مرفأ الذاكرة

مرفأ الذاكرة

وقائع تجربة (مثقف) في لبنان

ماذا يعني أن تكون مثقفا غير محسوب على تيار أو طائفة?. ماذا يعني أن تبحث عن طريق مستقل لذاتك? هذا هو السؤال.

كان ذلك عام 1978 وقد مضت أشهرٌ على عودتي من ألمانيا بعد حصولي على الدكتوراه, وقد أراد مقدم أحد البرامج في التلفزيون اللبناني أن يتحف مشاهديه بحوار بين مثقفين مسلمين ومسيحيين للسلام والمصالحة بعد استتباب الهدنة الأولى في حربنا الملحمية. وقد حدث أن اعتذر أحد المشاركين المسلمين في آخر لحظة واقترحني بديلاً عنه. لكن عندما حضرت إلى الاستوديو كان مقدم البرنامج قد غير رأيه, فصحيح أنني لا ألبس عمامة شأن رجال الدين المسلمين, لكنه أخبر أنني متخرج في الأزهر في الأصل, وبذلك فأنا شيخٌ ولست مثقفا, وهو يريده حوارا بين مثقفين! وهكذا خرجت من مبنى التلفزيون أجرر أذيال الخيبة بعد فشل محاولة الظهور الأولى على الشاشة!

ومثل آخر من السنوات الأولى تلك. فقد ترشحت عام 1980 لكرسي الشيخ زايد للفقه الإسلامي بالجامعة الأمريكية ببيروت. وتحمس لي بعض أساتذة الجامعة آنذاك. لكن كان من سوء حظي أن صدرت لي إبان تلك الفترة مراجعة نقدية لأحد كتب الدكتور محمد أحمد خلف الله, مشعرة بعدم اهتمامي بالعلمنة, بل وبحملتي على مسار العلمنة العربية. واتصل بي واحد ممن كانوا متحمسين لي وقد تبخر حماسه وقال: كيف تريد أن تدخل للجامعة الأمريكية وأنت ضد العلمنة? بل كيف تريد أن تعتبر مثقفا وأنت غريب عن هذا المصطلح والمفهوم?!

ومثل ثالث على صعوبات السنوات الأولى أيضاً. فعندما عدت من ألمانيا في صيف العام 1977, كان عدة من معارفي يعملون باحثين في معهد الإنماء العربي الذي افتتح أبوابه في بيروت عام 1976. وقد سعيت للانضمام إليهم, فتوسط لي بعضهم لدى المدير. لكن كانت الصعوبة في الفريق البحثي الذي يمكن أن أنضم إليه. فهناك فريق للتاريخ, وفريق للحرب اللبنانية, وفريق للفكر القومي العربي.. إلخ لكن ليس هناك فريق للدراسات الإسلامية. وعندما اكتشفت أن الدراسات الإسلامية تعني لهم أنني شيخ أو فقيه, سارعت للقول إنني أحمل دكتوراه في الفلسفة, أو في الاستشراق.. ولأن للفلسفة الألمانية والاستشراق الألماني سحرهما الذي لا ينكر فقد مال المدير لقبولي بعد لأى.

لست ضحية

لا أريد هنا تصوير نفسي بصورة الضحية. فالواقع أنني وجدت عملاً في معهد الإنماء, ثم صرت بعد سنتين رئيسا لتحرير مجلته البارزة: مجلة الفكر العربي, وعام 1982 صرت مديرا للمعهد نفسه حتى العام 1985. أما الجامعة اللبنانية فقد دخلتها أيضا بالواسطة في خريف العام 1977, ولم يحتجوا بأنني شيخ, إذ كان بين مدرسيها شيوخ وخوارنة, لكن عميد كلية الآداب آنذاك الدكتور أحمد مكي تبرم قائلاً: ألا يكفيني ما أعانيه من الشيخ صبحي الصالح, لأبتلي بشيخ آخر?! وقلت له: لكنني قضيت في ألمانيا خمس سنوات فأجاب: والشيخ صبحي قضى في السوربون أكثر من خمس سنوات, وعاد بعمامته كأن لم يغادر الأزهر!

والحق أن الصعوبة لم تكن في عدم انطباق صورة ومفهوم المثقف علي وحسب, بل وفي غربتي عن البيئات الثقافية اللبنانية, وحساسيات تلك البيئات. فقد درست في المعهد الديني ببيروت على أساتذة مصريين, ثم تابعت دراستي في الأزهر, وبعد عمل قصير بدار الفتوى بلبنان (1970 ـ 1972), ذهبت إلى ألمانيا حيث مكثت حتى الدكتوراه. ومن هنا فإنني لم أعش الحساسيات الثقافية والسياسية لما قبل الحرب, وأعني بها اليسارية أو اليمينية "واليسارية على الخصوص", ثم إنني ما تمكنت عند عودتي أن أنضم حقا لإحدى عصائب المثقفين في المنطقة الغربية من بيروت, رغم رغبتي الشديدة في ذلك آنذاك, للاختلاف في الاهتمامات, ولأخطائي الفاضحة في إدراك التمييزات الدقيقة بين مختلف تلك الفرق. قضيت السنتين الأوليين "1977 ـ 1979" وأنا أحاول التمييز مواربة بين الجبهة الشعبية والجبهة الديموقراطية, وبين الحزب الشيوعي ومنظمة العمل الشيوعي. وما جرؤت على السؤال مباشرة حتى لا أتهم بالسذاجة. وكنت في عواطفي أدنى إلى الناصريين, لكنني فهمت أن ذلك لا يليق بمن يريد أن يكون مثقفا لأنهم سذج وعوام ولا ينتمون حقاً إلى اليسار التقدمي! وكان الزملاء الذين تعرفت عليهم جميعاً بالجامعة ومعهد الإنماء منهمكين في كتابة تاريخ لبنان والتصارع حوله, وما كان ذلك يستهويني, كما لم أكن مستطيعاً أن أخوض فيه لو أردت. وعندما طلب مني أحد الأصدقاء المشاركة في ندوة عن الثقافة الوطنية صارحته بأنني لا أعرف ماذا تعني تلك الثقافة!

فابتسم ابتسامة ذات معنى مغزاها أنني جاهل! فثرت وقلت: تريدني أن أترك ثقافة الأمة العريقة التي تعلمتها في بيروت ومصر وألمانيا طوال حوالي العشرين عاماً, لأخوض في زواريب الحرب التي خربت أول ما خربت قريتنا?!

الزميل المرحوم معن زيادة حاول حل المشكلة بالنسبة لي فقال: أنت لست شيخاً واعظاً, كما أنك لست فقيها بالمعنى التقليدي لذلك, لكنك تعرف كثيرا في الأدبيات العربية القديمة, لذا فأنت في الحقيقة مختص في التراث! بيد أن هذا التحديد لم يعجب وضاح شرارة, زميلنا في معهد الإنماء آنذاك, فقال لي بعد أن قرأ النصين الأولين اللذين نشرتهما عامي 78 و79: أنت بارع في تحقيق النصوص القديمة, لكنك لست بارعا في قراءتها ودراستها: فما رأيك لو اشتركنا معاً: أنت تحقق النص, وأنا اكتب مقدمته الدراسية!

صعوبة الانتماء

هناك صعوبتان إذن واجهتاني في مجال الحصول على اعتراف بالانتماء إلى زمرة المثقفين, تتصل أولاهما بطبيعة تخصصي, وتتصل الثانية بصورة المثقف في لبنان, ومدى انطباق تلك الصورة علي. فتخصص الدراسات الإسلامية لم يكن مألوفا قبل السبعينيات في لبنان, أو أنه ما كان مألوفا أن يكون المختص بالإسلاميات مسلماً, بدليل أن رجلاً كالأب فريد جبر عمر في هذا النطاق أربعة عقود دون أن يثير استنكار أحد لأنه في نظر جمهرة المثقفين يستطيع ممارسة هذا العلم, هذا الـ disciplin, للمسافة الموجودة بين تخصصه ودينه. وقد ناقشته في هذا الأمر أواخر السبعينيات, فتجنب الإجابة المباشرة وانصرف إلى امتداح الصداقة القائمة منذ زمن بينه وبين الشيخ صبحي الصالح. لكن جرى التسليم بي في هذا المجال بعد لأي من باب الاستشراق, وباب احترام تقاليد الاستشراق الألماني بالذات. على أن فريد جبر ما كان يسمي تخصصه دراسات إسلامية, بل كان يعتبر نفسه أستاذا للفكر العربي, وهو أمر أصر العميد أحمد مكي عليه وسمي به, تجنبا للحساسيات الدينية كما قال. ففي بيئات طائفية كالبيئات اللبنانية كان الميل العام إلى اعتبار الإسلام تارة ديناً, وطوراً طائفة لا أكثر, في تجاهل أو إنكار للثقافة والحضارة الإسلاميتين وإمكان الاختصاص في مجالهما للمسلم بالذات. ثم جاءت الثورة الإسلامية الإيرانية, وبرزت حركات الإسلام السياسي, فقيل وقتها تحت تأثير الحاجة للمعرفة والفهم إن هناك حاجة لخبراء في مجال الإسلام, فكان أن جرى الاعتراف بي باعتباري واحداً من أولئك الخبراء, في حين ظللت أعتبر نفسي بين مؤرخي الفكر, وإن اضطررت تحت وطأة المطالبات في النصف الثاني من الثمانينيات للكتابة في ظواهر الإسلام المعاصر, علما بأنني ما اعتبرت كتاباتي الحديثة إلا كتابات رأي واستطلاع, لأن دراسة الظواهر الحديثة تخضع لمناهج العلوم الاجتماعية, لا لمناهج تاريخ الفكر.

وظلت الصعوبة الأبرز بالنسبة لي هي تلك المتعلقة بصورة المثقف. فالمثقف اللبناني على الخصوص يملك لنفسه صورة المثقف الفرنسي العلماني المعارض. فهو في أكثر الأحيان يعرف ما لا يريده أكثر مما يعرف أو يهتم بمعرفة ما يريده. ثم إنه بحكم علمانيته اليسارية المنزع غالباً, لا يرى أن الدين يمكن أن يكون موضوع دراسة علمية. ومن هنا فقد أقبل المثقفون اليساريون العرب واللبنانيون منذ الستينيات على تأمل الدين الإسلامي والحضارة الإسلامية تحت عنوان التراث. وقد اعتبروا أنهم موضوعيون تماما في هذا التأمل حين اعترف بعضهم بوجود عناصر ثورية في الدين, ثم حاولوا اكتشافها في دراسات متطاولة ما تنفك تصدر بلا توقف. وما تغيرت نظرتهم إلى الدين حتى اليوم, لكنهم تحت وطأة الأحداث منذ السبعينيات, أصدروا حكما محددا على الإسلام اعتبروه بمقتضاه ثورانا رجعيا ضد الحداثة ومخاطرها وتحدياتها. وعندما تصدعت جبهاتهم بانهيار الأحزاب والحركات اليسارية في لبنان, وغروب الشيوعية الدولية في العالم, اندفع كثيرون منهم إلى أحضان الليبراليات الجديدة ذات الجذر العلماني, فتغيرت آراؤهم في كثير من الأمور باستثناء الدين, الذي ظلوا يعتبرونه انثروبولوجيا سكونية الجوهر, مستعصية علي التغيير.

الخبير أم الشيخ

وإذا كانت الأوساط الأكاديمية قد اعتبرتني خبيرا في الشؤون الإسلامية في الثمانينيات, فإن اليساريين والليبراليين أصروا على ربطي بالدين واعتباري شيخاً, لكن فقدهم للسيطرة في المجال الثقافي أفضى إلى النفاذ من خروم شباكهم, والانتظام في سياقات جديدة, بعد انقلاب المرجعية الواحدة مرجعيات متعددة واعدة.

وهناك أمر آخر, أحسب أنه موجود في سائر البلدان العربية بدرجات متفاوتة. هناك افتراق بين الحياة الجامعية الأكاديمية, والحياة الثقافية. فالأساتذة الجامعيون سواء أكانوا في الجامعة اللبنانية أم في الجامعات الخاصة لا يلعبون دورا كبيرا في الحياة الثقافية التي تُصنع في الأقسام الثقافية في الصحف والمجلات, والكتب, والرسائل, ودواوين الشعر التي تصدرها دور النشر اللبنانية. فليس من الصعب أن تجد مكانا للتعليم في إحدى الجامعات الكثيرة التي يعج بها لبنان, لكن من الصعوبة بمكان أن يجري قبولك أوتوماتيكيا في عصبة المثقفين. ذلك لأن الأستاذ الجامعي في لبنان محترف تعليم, وكتبه تقنية الطابع, وهو ليس على وعي قوي بفوائد وسائل الإعلام في حين لا يفعل (المثقف) شيئاً غير التجوال بين الصحف والمجلات ودور النشر عارضاً عضلاته, مناديا بالويل والثبور وعظائم الأمور.

مثقف الطائفة

يواجه صاحب الدعوى الثقافية في لبنان إذن صعوبات لا يعرف بعض منها في المجال العربي, لكن له أيضا ميزات لا يتمتع بها أكثر المثقفين العرب. تكمن الصعوبات المتعلقة بالمثقف في لبنان في خصائص المجتمع اللبناني ونظامه السياسي. فالمجتمع طائفي, وكذلك النظام. ولذلك لابد أن تحسب حسابا لذلك, إذ ستطويك سائر الأطراف ضمن الطائفة التي ينتمي إليها والدك, سواء أعجبك ذلك أم لا. وكان اليسار ينقذك بدءا إذا انتميت إليه بعدم الاضطرار للانتماء إلى إحدى الطوائف, وهذه فضيلة له لا يمكن إنكارها. فلما انهار اليسار الثقافي اختفت المظلة, وعادت ضرورات الحماية ضمن الطوائف.

وقد أنقذني من هذا المصير ـ مصير مثقف الطائفة ـ تربيتي المصرية, وسوء أوضاع الطوائف وبخاصة الطائفة السنية أثناء الحرب. فبعد مجيئي من ألمانيا أصدرت الطوائف الإسلامية وثيقة (الثوابت العشر) التي كان من ضمن بنودها اعتبار لبنان وطناً نهائياً لجميع بنيه. وقد أزعجتني مسألة (النهائية) كثيرا رغم معرفتي بالظروف الضاغطة التي أفضت إليها. وعندما ناقشت المسألة مع المفتي السابق الشيخ حسن خالد, والشيخ شمس الدين, سخرا من مثاليتي, في حين كنت أرى أن الانحصار في الكيانية اللبنانية سيؤدي إلى مزيد من تطييف المسلمين وشرذمتهم, فلا ينبغي المصير إلى أطروحات كيانية ضيقة بسبب الظروف الضاغطة للحرب وأطروحاتها. على أن الإصغاء من جانب السنيين للمطالب التي فرضتها النزاعات الداخلية لم يحم جانبهم أو مدنهم وبخاصة في مراحل الصراع بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982. وهكذا فإنهم ما كانوا قادرين على تطوير أطروحات ومصالح تحتاج إلى مثقفين للدفاع عنها, أو يمكنها أن تحتضن مثقفين. أما تربيتي المصرية فقد أفقدتني الإحساس بالخصوصيات اللبنانية سواء أكانت إسلامية أم مسيحية. ففي مصر وألمانيا درست الإسلام باعتباره حضارة عالمية تاريخية شهودها اليوم زهاء خمس سكان العالم. ولذا فقد كان يزعجني ولا يزال أن يكتب في أوراقي الشخصية أنني سني أو محمدي أو مسلم سني. ومع ذلك فما أحسب أنني خسرت كثيرا بعدم الحرص على الانتماء الطائفي حسب الترتيبات اللبنانية فقد حظيت برعاية المسلمين وتقدير مؤسساتهم منذ عدت إلى لبنان, أفأكون واهما بالزعم أنني تمردت على الانتماء الطائفي?!

غريب الدار

ومع ذلك كله, أو رغم ذلك كله فإن بيروت رائعة للمثقفين. فقد وجدت عملا في الجامعة فور عودتي وخلال عامين توليت تحرير مجلة مشهورة وقتها هي مجلة الفكر العربي, ثم في النصف الثاني من الثمانينيات أصدرت بالاشتراك مع الوزير السابق الفضل شلق مجلة الاجتهاد التي مازلت أحررها حتى اليوم. والنشر سهل جداً في بيروت. فقبل أن تنتهي من كتابة مقالة تتلقى عدة عروض للنشر, وتستطيع أن تتقاضى أحيانا مبلغاً من المال مقابل نشر كتاب. وعندما زارني في بيروت عام 1986 اثنان من زملائي السابقين بجامعة الأزهر, ورأيا مكتبتي وما أصدرت من كتب ومقالات, اعتبرا النجاح السريع الذي تتيحه بيروت مضراً بالمستوى الأكاديمي, فضلا عن أنه يجعل المثقف يبالغ في تقدير إمكاناته العلمية. على أن الكتب والمجلات التي أصدرتها بلبنان, وما أزال, تقرأ في الأعم الأغلب في بلدان الوطن العربي وليس في مكان الصدور. أدركت ذلك منذ الثمانينيات عندما بدأت أقرأ عروضا لكتبي ومقالات في المغرب ومصر والعراق وتونس. ثم بدأت الجامعات العربية تدعوني للمحاضرة أو للتدريس في حين ظل أكثر طلابي بالجامعة اللبنانية حتى مطلع التسعينيات يجهلون ما كتبته أو ما أهتم به. أما كتاباتي في الصحف اللبنانية فتقرؤها قلة قليلة فقط إلا ما تعلق بموضوع لبناني. فعندما زرت إيران عام 1997 أقبلت على كتابة مقالات حول الوضعين الثقافي والسياسي هناك, فلم أتلق أي استفهام حول ما كتبت, في حين حظي مقال كتبته عن هجرة المسيحيين العرب بتعليقات كثيرة سلباً أو إيجاباً أو إضافة.

أما العلاقات مع الأساتذة والمثقفين فإنها لم تتطور إلى علاقات صداقة إلا مع قلة قليلة لا يتجاوز عددها عدد أصابع اليدين. ويرجع ذلك في جزء منه إلى أنني لم أدرس في الجامعة اللبنانية في الستينيات والسبعينيات شأن الكثرة الساحقة منهم, فلم تكن لدينا ذكريات مشتركة. إذ تعرفت على أكثرهم بعد مجيئي من ألمانيا مع ما أحاط بهويتي الثقافية في السنوات الأولى من التباسات. والحقيقة الأخرى أن الزملاء في لبنان لا يقرأ أحدهم للآخر. قال لي زميل كنت قد تعرفت عليه عام 1978: لماذا هذا الاهتمام الطائفي بل المذهبي المستمر في كتاباتك? وكان يعني بذلك أنني شيعي متحمس! فسررت لأول وهلة ظنا مني أن ذلك يعني أنه لا يمكن معرفة طائفتي من خلال كتاباتي! لكن صديقا متابعا أقسم لي أن الزميل القديم لم يقرأ شيئا من كتاباتي باستثناء العناوين ذات الموضوعات الإسلامية, ولأن الإسلامية كانت تتماهى مع الشيعية في أذهان المسيحيين اللبنانيين, فإن صاحبنا اعتبرني كذلك!

لكن ـ وكل شيء في لبنان لابد فيه من ولكن ـ عندما نشرت الدار التي أخرجت كتابي الأخيرين في صيف العام 1997 إعلانا في الصحف أنني سأوقعهما في معرض الكتاب الذي أقيم اواخر ذلك العام, أقبل زهاء الثلاثمائة في عشيتين على شراء الكتابين والمجيء بهما إليَّ للحظوة بتوقيعي!

بيروت والعيش الصالح

ذكر أبو الفرج الأصفهاني صاحب كتاب الأغاني عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن أعرابيا كان يمر ببابها يومياً منشداً:

على بكرٍ أخي فارقت بكراً
وأي العيش يصلح بعد بكر

وعندما طال عليها الأمر استدعته إليها وخاطبته قائلة: أتقول إن عيش الناس لن يصلح بعد موت أخيك بكر?! أنا أرى أن كل العيش صالح بعد بكر حتى الخبز المالح! والأمر على النحو نفسه في بيروت: كل العيش صالح فيها وعذب رغم الصعوبات المحيطة بأوضاعنا باعتبارنا مثقفين, ورغم وجودنا نحن المثقفين المزعجين والمنزعجين.

 

رضوان السيد