القماط كامل يوسف حسين

القماط

قصة: يوكيو ميشيما

كان زوج توشيكو مشغولاً على الدوام، وحتى الليلة تعين عليه الانطلاق مسرعاً إلى موعد ارتبط به، وتركها تمضي إلى الدار في سيارة أجرة. ولكن ما الذي يمكن للمرأة أن تتوقعه غير ذلك عندما تتزوج ممثلاً يتميز بالجاذبية والوسامة؟ لا شك في أنها كانت حمقاء عندما علقت الآمال على أنه سيقضي الأمسية معها. ومع ذلك فلا بد أنه قد عرف كيف أنها ترهب العودة إلى دارهما، الموحية بالتكلف بأثاثها الغربي، ولا تزال لطخ الدم ظاهرة على أرضها.

تميزت توشيكو، منذ يفاعتها، بالحساسية البالغة، وكانت تلك طبيعتها. ولم يقدر لها، نتيجة للقلق المستمر، أن تعرف طريقها إلى امتلاء القوام، والآن، وقد غدت امرأة في صدر العمر، بدت أقرب إلى صورة شفافة منها إلى مخلوقة من لحم ودم، وبدت رهافة روحها جلية حتى لأبعد معارفها عن الارتباط معها بصلة وثيقة.

وفي وقت سابق من هذا المساء، عندما لحقت بزوجها في الملهى الليلي، صدمت عندما وجدته يسلي أصدقاءه برسم صورة لهم عن "الحادث". جلست في مقعده ذي التصميم الأمريكي، وراح يدخن سيجارة، وبدا كما لو كان رجلا غريباً عنها تقريباً.

مضى يقول، وهو يومئ على نحو مبالغ فيه، كأنما في محاولة لإحداث توازن مع الفرقة الراقصة: - إنها قصة غريبة، على نحو لا يصدق. ها هي ذي المربية الجديدة، التي سترعى طفلها الوليد، تصل من مكتب الخدمات، وأول ما لفت نظري فيها بطنها، فهي متكرشة، كأنما درست وسادة تحت الكيمونو الذي ترتديه، وحدثت نفسي بأنه لا غرابة في الأمر، فسرعان ما رأيت بمقدورها أن تلتهم من الطعام ما يتجاوز ما نأكله كلنا معاً، فقد أودت بمحتويات مستودع أرزنا هكذا... فرقع أصابعه، وأضاف: تمدد في المعدة، ذلك هو ما فسرت به محيط خصرها الضخم وشهيتها العارمة. تناهت إلينا أو أمس تأوهات وأنات منبعثة من غرفة الوليد، فاندفعنا إلى داخلها، وألفيناها مقعية على الأرض، وقد أمسكت بطنها بيديها كلتيهما، وراحت تخور كالبقرة، وإلى جوارها وليدنا في مهده، وقد استبد به الفزع، وراح يبكي كأشد ما يكون البكاء. بمقدوري أن أقول لكم إنه مشهد جميل!

أشار أحد أصدقائهما، وهو ممثل سينمائي مثل زوجها:

- هكذا خرجت القطة من مكمنها؟

- حقاً خرجت! وقد أصابتني بصدمة عمري، إذ كنت قد ابتلعت تلك القصة عن تمدد المعدة. طيب. لم أضع وقتاً، فأنقذت سجادتنا الرائعة من فوق الأرضية، وفرشت بطانية لترقد عليها. وطوال الوقت كان المرأة تصرخ، مثل خنزير يذبح بطعنة في حنجرته. ولدى وصول الطبيب من مستشفى حالات الولادة، كان الجنين قد ولد بالفعل، ولكن غرفة جلوسنا غدت كالمسلخ!

- آه، إنني على يقين من ذلك!

قالها صديق آخر من أصدقائهما، واندفعت المجموعة بأسرها ضاحكة.

ذهلت توشيكو لسماعها زوجها وهو يناقش الحدث المخيف، كأنه لا يعدون أن يكون حادثة مسلية، تصادف أن شاهدها. أغمضت عينيها للحظة، وفجأة تراءى لها الوليد راقداً أمامها، على الأرضية الخشبية المصقولة تمدد الوليد، وجسمه الناحل ملفوف في جرائد ملطخة بالدم.

كانت توشيكو على يقين من أن الطبيب قد أتى الأمر بأسره قاصداً، وكأنما ليؤكد سخريته من هذه الأم التي ولدت ابن سفاح في مثل هذه الظروف الكئيبة، طلب من مساعدته أن تلف الوليد في بعض ورق الجرائد المتفكك، وليس في قماط مناسب. وأثارت هذه المعاملة الصادرة عن فؤاد قاس حنق توشيكو. تغلبت على شعورها بالاشمئزاز من المشهد بأسره، وجلبت قطعة جديدة تماماً من القماش من خزانة ملابسها، وبعد أن لفت الوليد فيها وضعته بعناية في مقعد ذي مسندين.

حدث كل هذا في المساء، بعد أن غادر زوجها الدار، ولم تحدثه بشيء عنه، خوفاً من أن يظن بها ميوعة ومبالغة في العاطفة، ومع ذلك فقد حفر المشهد في ذهنها عميقاً. و ها هي الليلة قد جلست صامتة، وعاودت التفكير فيه، بينما راحت فرقة الجاز تنثر صخبها المدوي، وزوجها يثرثر في مرح مع أصدقائه. عرفت أنها لن تنسى مشهد الوليد قط، وقد تم لفه في أوراق صحف ملطخه بالدماء، ورقد على الأرضية. كان مشهداً ينتمي إلى حانوت قصاب. وساور توشيكو، التي أمضت حياتها لا يهزها شيء شعور بتعاسة الوليد غير الشرعي، يمازجه ألم مبرح.

طرأت الفكرة على ذهنها: إنني الشخص الوحيد الذي رأى عاره رأي العين، فالأم لم تر الطفل قط وقد رقد هنالك في قماطه المتخذ من ورق الصحف، والطفل نفسه لم يعلم بالأمر، بالطبع. أنا وحدي سيتعين عليّ الاحتفاظ بذلك المشهد الرهيب في ذاكرتي. وعندما يكبر الوليد ويرغب في معرفة ما يتعلق بميلاده، لن يكون هناك من يحدثه بجلية الأمر مادمت ملتزمة الصمت، كم هو غريب أن يساورني هذا الشعور بالذنب! في نهاية المطاف كنت من التقطه من الأرضية وقام بلفه في قماط من القماش على نحو لائق، ووضعه في المقعهد ذي المسندين ليغفو.

غادر الملهي الليلي، واستقلت توشيكو سيارة الأجرة التي استدعاها لها زوجها. وقال للسائق: امض بهذه السيدة إلى يوشيجومي!

أغلق الباب من الخارج. وحدقت توشيكو عبر النافذة في محيا زوجها الباسم، ولاحظت أسنانه القوية البيضاء، ثم تراجعت مسترخية في المقعد، وقد غلبتها على نحو قاهرة معرفة أن حياتهما معاً كانت على نحو من الأنحاء أيسر مما ينبغي وأكثر مما يجب خلواً من الألم. وكان من المتعذر عليها أن تصوغ خواطرها في كلمات. ألقت عبر النافذة الخلفية لسيارة الأجرة نظرة أخيرة على زوجها. وكان يمضي بخطوات واسعة نحو سيارته من طراز "ناش" وسرعان ما اختلط ظهر سترته الصارخة الألوان، إلى حد الإزعاج، مع شخوص المارة.

انطلقت سيارة الأجرة، ومضت في شارع يغص بالحانات وبالمسارح، التي راحت حشود من الناس تتزاحم أمامها على الرصيف. وعلى الرغم من أن العروض انتهت لتوها، فإن الأنوار قد احتجبت بالفعل، وبدا جلياً على نحو يدعو للاكتئاب أن براعم الكرز، التي تزين الواجهات، لا تعدو أن تكون مجرد من قطع من الورق الأبيض.

حتى لو قدر لهذا الوليد أن كبر جاهلاً بسر ميلاده، فإن لن يكون بمقدوره أن يصبح مواطناً جديراً بالاحترام قط. هذا هو ما راحت تتأمله توشيكو، موغلة في النوعية ذاتها من الخواطر. هذا القماط من ورق الصحف الملطخ سيغدو رمزاً لحياته بأسرها. ولكن لم يتعين على مواصلة القلق بشأنه على هذا النحو البالغ الشدة؟ لنقل إنه بعد عشرين عاماً من الآن، وعندما يكبر ولدنا، ويغدو شابا رائعا، تم تعليمه بمزيد من العناية، وذات يوم وعبر تحول عجيب من تحولات القدر يقابل ذلك الولد الآخر، الذي سيكون حينذاك قد بلغ العشرين بدوره، ولنقل إن الولد الآخر، الذي اقترفت الخطيئة بحقه، قام بطعنه على نحو وحشي باستخدام سكين... كانت هذه الليلة من ليالي إبريل الدافئة والملبدة بالغيوم، ولكن الخواطر المعلقة بالمستقبل جعلت توشيكو تشعر بالبرد والبؤس، فارتجفت في مقعدها الخلفي بالسيارة.

حدثت نفسها فجأة: لا، عندما يحين الأوان سأحل محل ابني. بعد عشرين عاماً من الآن سأكون في الثالثة والأربعين من العمر. سأمضي إلى ذلك الشاب. وأبلغه مباشرة بجلية الأمر، سأحدثه عن القماط المتخذ من الصحف، وكيف أنني مضيت ولففته في قماش ناعم. انطلقت سيارة الأجرة، على امتداد الطريق الرحب المظلم، الذي يحف بالحديقة وخندق القصر الإمبراطوري، ولمحت توشيكو في البعيد الأنوار المحدودة التي تشبه، الثقوب، والتي انبعثت من المباني الشاهقة المخصصة للمكاتب.

بعد عشرين عاماً من الآن سيكون ذلك الطفل التعس في قبضة بؤس بالغ. سيما في ظل وجود تعس، عاجز، يطبق عليه الفقر، مثلما جرذ وحيد. ماذا غير ذلك يمكن أن يحدث لوليد أطل إلى الدنيا على هذا النحو؟ لسوف يضرب في الشوارع وحيداً، وهو يكيل اللعنات لأبيه ويستشعر المقت نحو أمه.

ولا شك في أن توشيكو قد استمدت شعوراً معينا بالرضا من خواطرها الكئيبة، فقد راحت تعذب نفسها بهذه الخواطر دونما توقف. اقتربت سيارة الأجرة من "هانزومون" وانطلقت متجاوزة مجمع مباني السفارة البريطانية. عند ذلك الموضع امتدت أمام توشيكو صفوف أشجار الكرز الشهيرة بكل نقائها. وبوحي اللحظة قررت المضي ومشاهدة البراعم بنفسها في الليل المظلم. كان قراراً غريباً بالنسبة لشابة خجول وبعيدة عن روح المغامرة، ولكنها كانت في حالة ذهنية غريبة، وخشيت العودة في الدار. وفي ذلك المساء انتقلت في ذهنهـا كل الخيالات التي لم تحسم أمرها.

عبرت الشارع كياناً ناحلاً، منفرداً، في رحاب الظلام. وكانت كقاعدة عامة قد اعتادت عندما تسير وسط حركة المرور أن تتشبث بمن ترافقه في السير، ولكنها الليلة انطلقت مسرعة بمفردها بين السيارات، وبعد لحظة وصلت إلى الحديقة الضيقة والممتدة طويلاً والتي تحف بخندق القصر، وهي تدعى تشيدو ريجافوتشي، أي هوة الطيور الألف.

الليلة غدت الحديقة بأسرها أجمة من أشجار الكرز المزهرة. وتحت السماء الساكنة، التي تتموج فيها السحب، تحولت البراعم في كتلة من البياض الشاهق. كانت المصابيح الورقية التي علقت من الأسلاك المتدلية بين الأشجار مطفأة الأنوار، وفي موضعها تألقت مصابيح كهربائية حمراء وصفراء وخضراء على نحو فاتر تحت البراعم. كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة وانصرف معظم مشاهدي الزهور إلى بيوتهم. وفيما كان المارة القليلو العدد ينطلقون عبر الحديقة، راحوا يركلون بصورة آلية بأقدامهـم الزجاجات الفارغة، أو يدوسون الأوراق الملقاة على الأرض.

حدثت توشيكو نفسها، وقد عاد ذهنها مجدداً إلى تلك الأحداث: الصحف. الصحف الملطخة بالدم. لو قدر لإنسان أن يسمع ذات يوم بأمر ذلك الميلاد الذي يدعو للرثاء، ويعرف أنه هو الذي رقد هنالك، لقضى ذلك على حياته بأسرها. والظن بأنى أنا، الغريبة تماماً عنه، أحتفظ من الآن فصاعداً بمثل هذا السر- سر وجود إنسان بأسره...

مضت غارقة في تلك الخواطر، تغذ السير على امتداد الحديقة. كان معظم من بقوا هنالك يمضون كل اثنين معاً في هدوء، ولم يبد أحد أي اهتمام بها. لاحظت شخصن يجلسان على أريكة حجرية قرب الخندق، دون أن ينظرا إلى البراعم، وقد عكفا على التحديق في مياه الخندق صامتين. كانت الحديقة مظلمة تاماً، وتلفه كالقماط ظلال كثيفة. فيما وراء الخندق، حجبت الغابة الجميلة، المحيطة بالقصر الإمبراطوري، الأبدي عن نظرها. تطاولت الأشجار، لتشكل كتلة دامسه الظلام، في مواجهة السماء المتشحة بالليل. سارت توشيكو، على مهل، على امتداد الطريق الواقع تحت البراعم المتدلية في تثاقل فوق رأسها.

لاحظت، على أريكة حجرية على مبعدة قصيرة من الأرائك الأخرى، شيئاً شاحباً، لم يكن، كما تخيلت في بداية الأمر، كومة من براعم الكرز، ولا ثوباً نسيه أحد رواد الحديقة. ولم تدرك إلا حينما اقتربت أن ما وقع نظرها عليه هو جسم متمدد على الأريكة الحجرية. راحت تتساءل عما إذا كان واحداً من أولئك السكارى البؤساء، الذين تقع العين غالباً عليهم وهم يغطون في النوم في الأماكن العامة؟ من الجلي أن الأمر كان كذلك، لأن الجسم كان مغطى بصورة منظمة بالصحف، وكان بياض تلك الأوراق هو الذي اجتذب اهتمام توشيكو- وقفت إلى جوار الأريكة وراحت تحدق في الجسم الذي غمره النعاس.

كان الراقد على الأريكة رجلاً يرتدي ثوباً من قماش محكم الحبك، وقد التف على نفسه فوق طبقات من الصحف، فيما غطته صحف أخرى؟ ولا شك في أن هذا قد أصبح مأواه الليلي المألوف مع مقدم الربيع. راحت توشيكو تحدق في شعر الرجل المتسخ والمهوشن والذي غدا في مواضع منه ملتفاً وملتصقاً على نحو لا أمل معه في أن يتحسن حاله. وفيما هي ترقب الجسم الغافي الملتف بالجرائد، تذكرت على نحو حتمي الوليد الذي رقد على الأرضية في قماطه البائس. راح كتف ثوب القماش المحبوك الذي يرتديه الرجل يعلو وينخفض في الظلام، متوافقاً مع تنفسه الثقيل.

بدا لها أن كل مخاوفها وهواجسها قد اتخذت لي حين غرة شكلاً متجسداً. وفي الظلام برز جبين الرجل، وكان جبيناً شاباً، وإن غارت فيه تجعدات فقر ومشقة طال عهدهما. كان سرواله ذو اللون الكاكي مرفوعاً إلى أعلى قليلاً، وقد انتعل حذاء رياضياً بالياً ولم يبد أثر لجوربيه. ولم يكن بمقدورهما رؤية وجهه، وفجأة استبدت بها رغبة قاهرة في أن تلمح محياه لمحة خاطفة.

مضت إلى رأس الأريكة، وتطلعت إلى أسفل، كان وجه الرجل نصف مدفون بين ذراعيه، ولكن توشيكو استطاعت إدراك أنه في يفاعة العمر على نحو مدهش، ولاحظت الحاجبين الكثيفين، وقصبة أنفه البديعة التكوين، وكان فمه المفتوح متوهجاً بالحياة والصبا.

ولكن توشيكو كانت قد اقتربت أكثر مما ينبغي، ففي الليل المتوحش فراشاً، وعلى حين غرة فتح الرجل عينيه، وإذ رأى شابه تقف إلى جواره مباشرة، رفع نفسه بحركة مفاجئة، وقد توهجت عيناه. وبعد ثانية، امتدت يد قوية، وأطبقت على رسغ توشيكو الناحل. لم يساورها أدنى شعور بالخوف، ولم تبذل جهداً لتحرر نفسها من إساره، ففي غمضة عين كانت الفكرة قد اجتاحت ذهنها: آه، هكذا فقد انقضت العشرون عاماً ! عمّ ظلام دامس غابة القصر الإمبراطوري، وسادها صمت مطبق.

 

كامل يوسف حسين

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات