الأنظمة الذكية.. صلة الإدراك والفعل

الأنظمة الذكية.. صلة الإدراك والفعل

إذا كان الذكاء حالة إدراك وقابلية على التفكير المجرد, وهو قوة ذهنية للتعلم والفهم والقدرة على استخدام المعرفة الذهنية المتوافرة, وإذا كان الذكاء الاصطناعي يعني العملية التي ينجزها جهاز بأساليب الدماغ البشري في الاستدلال والاستنتاج والتفسير المعرفي, كما هو حال الحاسب الآلي, فمن الطبيعي أن يتساءل المتأمل عن الطبيعة الآلية التي تعمل وفقا لها الأنظمة الذكية وما هي أساليبها في الإدراك?

بدأت دراسات الذكاء الاصطناعي مع الظهور الأول لتطبيقات الحاسب الآلي, حين كان التركيز في أوله على إبدال الاستخدامات الدفترية بالمحوسبة "التي تستخدم الحاسب". ففي تلك الفترة كان الاهتمام منصبا على تحليل البيانات المخزنة من أجل اتخاذ قرارات مترتبة عن تلك البيانات بعد تحليلها نحو خلق نماذج مبرمجة داخل الحاسب. ومن هنا برز التحدي في كينونة من يتخذ القرار? هل هو الإنسان, أم جعل الآلة "التي هي الحاسب" تتخذ القرار بدلا عن الإنسان في استدلالها مما هو متوافر من معرفة مخزنة واستنتاجها المفسر نحو خلق معرفة جديدة تضاف إلى تلك المعرفة المخزنة. ولتحقيق ذلك كان على الآلة أن تسلك مسلكا ذكيا عبر تزويدها بوسائل الاستدلال والاستنتاج المطلوبة. وقد رافق تلك الفترة بناء أنظمة خبيرة (Expert Systems) وقواعد معرفية (Knowledge Bases). وكان النمط الغالب على تلك البدايات هو الاستدلال وقليلا من الاستنتاج. أما الذكاء بمعناه الخلاق وما يعني ذلك من صنع وسائل خلق ذكية "كاكتشاف القوانين وصياغة النظريات" فقد كان المرحلة اللاحقة للذكاء الاصطناعي والحافة البحثية لذلك التحدي.

الإطار التطبيقي

لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد سفسطة كلامية وإنما دخل إلى حيز التطبيق وقد غدت الفائدة منه مؤكدة كما هو الحال في المجالات الخمسة التالية:

  • الأنظمة الخبيرة: وهي نوع من البرمجيات تمتلك القابلية على النصح (advise) المتأتي من تحليلها لمعرفة مجهزة أو مختزلة. كما أن تلك الأنظمة قد تمتلك قابلية توجيه الاستشارة المتأتية أيضا من تعلمها الذاتي وبالتالي يمكنها الاستكشاف (عبر التعرف الذاتي والتفسير الخلاق) كما يمكنها التنبؤ وتكوين المفاهيم المبتكرة. إن مجال عمل تلك الأنظمة قد غطى مساحات تطبيقية متعددة في الطب والصناعة والتجارة والحرب. ولقد تم تصنيع العديد منها التي تستخدم في الوقت الحاضر في مجالات التعليم وفحص العينات والإشراف والإرشاد والإدارة. إن قابلية تلك الأنظمة في إنماء قواعدها المعرفية (مع الاستخدام) يشكل تحديا جاذبا ومجالا رحبا لتطبيقات عديدة. كما أن تجهيز تلك الأنظمة بوسائل اختزال معرفية جعل نموها الرحب ممكنا. وكأمثلة عن هذه الأنظمة الخبيرة نذكر للتشخيص الطبي ولعمليات التنقيب الجيولوجية.
  • معالجة اللغات المواجهة البشرية: وهذا يعني ترجمة اللغات وقراءة الكتابة اليدوية العادية للإنسان. والتخاطب الحسي الفعال بين الآلة والإنسان في مجالات الرؤية واللمس وفهم الكلام وتكوينه. وهذه المساحة في التطبيق للذكاء الاصطناعي يمكن ملاحظتها في الأجهزة المنتشرة تجاريا والمتعلقة بتلك المجالات.
  • إدارة المعلومة والتحكم بها: والأمثلة على ذلك في تحليل الصورة وتحسين مكوناتها, الألعاب, التصميم باستخدام الحاسب, التصنيع المتوحد بالحاسب, أتمتة المكاتب.
  • حل المشاكل وإثبات النظريات: مثل على ذلك برنامج (General Problem Solver).
  • الآليات الذكية: (Intelligent Robots): وهي أجهزة تتوحد فيها أوامر السيطرة والاتصالات (وتذكر السايبرنتك). ففي هذا النمط من الأجهزة يتواصل الاتصال الذكي بين الاستيعاب والفعل Perception and Action إن تعريف الآلي الذكي بمفهوم معهد الروبوت الأمريكي, هو جهاز متعدد الدوال يمكن تغير برمجته خارجيا أو داخليا "بشكل ذاتي" لمناولة مواد وعدد أو أجهزة عبر حركة مبرمجة لتحقيق أغراض متعددة. والآليات بشكل عام مثالية للأعمال المملة المتكررة وللظروف غير السارة. ومن الضروري أن يشمل تصميمها من أجل حيازتها على الذكاء "في أقل تقدير" الأجزاء التالية:
  • مستقبلات مجسية لاختزال المعلومات من المحيط الخارجي.
  • منفذات للتحريك والفعل في المناورة.
  • مسيطر أو معالج لتفسير المعلومات وانتخاب استراتيجية الأمر.
  • ذاكرة لخزن البيانات والمعلومات واستراتيجيات الأفعال.

التركيبة المنطقية للذكاء

ومن هذا المنظور يكون الآلي الذكي "منظومة تستند إلى الحاسب في حسابات تتأثر بالمناولة الميكانيكية والاختزال المتأتي من بيانات المجسات" وبذلك فإنه يستخدم الدوال المستندة إلى الحاسبة لانجاز مهمات في ظروف غير متوقعة بواسطة الاختزال والتفسير المنطقي المخمن (Estimated Logic). إن تلك الدرجة من الذكاء تستلزم تركيبة منطقية تأخذ في نظر الاعتبار التخطيط (Planning) لمسار عام ذي استراتيجية, والتكتيك (Technique) لحركات مرحلية في فضاءات خالية من العوائق أو لتجاوز تلك العوائق, والارشاد (Guiding) في إرسال الأمر إلى المنفذات الالكتروميكانيكية, وأخيرا التنفيذ (Execution) لتحويل تلك الأوامر نحو الفعل المرغوب.

من أجل خلق الفعل الذكي

فبعد أن تقوم المجسات باستيعاب (Perception) العالم الخارجي الحقيقي وعوامله, تخزن تلك العوامل بعد تمثيلها في قاعدة بيانات معرفية, تتولى أجهزة الإدراك (Cognition) بوسائلها الاستدلالية والاستراتيجية توجيه تلك المجسات نحو استيعاب أكثر وضوحا للعالم الخارجي, وتعديل العوامل المخزنة وخلق أفضليات (Preference) تحوي في مجملها الحدود والضوابط (Constraints) نحو تكوين متفهم (Conception). بعد ذلك يجري تنفيذ الفعل المسيطر عليه على نموذج داخلي مماثل للعالم الخارجي وعند تقبل النتائج يزود الحاسب بالمعلومات المستنتجة قبل توجيه أجهزة التنفيذ (Actuators & End Effects) للعمل الإجرائي المرغوب في البيئة الخارجية مع استمرار المراقبة المنضبطة. ومن أمثلة الآلات الذكية, المركبات الفضائية (التي سبرت الفضاء وهبط بعضها على سطح القمر والكواكب الأخرى) في العقود الأخيرة من هذا القرن الآفل.

استمرار التحدي

وفيما يحقق الذكاء الاصطناعي نجاحا جليا في النطاق التطبيقي مثبا أهميتة ومرسخا مكانته إلا أنه يبقى قاصراً أمام الإعجاز الإلهي في التكوين الإنساني, ويبقى تطويره مستمراً كما يبقى الدماغ الإنساني معلنا تحديه للآلة في نقاط متعددة مثل:

  • طرق تمثيل المعرفة: فالطرق الشائعة التقليدية والمستعملة في الوقت الحاضر, كالمنطق الخبري والشبكات ذات المعنى, والأطر وأنظمة قواعد الإنتاج هي تمثيل رمزي, بينما تكون الحاجة الحقيقية في العادة إلى معرفة العالم بشأنه الحقيقي لا رموزه "بما يتعلق بالدلالات وعلاقات الأشياء".
  • وتحقيق ذلك يتطلب تكوين مجسم للأشياء "كما نفعل نحن البشر" مع خوارزميات تربط علاقات تلك الأشياء بشكل ديناميكي متغير. إن هذا التحدي خلق مجالات بحثية رحبة فيما يتـعلق بما يطـلق عليه تميـيز العيـنة واستخدامات الشبكات العصبية التي يجـري بناؤها برمجـيا وماديا.
  • منطق شبه المؤكد (Uncertainty Logic): نحن نتعامل مع مواقف نستخلص منها احتمالات عالية (أو واطئة) بحدوث أمر ما. إن هذا المنطق شبه المؤكد (أو شبه غير المؤكد) يجعل ضرورة امتلاك الآلة الذكية لتلك الإمكانية من أجل التعامل مع منطق اصطلح على تسميته بالمنطق الظرفي (Fuzzy Logic) أو المنطق الاحتمالي (Probabilistic Logic) أو المنطق المتعدد القيمة (Multivalued Logic).
  • دقة وسائل الاستيعاب: في إمكانية الآلة الذكية استيعاب التفاصيل الدقيقة جدا من الناحية المادية والضمنية ومقدار دقة الفعل المنتج من الآلة على العالم الخارجي. وخذ مثلا إمكانية الآلة في إجراء العمليات الجراحية والموازنات القلقة المتعلقة بذلك.
  • سرعة الحاسب: أين الحاسب الذي يمكنه الآن أن يعالج مع كل نبضة عشرات الملايين من البتات مستخدما ملايين المراكز العصبية وبهيكلية متوازية مدهشة مع كل نبضة كما نفعل نحن البشر? إن الحاسب في الوقت الحاضر يعالج عشرات "8 ـ 128" من البتات أو أكثر من ذلك (لكن ليس كثيرا) في أحسن الأحوال. ولاشك في أن الحاسب أسرع بكثير جدا عند اعتبار سرعة النبضة ـ أي تكرارها لوحدة الزمن ـ التي يستخدمها بالمقارنة مع دماغ الإنسان, لكن الكم من البتات المشار إليه يجعل الفارق هائلا. ولقد انحبست معمارية وتنظيم الحاسب الآلي بالفكرة التي ابتدعها العالم الأمريكي النشأة "الهنغاري المولد" فون نيومن, أواخر أربعينيات هذا القرن, في تعريفه للحاسب الآلي كونه (ذاكرة وايعازات مخزنه ترشد آلة ـ بشكل متسلسل ـ إلى كيفية معالجة البيانات المخزنة), والآلة هنا هي وحدة المنطق والحساب المشار إليها أول هذه المقالة. إن الطابع المتسلسل في عمل الحاسب وفق ما ابتدعه فون نيومن عرف بعد ذلك بعقدة فون نيومن (Von Neuman Bottleneck) بسبب المصاعب المعمارية والبرمجية في استبداله, والذي نشأ عنه أيضا فجوة برمجية (Software Gap) دائمة, سببها عدم لحاق التطور في تقنيات البرمجة بالتطور الهندسي المعماري في هياكل الحاسب الآلي البديلة والمقترحة. ولردم تلك الفجوة يكدح مهندسو إلكترونيات الحاسب الآلي نحو صنع حاسبات عالية السرعة, والالتفاف حول الفجوة تلك, بزيادة سرعة الموصلات واختراق عقدة فون نيومن عبر وسائل عالية التوصيل (Super Conductive) نحو خلق الحاسبة الضرورة.

وختاما, ففي عام 1965 تنبأ جوردن مور أحد مؤسسي شركة (Intel) والرائدة في صنع المعالجات (Processors)للحاسب الآلي في أن الكثافة ـ الكم لوحدة الحجم ـ للموصلات (التر انسسترات وما أشبه) تتضاعف لكل سنتين. ومنذ ذلك وعبر السنين الماضية, أخذت تلك المقولة نصيبها من المصداقية بحيث أصبحت تسمى بقانون مور. إن الاستمرارية في مصداقية تلك المقولة حتي الآن سيجعل رؤية حاسبات بسرعة أكثر من بليونية "تكرر النبضة المسموحة للثانية الواحدة" أمراً ممكناً. وعند أخذ التطورات الأخرى في هندسة معمارية الحاسب الآلي ونظمه وخوارزميات البرمجيات وأسرار بيوت الخبرة والبحث وتحديات صراع البقاء, وما ينتج عن كل ذلك, من تراكم علمي خلاق لأجهزة لم تولد إلا أواخر النصف الأول من القرن الحالي نجد التفاؤل مدعما في أن أغلب تحديات الذكاء الاصطناعي سوف تذلل نحو صنع الآلة الذكية. إن صنع تلك الآلة سيفتح ولادة الجيل الخامس "الموعود" من الحاسب الآلي الذي يسمع ويتكلم, يرى ويحس, يفكر ويتعلم. وفي التفـكير والتعلم "وتطويره ونقله" كان سر تفوق الإنسان, ولذلك نرى حديثا.

 

عبدالرضا الفائز

 
 












الهيكل التنظيمي للمنظومة الخبيرة





منظومة خبيرة للارشاد الاكاديمي





الطائرة استلهمها الفكر البشري من الطائر





الانظمة الذكية .. جعلت الباخرة تشابه مخلوقات البحر