنا إلى كيانه، من حيث هو دال يلفت الانتباه إلى نفسه، ومدلول يلفت الانتباه إلى غيره، ومن حيث هو وعي بالذات ووعي بالغير على السواء. ويبدو أن انصرافنا التقليدي، أو المعتاد، عن الحضور الذاتي للدال في النتاج الإبداعي، وتعاملنا معه كما لو كان زجاجا شفافا لا نراه في ذاته بل نرى ما وراءه على نحو نستبدل معه المعنى المجرد للمدلول بالحضور المتعين للدال، هو المسئول عن تجاهلنا للثنائية المحايثة التي ينطوي عليها كل حضور للإبداع، من حيث هي حركة مزدوجة، ومن حيث هو دلالة لا سبيل إلى إدراك قيمتها الجمالية بالتركيز على المدلول وحده دون الدال. وأحسب أن كثرة تعودنا على النظر إلى العمل الإبداعي بوصفه محاكاة للعالم دفعتنا إلى التعلق بمفهوم المرأة في فهم العمل، ومن ثم إغفال النظر إلى حضوره الذاتي مقابل الإلحاح على ما يعكسه.

هكذا، اعتدنا التوقف على الشعر بوصفه وعاء لمعنى نثري، والحديث عن رؤية العالم التي تنطوي عليها القصيدة، كما لو كنا ننظر من زجاج القصيدة الشفاف إلى العالم الذي نتوهم أنها تعكسه، أو تحاكيه، أو تعبر عنه. ونقوم بالتركيز على حوار الشاعر مع الكون أو الكائنات، ونظرته إلى الإنسان أو الطبيعة أو حتى ما وراء الطبيعة، دون ان نقوم بالتركيز نفسه على الشعر الذي يخصص هذه الرؤية، أو يجسد تلك النظرة، أو حضوره الذاتي الذي لا تكف فيه القصيدة عن الحوار مع نفسها، أو عن الحركة المزدوجة التي تنعكس بها على نفسها، فتغدو الرائي والمرئي، الوعي الإبداعي الذي يجتلي حضوره الذاتي في ثنايا القصيدة، أو يبسط ظله عليها في حالات لافتة، من حيث هو وعي بالغير ووعي بالأنا على السواء.

وقد عمق فينا الإحساس بأولوية المدلول على حساب الدال المدارس التقليدية المتعددة في النظر إلى الشعر بخاصة والأدب بعامة. يستوي في ذلك الفهم الكلاسيكي الذي رد الإبداع إلى لون من المحاكاة السالبة للعام الخارجي، فشاع فيه تشبيه العمل الأدبي بالمرآة، من حيث هو صورة تنعكس على سطح لا يشغلنا في ذاته، أو لا نلتفت إلى حضوره الذاتي الذي أطلق عليه النقاد، حديثا، اسم أدبية الأدب على سبيل العموم، وشعرية الشعر على سبيل الخصوص. ولا تفترق نظرية التعبير الرومانسية عن الكلاسيكية في هذا الفهم المرآوي للأدب، فالكلاسيكية فهمت الأدب على أنه محاكاة للخارج، أو مرآة تعكس الطبيعة، ونظرية التعبير فهمت الأدب على أنه محاكاة للداخل، ومرآة تعكس ما في الذات من الوجدان والشعور، وذلك بالكيفية نفسها التي تشغلنا بمفعول الانعكاس عن فعله، أو عن أداته التي هي بعض حضوره الخلاق.

ومن الواضح أن الواقعية لم تكن أسعد حظا في تأثيرها؟ من حيث تأكيد الحضور الإبداعي للدال، فقد استبدلت به المدلول، وكانت مجلى آخر من المجالي التي ترد الأدب إلى محاكاة لأصل خارجي، هو المجتمع في حالة الواقعية التي أكدت فينا ضرورة الخروج من العمل إلى ما يقع خارجه، وقياسه على أصله في المجتمع الذي نبع فيه، قياس صورة المرآة على أصلها.

ولم يتغير هذا الفهم التقليدي للأدب إلا حديثا مع النظريات التي تمردت على مفهوم المحاكاة ابتداء، تلك النظريات التي حاولت أن تؤكد الإبداع من حيث هو نشاط خلاق يجاوز معنى المحاكاة الحرفية أو غير الحرفية، ومن ثم تؤكد حضوره الذاتي من حيث هو وجود يلفت الانتباه إلى كيانه في الوقت الذي يدل على غيره. صحيح أن رد الفعل على نظريات المحاكاة دفع إلى نوع من التطرف في الفهم، ولكن هذا التطرف كان نتيجة طبيعية لأولوية المدلول التي كان لا بد من أن تستبدل بها أولوية الدال. وإذا كان هذا الوضع الجديد قد اكتسب عن الوضع القديم تراتبه القمعي، وتحول إلى صورة مقلوبة للنزعة الحدية نفسها، فإن الممارسة الإبداعية والتصورية أفضت إلى تعديل التراتب القمعي وإزاحته، كما أفضت إلى تأسيس نوع من التوازن الحلاق بين الدال والمدلول، ومن ثم تأصيل مفهوم العمل الإبداعي بوصفه نشاطا دلاليا يلفتنا فيه الدال إلى نفسه بالقدر الذي يلفتنا إلى مدلوله. وذلك وضع أفضى إلى اللازمة الأخرى التي اقترنت فيها النظرة المحدثة للفن بتأكيد. الحركة المزدوجة للإبداع، تلك التي تتجلى. على مستوى اللغة الإبداعية المباشرة، واللغة الإبداعية غير المباشرة، أعني اللغة الثانية الواصفة للغة الأولى التي هي اياها بمعنى أو بآخر.

وإذا عدنا إلى الشعر من منظور هذا الوضع الجديد بعد تمثله وممارسته تمثل لنا الشعر نفسه في ضوء مغاير، وبرز لنا الدال اللغوي في حضوره الذاتي الساطع بعد أن كان كيانا غائبا في إدراكنا، أو بعد أن كان غارقا في المنطقة المظلمة التي لا يقع عليها ضوء الوعي لنا اللغة الواصفة للإبداع بوصفها بعدا من أبعاد اللغة الذاتية التي تتحدث فيها وبها القصيدة عن نفسها في موازاة حديثها عن غيرها.

العالم الخاص للقصيدة

وليس من المصادفة، والأمر كذلك، أن نجد الشعراء، ومنذ العصر الجاهلي ، يتحدثون عن العالم في الوقت الذي يتحدثون فيه عن شعرهم الذي يقتنص العالم في لغته، وأن نجد القصيدة تلفتنا إلى حضور عالمها الخاص في الوقت الذي تلفتنا إلى حضور العالم المغاير الذي تولدت منه أو الذي تتوجه إليه. هذه الثنائية تنبهنا إليها العملية التي تفرض بها الدوال الشعرية للقصيدة حضورها الذاتي على وعينا، حين تحاول أن تشدنا إلى علاقتها الصوتية - الإيقاعية الخاصة، وتنتزعنا من الخدر الدلالي الذي ألفناه إلى الطزاجة الدلالية التي تنطوي عليها، وتنقلنا من تشتت العالم الإدراكي الذي ننغمس فيه إلى وحدة العالم الجمالي الذي تبنيه القصيدة بطرائقها المتفردة ، المراوغة، تلك التي لا تفارق التنوع والخصوصية في كل حالة على حده. والمكافأة الوحيدة التي ترجوها حركة الدوال في القصيدة على تفردها هي الاعتراف بوجودها والانتباه إلى حضورها الذاتي الذي نستبدل به غيره عادة.

وأحسب أن بلاغة الاستهلال هي نوع من المطالبة بهذا الانتباه منذ البداية، كأنها إعداد لذهن المتلقي لنوع خاص من التلقي. وشأن بلاغة الاستهلال في ذلك شأن مفاجآت البداية، على المستوى النحوي أو الدلالي أو الصوتي، حيث يتخلق نوع من التنبيه اللغوي إلى مغايرة التركيب والبنية. ولقد ثقف الشاعر العربي هذا النوع من التنبيه اللغوي للاستهلال وتعلمه منذ البداية. التصريع الذي تحدث عنه البلاغيون هو نوع من أنواع هذا التنبيه. البداية بشبه الجملة، أو النداء، أو المفعول المطلق، أو فعل الأمر الذي يتوجه مباشرة إلى الغير ليحضهم على الانتباه إلى موضوعه. ولنتذكر من بين بدايات قصائد امرئ القيس، أو مطالعه، "قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل"، و " أعلى على برق أراه وميض، وألما على الربع القديم، وعوجا على الطلل المحيل، و" دع عنك نهبا صيح في حجراته "، وغيرها من المطالع التي تذكرنا بمطلع عمرو بن كلثوم "ألا هبى بصحنك" ومطلع الأعشي "ودع هريرة" وإلى جانب فعل الامر هناك سؤال البداية الذي يقذف بالقارئ إلى أشكال القصيدة منذ البيت الأول، كما فعل امرؤ القيس نفسه، في مطلعه الذي يقول أمن ذكر سلمى إذ نأتك تنوص"، أو مطلعة الثاني " لمن الديار غشيتها بسحام؟ " أو الثالث " لمن طلل أبصرته فشجاني؟ " وتلك أمثلة على بعض أوجه حسن الاستهلال الذي يؤكد دور الدال في جذب الانتباه إلى نفسه؟ والتحول بالقارئ من الخطاب اليومي المعتاد إلى الخطاب الشعري المخصوص والمتميز.

الحضور الذاتي للشعر

ومن الممكن أن تكون بعض مؤشرات التناص الاستهلالية مجلى من مجالي التنبيه على دخول عالم الخطاب الشعري، وذلك منذ ان طرح عنترة على القارئ الجاهلي، وعلينا في الوقت نفسه، السؤال التعجبي الذي كان مطلع قصيدته المعلقة:

هل غادر الشعراء من متردم؟

أم هل عرفت الدار بعد توهم؟

وهو سؤال يقرن الاستفهام عن الشعر بالاستفهام عن الحبيبة التي هي موضوعه، ليلفت الانتباه منذ البداية إلى ان الحضور الذاتي للشعر لا يقل أهمية عن حضور الحبيبة التي لا معنى لها بعيدا عن هذا الشعر. وفي الوقت نفسه؟ يقرن السؤال الاستفهام عن مغادرة الشعراء لأصل واحد قد ينسونه بتعرف العاشق بيت الحبيبة الذي بدا أنه قد نسيه. وذلك مستوى من مستويات السؤال يقترن بالشك الذي ينصرف إلى دلالة المغادرة في حالة الشعر، ودلالة التعرف البكر في حالة الحبيبة؟ ولكن على نحو يسقط الدلالة الثانية على الأولى، لتغدو الثانية كأنها استدراك مراوغ، يستبدل بإدراك مجموع الشعراء في "الماضي إدراك الشاعر المفرد في الحاضر؟ وبحضور الحبيبة في عالم الأعيان حضورها في عالم الأبيات، ومن ثم بمدركات الواقع علاقات الإبداع المغايرة وذلك وكله في دلالة مراوغة مضفرة في إيقاع السؤال الذي ينتزع القارئ من سباته، ويضعه ضمن أشكال القصيدة التي تراوح بين دالها ومدلولها، ويتحرك مبناها الحركة المتوترة لمعناها بين ابعاد الزمن الماضي والحاضر والمستقبل.

وقد شرح القدماء سؤال عنترة شرحا لا نضارة فيه، نقلناه عنهم، فيما نقلنا من تراث بلاغي يضع اللفظ موضع الحلية للمعنى، ويختصر المعنى في مقصد نثري عقيم، ومن ثم يسهم في إبعادنا عن حضور الدال وأهميته. وقد ذهب ابن النحاس ( المتوفي 338 هـ ) إلى أن كلمة "متردم" من ردمت الشيء إذا اصلحته، وأن المعنى هو : هل بقى لأحد معنى إلا وقد سبق اليه الشعراء؟ وهل يتهيأ لأحد ان يصلح معنى لم يسبق إليه؟ ثم أضرب الشاعر عن ذلك فقال: أم هل عرفت الدار بعد توهم؟ وبعد ابن النحاس جاء الزوزني (المتوفي 486 هـ) الذي ذهب إلى ان المتردم هو الموضع الذي يسترقع ويستصلح لما اعتراه من الوهن والوهى، والمعنى هو: هل تركت الشعراء موضعا مسترقعا إلا وقد رقعوه وأصلحوه؟ وهذا استفهام يتضمن معنى الانكار أي لم يترك الشعراء شيئا يصاغ فيه شعر إلا وقد صاغوه فيه. وتحرير المعنى: لم يترك الأول للآخر شيئا، أي سبقني من الشعراء قوم لم يتركوا لي مسترقعا أرقعه ومستصلحا أصلحه ثم أضرب الشاعر عن هذا الكلام وأخذ في فن آخر فقال مخاطبا نفسه: هل عرفت دار عشيقتك بعد شكك فيها؟ وأضاف التبريزي ( المتوفي 502 ) ما أكد كلام الزوزني فرأى أن المعنى هو: هل بقى الشعراء لاحد معنى إلا وقد سبقوا إليه؟ وهل يتهيأ لأحد أن يأتي بمعنى لم يسبق إليه؟.

واللافت في هذا الشروح وأمثالها أنها اختزلت السؤال في بعد واحد من أبعاده الثانوية، وأحالت شرحه إلى معنى مجرد ثابت، وفصلت بين سؤال الشعر وسؤال الحبيبة، كما لو كان الشاعر قد أضرب عن سؤال وانتقل إلى سؤال آخر منفصل عنه ولا علاقة له به. ولو كان معنى السؤال آخر الأول هو: لم يترك الأول للآخر شيئا، حقا، فلماذا كتب الشاعر ( الآخر) قصيدته ابتدءا وما علاقته بالسابقين تأسيسا على معنى الإبداع؟ وما هذا المعنى المتميز الذي يفرض سؤاله على وعي الشعراء وعلى وعينا، ويضع السؤال في الصدارة المكانية والدلالية من بناء القصيدة؟ هل تتقلص الإجابة في كلمة علي رضي الله عنه التي تناقلها البلاغيون في هذا المقام وهي: أولا أن الكلام يعاد لنقد؟ أم أن الإجابة تمتد لتشمل بيت امرئ القيس:

عوجا على الطلل المحيل لأننا

نبكى الديار كما بكى ابن خذام

وهو البيت الذي شرحه الأعلم الشنتمري بقوله: أعطنا رواحكما وعوجا على الطلل المحيل، يعني الذي أتى عليه حول فتغير. وقوله: لأننا بمعنى لعلنا. وأبن خذام رجل ذكر الديار قبل امرئ القبس وبكى عليها، ولكن بيت امرئ القيس وشرحه يعيد الأسئلة نفسها مرة أخرى، ويدفعنا في تأمل دلالة إشارة شاعر إلى شاعر آخر غيره، والكيفية التي تضعنا بها هذه الإشارة داخل مدار الشعر الذي يصل القصيدة اللاحقة بقصيدة أخرى سابقة عليها، والشاعر المتأخر بالشاعر المتقدم، وذلك في الدائرة الشعرية التي يشدنا التناص إليها، فيؤكد الحضور الذاتي الفعال للنصوص التي تتبادل الفاعلية والتأثير.

الحضور المراوغ للقصيدة

والواقع أن سؤال عنترة لا يلفتنا إلى دور التناص في بيت امرئ القيس وحده، بل يصله ببيتي أبى تمام اللذين كتبهما بعد عنترة بقرون، أعني البيتين التاليين:

فلو كان يفنى الشعر أفناه ما قرت

حياضك منه في العصور الذواهب

ولكنه صوب العقول: إذا انّجلت

سحائب منه أعقبت بسحائب؟

هذه السحائب التي تعقب السحائب، في حضورها الذاتي المراوغ، هي ما تريد قصيدة عنترة أن تلفتنا إليه في الوقت الذي تلفتنا إلى موضوع القصيدة، فهي تتحدث عن الشعر ومن يتوجه إليه هذا الشعر على السواء، وتقدم الشعر على الممدوح الذي يخر، عادة، صريعا بين أيدي القصائد، وذلك بالقدر الذي تقدّم به القصيدة الدال على المدلول. وذلك هو ازدواج الإبداع في القصيدة، من حيث تعينه، ومن حيث هي سحابة ضمن سلسلة متميزة من السحائب. فهو تصوغ خطابا وظيفيا مغايرا لخطاب الحياة اليومية، هو الخطاب الأدبي الذي يدخلنا في عالم القصيدة الخاص، من حيث المغايرة التي تميزها.

هذه القصيدة لا تفصل بين السؤال الأول عن الشعر والسؤال الأول عن الحبيبة، فالعلاقة بينهما أشبه بوجهي الورقة الواحدة، إذا استخدمنا مصطلح، دي سوسير والعلاقة بين سؤال الشاعر (الشعراء)، وسؤال الحبيبة (الموضوع) في قصيدة عنترة هي، الوجه الآخر للعلاقة بين الوقوف على الديار (الموضوع) وبكاء ابن خذام (الشاعر) في قصيدة امرئ القيس. وهي نفسها العلاقة بين الممدوح والقصيدة التي تتوجه إليه في قصيدة أبي تمام. وكلها تجليات لعلاقة توازن بين العالم وإبداعه، القصيدة وموضوعها وهي علاقة تنقلنا من أسر المدلول إلى حضور الدال على نحو يؤكد صلة القصيدة بغيرها من القصائد السابقة، لكن على مستوى خصوصية الدال، كما لو كانت القصيدة سحابة لا تفهم إلا علاقتهما بغيرها عن السحائب التي صنعها أمثال ابن خذام، في ذلك العالم المتردم الذي يتساءل عنترة عن إمكان مغادرته.

ومفارقة الزمن التي يتوتر الوعي بين قطبيها المتعارضين، والتي تمايز بين سحابة الحاضر وسحابة الماضي، على مستوى إبداع القصيدة، هي نفسها التي تتحكم في توتر معنى الشطر الثاني، من مطلع عنترة ، ما بين قطبى التوهم والتعرف المتعاقبين، في العلاقة الإدراكية بدار الحبيبة، تلك العلاقة التي يستدير بها العجز الدلالي لبيت المطلع ويرتد إلى صدره، فيلفت الذهن إلى حال من الوجود الذي يتساءل عن حضوره في علاقته بعالم قد يعرفه بعد التوهم، أو علاقته بعالم مواز قد يجاوز ما فيه من كون متردم.

هذا الوجود الذي يتساءل عن حضوره هو وجود الإبداع الذي لا تنفصل فاعلية الدال فيه عن دائرة المدلول، والذي يمرح فيه الدال في مدار يضع المدلول في ضوء مغاير، شريطة أن نلتفت إلى مراحه الخاص، ونعطيه حقه من الاهتمام الذي تعودنا أن نؤثر به المدلول، فالدال ليس سوى القصيدة من حيث هي قصيدة. وهو يبدأ بأبسط علامات الاستهلال التي تشد الانتباه إلى الحضور المغاير للخطاب الإبداعي، ولا ينتهي عند بنية القصيدة التي تجبرنا على التطلع إليها في الوقت الذي نرى فيها غيرها، فهناك إلى جانب ذلك كله العلاقات المتشابكة للكون المتردم المذهل، من صوب العقول الذي يشيده أمثال ابن خذام، لكيلا لا نغادر القصيدة إلى ماينسينا إياها، في حمأة المدلول الذي تربينا عليه.

 

جابر عصفور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات