قراءة نقدية في

قراءة نقدية في "رحيل النوافذ" لثريا البقصمي

ثريا البقصمي واحدة من أدبيات الكويت اللائي أسهمن على نحو بارز في إثراء فن القصة القصيرة الكويتية، فقد عرفها القارئ قاصةً بعد صدور مجموعتها القصصية ( العرق الأسود) 1977م، و (السدرة) 1988م، و(شموع السراديب) 1992م، وأخيراً (رحيل النوافذ) 1994م.

إنَّ القص بوصفه عملاً إبداعياً ما هو في الحقيقة إلا صراع بين ما ينتوي المؤلف قوله (القصد) وما قاله فعلاً (الإنجاز)، فإنجازات الأدب تتمثل عادة فيما تثيره في نفس القارئ من أحاسيس تعمق وعيه بالمشكلات التي يواجهها في عالمه، غير أن المؤلف لا يتمكن من نقل حالة الإبداع بصورة مباشرة عبر رموز اللغة إلى متلقية، لأن تلك الرموز لا تنقل سوى صدى تجربة معيشة، وحتى يحدث تواصل بين المبدع والمتلقي لأبد من أن يتمثل المتلقي كامل التجربة، فالإبداع ليس فكراً وأحداثاً بقدر ما هو إحساس وانفعال. وإذا كان فعل الكتابة لا يغطي سوء جزء ضئيل من مساحة الإبداع ممثلاً بصورة غير منجزة تماماً من الأفكار، فإن المبدع يسعى على الدوام إلى تمهير أدواته الفنية ليخلق في نفس المتلقي الرغبة أو الاندفاع إلى تمثل الحالة الموازية لمجموعة الأفكار والأحداث المعروضة في نتاجه على هيئة رموز وإشارات. وعلى ذلك يتركز عمل المبدع على إيجاد تواصل عبر الأثر الفني مع متلقيه، وأحياناً يبلغ المبدع درجة أسمى من هذا المعنى في تواصله مع القارئ حين ينجح في جذبه إلى عالم الإبداع بطريقة إشراكه فيه، وذلك حين تكون في الأثر الفني مساحة يشغلها القارئ في أثناء قراءته، وهذا الصنيع لا يعدون كونه محرضاً في الحقيقة يدفع المتلقي لمتابعة الانفعال ومن ثم اكتسابه ليحدث بذلك التواصل الذي ييسر انتقال الإبداع من طور القصد إلى طور الإنجاز.

وهذا ما يجعل القراءة إيجابية، بمعنى أنها تتحول من عمل آلي، أي مجرد استقبال إلى حالة من التمثل والوعي، خصوصاً إذا خوطب بشيء من الرمز والإيحاء وبجانب من التركيز والإيجاز، فمثل هذه الأساليب ترقي بعقل المتلقي إلى مستوى الإبداع، وأما إذا غرقت الأعمال الأدبية في التفسير والتفصيل كان ذلك من العوامل المهمة التي تحجب عن القارئ تمثل ما يقرأ، فكأنها تسد بوجهه باب المشاركة فتزري بعقله.

نواة المجموعة القصصية

لقد حاولت ثريا البقصمي في مجموعتها القصصية "رحيل النوافذ" تمهير وسائلها الفنية لإثارة المتلقي بسلسلة من الأحداث والصور المستمدة من واقع الكويت في أثناء الغزو، وهذا بحد ذاته يمثل جانب الرؤية بالنسبة للعمل كله، ويتوقع أن تشحن هذه الرؤية بانفعال قد يعدل في شدته الحدث المعروض نفسه، ولهذا بدا من الضروري تبيان أثر هذا الانفعال في النفس من خلال القراءة الموازية للقصة، وفي الوقت نفسه يمكن أن نشير إلى المعوقات التي تحجب ذلك الشعور الفني عن القارئ إذا وجدت.

تكاد تكون قصتها الأولى "قلبها الأخضر" نواة المجموعة على اعتبار أنها البداية، ومن المعروف أنّ البدايات يعلو فيها صوت العاطفة والانفعال، وبالفعل نجد في ملامح الشخصية المحورية في هذه القصة (سعاد) ما يشير إلى هذا الزخم العاطفي وذلك الانفعال المشبوب الذي يطالعنا من بداية القصة.

بدت سعاد مشغوفة بتأمل كف شاب جريح من المقاومة الوطنية واسمه يوسف بعد أن كُلفتْ برعايته، محاولة البحث عما يؤكد حضورها، وربما أرادت أكثر من ذلك حين أخذت تضغط على راحته بغية إيقاظ حلمها الذي اندحر منذ زمن طويل بعد أن نسيتها الحياة فلم تحظ على مدار عمرها بزوج يمحو من ذهنها شبح العنوسة. ومع تغير الظروف إلى ما هو أسوأ بالنسبة للشخصية، أقصد وقوع الوطن تحت الاحتلال، إلا أنّ حلما مبهما وردياً لم يزل يطرق ذاكرتها وفي مثل هذه الظروف.

ومن تكرار فعل قراءة الكف تلمح سعاد أنّ ثمة حلماً يوشك أن يتحقق، وهذا ما يُشعل في نفسها الرغبة لمعرفة تفصيلاته، وفي وهمها أن الظروف السيئة قد تحقق لها ما عجزت هي عن تحقيقه في السابق ولم لا فهي أمام شاب بل "رجل حقيقي قامت تجربة العمل البطولي بنزع قشور الطفولة عن جسده وروحه" وهي امرأة يؤجج فيها صوت الأنوثة، إنها "لوليتا" المرأة "الطفلة يحلم بشبابها رجل". وسرعان ما يتسلل الوعي إلى نفسها حالما ترى في راحة يوسف خطوطاً وتعاريج لا تمت إلى وجودها بصلة "أحزنها أنها لم تجد نفسها في أدق الخطوط ولا خلف أكبر التعرجات" وهذا الحزن دفعها لتبحث عن وجودها الحقيقي في الواقع، وهذا هو مبعث الوعي الذي اكتسبته الشخصية من خلال استقراء الكف (الواقع). ومن الطبيعي أن يتجسد الوعي بسلوك إيجابي يتفوق فيه، الواجب الوطني على الذات.

يكمن مغزى القصة في شخصية يوسف الجريح، فيوسف في قلبها الأخضر يعدل الإحساس الثري الذي يؤكد حضور الوطن الدائم في قلوب أبنائه، وتكاد تنطق هذه الأقصوصة بفيض هذا الإحساس وتضج به أحيانا، لأن يوسف كما قلت رمز الوطن الجريح، وصدى الرمز أبعد بكثير من مجرد الربط بين الإحساس الداخلي والسلوك العفوي إزاء الأحداث، لأن هذا الرمز جاء في موضعه تماماً وقد اكتسب أهمية خاصة كونه يرتد إلى مرجع في الأصل، فليس مصادفة أن يكون الجريح هو يوسف، فهذه التسمية تعمق إحساس القارئ بذلك الخطب المريع الذي تعرض له الوطن، وهو شبيه بالخطب الذي ألمّ بيوسف عليه السلام، يوسف ضحية غدر الإخوة، ولحسن الحظ ينجو يوسف النبي من غدر إخوته، وكذلك ينجو الوطن بعد محنته وهذا هو المغزى.

الموقف في هذه القصة لا يفتقر إلى التماسك الداخلي، فمن خلال متابعة تجليات فعل قراءة الكف أحياناً وقراءة الفنجان أحياناً أخر الواردة في القصة يبدو الموقف مترابطاً من الداخل وهذا ما يشعر القارئ بأن قراءة الكف في بدء القصة كشفُ، عن مرارة الواقع، وفي منتصفها دلالة على التبشير، وفي آخرها حل.

مع هذا التأثير البالغ الذي تحظى به هذه القصة في النفس إلا أن معوقات كثيرة بدت تشد أطرافها إلى التشتت مثل النزوع إلى التفسير، وقد ورد في أكثر من موضع في القصة مثل قول طلال أخي سعاد للطبيب " يا دكتور إن أختي تحب الخير، وهي تعتني بيوسف كما لو كان ابنها " فحب الخير عبارة لا تناسب السياق الذي وردت فيه، والموقف كله لا يحتاج إلى هذه العبارة أصلاً لأن الشعور الوطني إذا انعكس في صورة سلوك لا يحتاج إلى تفسير أو تعليل، وكذلك تغليب الواجب على الذات لا يحتاج إلى جزاء لأنه واجب وحسب، ومثل ذلك ما ورد على لسان "يوسف" لما تماثل للشفاء: " لا لم تضع الفرصة يا سعاد فلو كتب لنا أن نتحرر من الاحتلال فإني سأرد جميلك".

إضافة إلى ذلك فإن القصة قوية في خطابها، فاعتمادها على المباشرة قلل إلى حد ما من إثارتها "لو كنت قارئة كف حقيقية لعرفت متى تغادر الغربان من أرضنا". ومثل ذلك شيوع الجانب الإخباري "بالأمس بدأ الهجوم الجوي للحلفاء".

غياب الحدث أحيانا

يبدو أن المؤلفة قد اتبعت أسلوبا واحداً في مجموعتها وهو أسلوب أدخل في باب الرواية أكثر منه في باب الأقصوصة، وربما اضطرها الحدث إلى شيء من التسجيل أو قل إن شئت إنها قدمت في أقاصيصها تمثيلاً موضوعيا للأحداث فكان تعبيرها عن الإحساس الداخلي مرتبطاً بالخارج، ولهذا بدت تتابع منعكسات الإحساس وتتبع صداه في الواقع، وهذا ما جعلها تبذل جهداً واضحاً لإيجاد وحدة بين الإحساس والسلوك على نحو يخدم الحدث والموقف القصصي على حد سواء، وهذا إنما جاء على حساب الشخصية، فالشخصية في هذه القصص محكومة بفكرة سابقة أو بمسار حُدد مسبقاً. من هنا بدا التحول المفاجئ في مواقف الشخصيات أمراً عادياً في قصتها " رجل بلا عينين" خصوصاً في موقف الزوجة التي رسمت لها المؤلفة صورة تختلف عن صورة سعاد في القصة الأولى. فالزوجة هنا غارقة في الحب يشغلها تسجيل أشواقها في أوراق لا تني تدفع بها إلى زوجها الواجم أماما، وقد لاحظت أن سحر كلماتها لا يؤثر في زوجها ذلك التأثير الذي توقعته، فقد اكتفى بنظرات مبهمة فيها من الحيرة أكثر بكثير من الإعجاب، وهذه اللمحة العابرة استحالت فجأة إلى انعطاف كبير في المشاعر ومن ثم في السلوك، يظهر ذلك من خلال رصد المؤلفة ما كان يموج في أعماق الزوجة من عواطف متباينة، عواطف يتنازعها الحب تارة والسخط تارة أخرى، وهي لا تدري متى تحب ومتى تغضب وكل ما هنالك أنها مضطرة في النهاية لمجاراة الزوج.

أما الزوج فشخصيته في هذه القصة إيجابية متفاعلة والحدث، وقد جنبتها المؤلفة الوقوع في التناقض لتجعل منها نواة الوعي فتنجذب إليها الزوجة، وبذلك يحدث انسجام في الموقف القصصي ليغدو الإحساس المشتت في النهاية متجسداً بالفعل النضالي، ولهذا دفعت الزوجة إلى الاعتراف " كم كنت سخيفة عندما كتبت عن العشق فالزمن الحالي مقبرة لكل المشاعر الجميلة". وهذا بحد ذاته مؤشر يدل على الانسجام في الموقف.

استخدام اللون والصورة

لم تعتن المؤلفة برسم ملامح شخوصها أو حتى تسميتها في بعض الأحايين، فإذا استثنينا شخصية سعاد في القصة الأولى وشخصية عمو خليفة في ما قبل الأخيرة. نجد أن الشخوص مجردة من ملامحها، فتقدم بوساطة الضمائر المنفصلة أو المتصلة، أو باستخدام المشهد العام للدلالة على الشخوص والأحداث معا، كما هو الشأن في قصتها "صور معكوسة" التي قُدمت على هيئة لوحات أو مشاهد أربعة جسدت الأحداث التي جرت في أثناء الغزو.

وأغلب الظن أن الدافع إلى هذا الأسلوب هو أن ثريا البقصمي فنانة تحسن استخدام الصورة والألوان بقدر ما تحسن استخدام الكلمات، ومن هنا بدت الرسوم التي اشتملت عليها القصص جزءاً متمماً للقصة لا ينفصل عنها، وهذه التجربة ليست فريدة في أدبنا فقد سبق أن جمع جبران خليل جبران بين القص والرسم.

ربما كانت قصة "عمو خليفة" أنموذجاً للبناء القصصي المحكم في مجموعة ثريا البقصمي، فقد استوفت العناصر المميزة للقصة مثل التركيز والتكثيف والإثارة، وهذه العناصر، في الحقيقة تفرق القصة القصيرة عن الرواية، وإذا كانت المؤلفة في كثير من أقاصيص مجموعتها قد عمدت إلى شيء من التسجيل محاولة تطويع الأسلوب الروائي للتعبير عن موقف محدود، فإنها في قصتها "عمو خليفة" قد وفرت للقصة من العناصر ما يناسب طبيعتها الخاصة، فهي تنصرف هنا كليةً عن المشاهد الجانبية التي من شأنها تبديد طاقة القصة، وإضعاف جانب التركيز.

وقد يكون من أسباب نجاح هذه القصة أن المؤلفة أحسنت استخدام الحوار الذي جاء متدرجاً موافقاً مستويات الشخوص، إضافة لكونه أداة فاعلة بالنسبة لتحديد ملامح بعض الشخوص في القصة، بذلك برز الحوار هنا قوة تعمق إحساس القارئ بالحدث والموقف عامة.

"عمو خليفة" إذن أنموذج للأقصوصة البعيدة عن التسجيل وفي الوقت ذاته بعيدة عن الانطباع الآني السريع، إنها لقطة مركزة لحالة إنسانية لا يستطيع القارئ أن ينفلت من أثرها بسهولة، هي صورة موجزة لموقف إنساني، بدا عمو خليفة إزاء ذلك الموقف العسير عاجزاً تماما عن الانفلات من حزمه الذكريات التي تناثرت في أمكنة لا يقدر على جمعها في حقيبة والارتحال بها من حيث جاء.

لقد بدأت القصة صبيحة الغزو، وبدت السبل أمام عمو خليفة وكأنها ميسرة ليهرب إلى بلده في غمرة الأحداث، غير أن العجوز يشق عليه أن يترك مكاناً يشده بمثل ما يحمل في فؤاده من حب ووفاء لأولاده وأحفاده الموزعين في أنحاء شتى، ولا يملك سوى صورهم ورسائلهم التي تناثرت في مكتبه، ولم يكن بمقدوره أن يستجمعها بيسر لأنها التصقت بالمكان فصارت جزءاً منه، وأضحت محاولة التقاطها ضرباً من الجنون "كان يركض خلف أوراقه وهو يصرخ : تعبئ، عرقي، ذكرياتي، أيامي الحلوة " ولهذا آثر أن يحتضن كامل ذكرياته في مكانها، ويزرع جسده بين أوراقه المتناثرة إلى الأبد.

وتنتهي القصة بمثل ما بدأت به من القوة حين تلقى الضوء على جثة العجوز وهو يحتضن بعض أوراقه، وينتهي المشهد بحوار موجز مؤثر يدور بين الضابط وأحد جنوده حين سأله عن سبب موت العجوز: " كان العجوز يوزع منشورات سرية، فضربته ضربة خفيفة على ظهره، ويبدو أن صحته المتدهورة لم تتحمل ضربنا الخفيف" أكمل حديثه ضاحكاً: لقد وفر علينا رصاصة".

وبعد هذا العرض الموجز أحسب أنّ وقوفي عند بعض أقاصيص المجموعة يكفي لإبراز فاعلية القصة عند ثريا البقصمي من جهة التأثير في النفس، وإخال أن الحماس الذي بدا واضحاً في تعابيرها لم يحجب عن القارئ تمثل الإحساس الفني الذي رصدته المؤلفة في عملها، وربما بدا الحماس في بعض الأحيان مقبولا كون المجموعة صدى حقيقياً لأحداث جرت، ومن هنا يمكن أن تضاف هذه المجموعة القصصية إلى تلك الأناشيد الجميلة التي تؤكد على الدوام حضور الوطن في ضمائر أبنائه المبدعين.

 

أحمد علي محمد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الكتاب





ثريا البقصمي