جمال العربية
جمال العربية
"أموت شوقا"
عندما شاعت هذه الأبيات في مقامات الغناء وافتتن بها الناس - في العصر العباسي - كان ذلك دليلا تؤكده دلائل أخرى كثيرة - على أن شعر العباس بن الأحنف قد اخترق الحاجز، ووصل إلى الناس، فألفوه ورددوه وتغنوا به، ووجدوا فيه تلك الموسيقى الآسرة، واللغة الشعرية السهلة الممتنعة، التي جعلت منه صناجة للشعر العربي، لما تميز به من إيقاعات موسيقية مطردة، وأجراس حلوة متناغمة سلسة، تجعل له وقعا جميلا في النفس والعقل معا. والذين يتاح لهم قراءة ديوان العباس بن الأحنف لا بد أن أول ما سيفاجئهم هو كونه ديوان حب، لا مكان فيه لأي غرض شعري آخر. وهي ظاهرة تكشف لنا عن شخصية هذا الشاعر الذي لازم هارون الرشيد ورافقه في العديد من حملاته وأسفاره، وكان قريبا من بلاط القصر ومن حركة الحاكمين والولاة والأعيان، ومع ذلك لم يسمح لشاعريته بل لم تواته شاعريته مرة واحدة في إبداع شعر غير الذي استقرت عليه فطرته وطبيعته، شعر الحب والنسيب والغزل والتشبيب والصبابة، بينما العصر من حوله يموج بشعر المديح وشعر الهجاء وغيرهما من أغراض الشعر في إطارها التقليدي، وهما على بعد ما بينهما، وجهان لأمر واحد هو استخدام الشعر مطية للكسب والثراء وأخذ النوال من الممدوحين وإرهاب المهجوين. ولم يغب عن أهل عصره وزمانه، عكوفه على فن شعري واحد هو فن الغزل، وانصرافه عما جرى فيه شعراء العصر والزمان، وحاولوا التماس الأسباب في تفرد العباس بن الأحنف واختلافه عن الآخرين. يقول الجاحظ: "لولا أن العباس بن الأحنف أحذق الناس وأشعرهم وأوسعهم كلاما وخاطرا، ما قدر أن يكون شعره في مذهب واحد لا يجاوزه لأنه لا يهجو ولا يمدح، ولا يتكسب ولا يتصرف، وما نعلم شاعرا لزم فنا واحدا لزومه فأحسن فيه وأكثر". وكان إبراهيم الموصلي - إمام المغنين في زمانه - شغوفا بشعره لرقته وتناهيه في اللطف، فتغنى بكثير منه. وعندما سمع إبراهيم بن العباس من يتغنى بقول العباس:
قال: هذا والله الكلام الحسن المعنى، السهل المورد، القريب المتناول، البعيد الشبيه، السهل اللفظ، العذب المستمع. ومن أجمل ما يروونه عنه أنه خرج مع الرشيد ذات مرة إلى خراسان، وكان الرشيد قد وعده أنه لن يغيب عن أهله في بغداد، لكن الغياب طال، فاشتد بالعباس الشوق إلى أهله، واحتال هو بأبيات تصل إلى سمع الرشيد لعله يأذن له بالعودة :
وتصل أبيات العباس إلى سمع الرشيد، فيتأثر بها غاية التأثر، ويأذن لشاعره بالعودة إلى بغداد. رواية أخرى طريفة حكاها "المسعودي" في كتابه "مرور الذهب" عن جماعة من أهل البصرة، قال: خرجنا نريد الحج، فلما كنا ببعض الطريق، إذا غلام واقف على المحجة وهو ينادي: أيها الناس، هل فيكم أحد من أهل البصرة؟ قال: فعدلنا إليه، وقلنا له: ما تريد؟ قال، إن مولاي لما به يريد أن يوصيكم، فملنا معه، فإذا شخص ملقى على بعد تحت شجرة لا يحير جوابا، فجلسنا حوله فأحس بنا، فرفع رأسه وهو لا يكاد يرفعه ضعفا، وأنشأ يقول:
ثم أغمي عليه طويلا، فبينما نحن جلوس حوله، إذ أقبل طائر فوقع على الشجرة وجعل يغرد، ففتح عينيه، وجعل يسمع تغريد الطائر ثم أنشأ يقول:
قال: ثم تنفس نفسا فاضت نفسه منه، فلم نبرح من عنده حتى غسلناه وكفناه وتولينا الصلاة عليه، فلما فرغنا من دفنه سألنا الغلام عنه فقال: هذا العباس بن الأحنف!. نحن إذن أمام شاعر عاشق، عاشق فحسب، شهد له البحتري بأنه أغزل الشعراء، وقصائده في محبوبته "فوز" تنطق بعاطفة صادقة، وشاعرية أصيلة، وتسام نبيل، يذكرنا بشعر الشعراء العذريين في ترفعهم وتساميهم وعفتهم وكأنما شعر العباس امتداد للعالم الشعري عند قيس بن الملوح مجنون ليلى أو قيس بن ذريح مجنون لبنى أو جميل بن معمر صاحب بثينة أو كثير صاحب عزة وغيرهم. وقد اختلف المؤرخون والرواة والناس فيمن تكون "فوز"، وهل هي أميرة أو امرأة من عامة الناس، وحرة هي أم جارية من جواري القصور أو القيان المغنيات الشهيرات بالجمال وحلاوة الصوت والقدرة على رواية الشعر والأدب؟. حتى استطاعت الشاعرة العراقية عاتكة الخزرجي في رسالتها لنيل الدكتوراه أن تميط اللثام عن "فوز" وأن تثبت بالأدلة والبراهين والنصوص الشعرية أنها علية بنت المهدي أخت هارون الرشيد، وأن هذه الحقيقة هي التي حالت بين العباس والتصريح باسمها في شعره، والاكتفاء بالتماس الإشارات والرموز للإيهام دون تصريح والإيحاء دون البوح. يقول العباس بن الأحنف في إحدى قصائده:
ويبدو من سياق شعر العباس أن "فوزا" كانت ترضى عنه حينا وتغاضبه أحيانا، وأنها كثيرا ما كانت تعبث به دلالا عليه، فيسترضيها ويتنصل من ذنبه، وكثيرا ما كانت تمنع رسولها ورسائلها عنه، فيثور حزنه وكمده، ويشكو ويتظلم، حتى لتكاد الشكوى ويكاد التظلم يسودان شعره، ويشكلان مساحة كبيرة من معجمه الشعري، من خلال تنويعات في التعبير والتصوير، وانتقالات نغمية وموسيقية من قصيدة إلى أخرى، وكأن كل قصيدة في ديوانه، وفي سياق حياته الشعرية، حال نغمية مستقلة تعبر عن حال شعورية بذاتها، وإيقاعات البحور المجزوءة منتشرة في ديوانه، وكأنه على وعي بمدى ملاءمتها للغناء والتطريب، وصلاحيتها للدوران والانتشار على ألسنة الرواة والمغنين. والقصيدة التي نطالعها الآن من شعر العباس بن الأحنف هي واحدة من روائعه الجميلة في "فوز"، تطالعنا من خلالها شخصية الشاعر المواصلة الطريفة، وهي شخصية دائمة الحوار والأخذ والرد، والقص والسرد، والتذكير بأحداث مضت وذكريات وقعت وأيام تقضت، مما يضفي على شعره دوما جوا من الواقعية والصدق، يجعل المتلقي أكثر تقبلا له وانفتاحا عليه. وهو في هذه القصيدة - شأنه في سائر قصائده - دائم التصريح بالشكوى، دائم الأمل في الوصال، دائم الاستعطاف عن ذنب لا يدريه، دائم الحديث عن كتمان لم يستطعه، فذاع الحب وشاع، وتناقله الواشون والحساد. وإذا كان البعض يرى في حب العباس والإعلان عنه في شعره معصية أو ذنبا لا يغتفر، فهو مقر بالمعصية والذنب، لكنه يرى فيهما سبيلا إلى محبة الله، والتقرب إليه. يقول العباس بن الأحنف:
![]() |
|