أرقام
أرقام
القرن
المقبل طوال نصف قرن على وجه التقريب لم يختف البترول العربي من عالم السياسة، فزيادة الاهتمام بالخليج والعراق وليبيا كان وراءه: ظهور البترول. وعندما اشتعل الصراع بين تيار القومية العربية والغرب في الخمسينيات والستينيات كان محور الصراع بدرجة أكبر: الجزيرة العربية بما تضمه من منابع بترول متعددة. أيضا، وحين احتدم التنافس الدولي، واشتد أوار الحرب الباردة بين الشرق والغرب كان للشرق الأوسط مكانه الخاص في الصراع، وكان البترول هو المحرك.. وهو ما انتقل في إحدى مراحله إلى إنشاء قوات انتشار سريع، تحمي الخليج من أخطار رأت الولايات المتحدة الأمريكية أنها أخطار سوفييتية.. وفي جانب منها: أخطار محلية أبرزتها حرب أكتوبر (1973). في ذلك الوقت (نهاية السبعينيات وأوائل الثمانينيات) كان نجم السوفييت بالشرق الأوسط في أفول، فلم تعد موسكو خطرا يلتهم المصالح الغربية. وفي ذلك الوقت، كان السوفييت من أكبر منتجي البترول في العالم بما جعلهم في موقف من يصدر وليس من يستورد، أي أنهم لم يكونوا بحاجة لبترول الشرق الأوسط... و.. مع ذلك لم تستبعد واشنطن وجود خطر سوفييتي، حينذاك سألت دبلوماسيا غربيا كبيرا: ماهو وجه الخطر، والسوفييت يملكون ما يغنيهم من بترول؟،.. ورد الدبلوماسي قائلا: "إن الخليج هو الفناء الخلفي للاتحاد السوفييتي.. أميال قليلة تفصل الحدود عن الحدود، ولو أن صراعا عسكريا نشب بين الشرق والغرب فإن مدافع وصواريخ وطائرات السوفييت قادرة على احتلال منابع البترول.. أو تعطيلها على الأقل.. أي أنها قادرة على شل حركة الغرب". بعدها، وكما نذكر، جاءت حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران، وهددت الحرب منابع البترول في أحيان كثيرة، لكن الخطر ظل محصورا في دائرة البلدين المتحاربين بينما يتدفق البترول من بقية آبار المنطقة، فلما امتد الخطر للملاحة وطال ذلك صادرات الكويت وناقلاتها وافقت دول مجلس الأمن على رفع أعلامها على الناقلات حماية لها، وإبعادا لصادرات البترول عن دائرة الحرب.. وهو ما لم يمكن تكراره في حرب الخليج الثانية بين الكويت والعراق، حيث تعطلت الصادرات واشتعلت الآبار واتسعت دائرة الخطر وجرى استدعاء نحو ثلاثين دولة ونصف مليون مقاتل.. لإعادة الأمور إلى نصابها، ثم إعادة ترتيب الأوراق الأمنية والسياسية في المنطقة بعد ذلك على ضوء وجود أخطار محلية. في السياسة إذن، ولفترة طويلة، ظل عنصر البترول "الشرق - أوسطي" عاملا رئيسيا وراء الأحداث.. والسؤال: ماذا عن المستقبل القريب والمتوسط؟. ماذا عن القرن المقبل؟ .. البترول.. أعمار! الأكيد أن السياسة لن تنفصل عن البترول، والبترول تحكمه أرقام مثل: الاحتياطي والطلب المتزايد أو المتناقص والأهمية النسبية لكل منطقة. في تقرير لمنظمة "الأوابك" عام (1993) أن العمر المتوقع لبترول الدول المتقدمة لن يتجاوز في المتوسط ثماني سنوات. ست سنوات - منذ ذلك التاريخ - لبترول المملكة المتحدة، وسبع لكندا، وثماني سنوات للولايات المتحدة.. أي أنه مع بداية القرن الواحد والعشرين يخرج كبار المستهلكين من دائرة الإنتاج، أو يستمرون فيها بنسبة ضئيلة تعادل ما يتم من اكتشافات جديدة تضيف لاحتياطياتهم الفقيرة شيئا ما. في نفس الوقت، فإن العمر المتوقع لبترول الإمارات (115) سنة، والسعودية (85) سنة وإيران (75) سنة. وبينما كانت السعودية تملك أعلى احتياطيات في العالم وهي (260.3) مليار برميل عام 1992.. كانت احتياطيات الولايات المتحدة (7، 24) مليار برميل وكانت احتياطيات دول الكومنولث المستقلة (57) مليارا.. والصين (24) مليارا. الميزان إذن، ومع مرور سنوات معدودات يميل لصالح مجموعة دولية محددة هي دول الشرق الأوسط.. والتي امتلكت ثلاث دول منها كميات احتياطي تتراوح بين (96) و (100) مليار برميل عام 1992، والدول المعنية هي: الإمارات والعراق والكويت.. وإن نافسها بعد ذلك في الترتيب مباشرة: المكسيك التي امتلكت احتياطيا قدره (51.3) مليار برميل في نفس العام (92). بطبيعة الحال فإن ما يحدد العمر المتوقع للبترول هو العنصران معا: الاحتياطي والإنتاج. وبطبيعة الحال أيضا، فإن ما يحدد الانعكاسات السياسية للوضع البترولي هو الأهمية النسبية التي يحتلها البترول في مجموعة الطاقة اللازمة لتسيير العالم، والأهمية النسبية لبترول منطقة محددة - وليكن الشرق الأوسط - فيما يحتاج إليه الاستهلاك العالمي من بترول. وطبقا لتقرير أصدرته وكالة الطاقة الدولية في أواخر أبريل 1993 فإنه من المتوقع أن ينخفض نصيب البترول من جملة مواد الطاقة من (39%) إلى (37%) عام (2010).. وفي نفس الوقت فإن الفحم سوف يحتل (29%).. والغاز الطبيعي (وهو مرتبط بالبترول غالبا) سيمثل (24%).. بينما لا يتجاوز نصيب الطاقة النووية (6%).. و.. نسبة أخرى محدودة للطاقة المتجددة من رياح أو طاقة شمسية. وطبقا للأرقام السابقة فإنه لن تحدث انقلابات واسعة في مجال الطاقة.. خاصة فيما يتعلق بأكبر مادتين وهما: البترول والفحم.. سيظلان متربعين على عرش الاستهلاك العالمي من الطاقة. ولكن، وفي نفس الوقت، فإن الانقلاب المنتظر سوف يجري في نطاق "من ينتج ومن لا ينتج؟ ".. "من يملك ومن لا يملك؟ ".. و.. طبقا للتقرير السابق لوكالة الطاقة الدولية فإن الشرق الأوسط وفنزويلا سوف يقدمان عام (2010) نصف احتياجات العالم من بترول. والأهمية النسبية هنا ليست كل شيء.. فالأهم هو تراجع مكانة الدول التي جمعت بين (منتج ومستهلك رئيسي).. الأهم أن البترول سوف يستمر مادة الطاقة الأولى، وأن العالم الثالث سوف يكون مصدره الأول، وفي المقدمة من بلدان العالم الثالث: الشرق الأوسط.. وفي صدارة الشرق الأوسط: الدول العربية. سوف يعكس ذلك نفسه على الأوضاع والعلاقات الدولية بين المنطقة والعالم الخارجي.. وقد تفسر هذه التوقعات والأرقام ما نحن بصدده من إعادة رسم لخريطة المنطقة وهويتها وعلاقاتها. الخريطة، نعرف ملامحها في شرق أوسط يضم - إلى جانب الدول العربية - دول الجوار من إسرائيل إيران وتركيا، وحتى باكستان، وهي خريطة مجزأة بالضرورة. والهوية أيضا معلومة، فمن غير المستهدف - من جانب الغرب ومستهلكي البترول - أن تجمع هذه المنطقة قومية واحدة تجعل في الأفق اتحاد إرادة أو استراتيجية واحدة. أما العلاقات فهي تتمدد الآن.. أساسها الاقتصاد.. وأداتها السياسة والعسكرية، أما وجهتها فهي إلى الغرب بالضرورة. نحن إذن أمام قرن مختلف، بعالم مختلف.. لكنه يحتفظ من القديم بهذه الحقيقة المهمة: البترول يصنع السياسة.. وعوائد البترول تصنع السوق.. جاذب كل شيء، وكل سياسة، فالشرق الأوسط من وجهة نظر غربية: بئر وسوق.. لكن دول المنطقة قد تصنع صورة أخرى.. إذا أرادت.
|
|