الكويت تشدو والموسيقى تصدح

الكويت تشدو والموسيقى تصدح

لم تكن الموسيقى ولا الأغنية الكويتية طوال تاريخها بعيدة عن محيطها العربي والخليجي, فقد ربطتها العروبة وأعطتها إيقاعات البحر طابعها المميز.

لسنا هنا في مجال السرد التاريخي لتلك الأغنية أو تلك الموسيقى, بل نحن في مجال التعرّف على آخر المستجدات التي طرأت على الموسيقى الكويتية سواء كانت تأثراً أو تأثيراً, وتلك المستجدات وإن كانت قد جاءت بقصد مسايرة التطور الحضاري الذي شهدته نهاية القرن التاسع عشر أو بدايات القرن العشرين, فإنها كانت في الوقت ذاته تضاهي ما هو مطروح بالساحة الفنية على مستوى العالم العربي بشكل عام.

إن بدايات الموسيقى الكويتية الحديثة لم تأت من فراغ, بل كانت هناك عوامل عدة ساعدت على ظهورها من محيط الأداء الشعبي البسيط والصياغة اللحنية الساذجة التي انحصرت بها في أول الأمر إلى محيط مستمعي العالم العربي الذي استساغ بدوره نوعية الموسيقى الكويتية. وما كاد القرن العشرون ينتصف حتى وجدنا الموسيقى الكويتية قد تخطّت مراحل التأسيس لأهم فروعها الأساسية البارزة والتي من أهمها:

(1) الغناء العاطفي.

(2) الغناء أو الفنون الدينية.

(3) الغناء والأناشيد الوطنية.

تأثير وتأثر

ما الدور - إذن - الذي لعبه الفنان الحديث في تطوير هذه الموسيقى? وهل كانت معالجاته للفنون الكويتية وعلى الخصوص الشعبية منها على مستوى يحاكي به أرقى فنون العالم العربي الذي سبقه في هذا المجال? وهل تأثر الفنان الكويتي بنوعية الفنون العربية الأخرى?

ولكي تكون إجاباتنا واضحة حول هذا الموضوع لابد من الرجوع إلى أصول الفنون الحديثة في الكويت لنرى من خلالها نوع وسمة الحداثة بها, وقبل ذلك يجدر بنا قبل كل شيء معرفة مدى هذه التأثيرات في الفن الكويتي. وهناك أقاويل ونظريات في موضوع نسبة أصول الفنون الموسيقية الكويتية إلى حضارات عدة, وعلى الخصوص الفنون البحرية الكويتية. فمن تلك الأقاويل ما ينسب هذه الفنون إلى الحضارة الهندية, وهناك مَن ينسبها إلى الفنون الإفريقية, معتمدين في ذلك على تعدد أنواع الإيقاعات البحرية, ومن ثم حقيقة وصول البحار الكويتي قديماً إلى الهند وأعالي إفريقيا. علماً بأن تلك الأقاويل تفتقر إلى الحقيقة ومبنية على الحدس والتخمين فقط. إلا أن البحوث والدراسات الحديثة قد أظهرت بعض الحقيقة في ذلك, حيث نسب بعضهم فنون قالب الصوت والسامري إلى الأصول العربية القديمة إبان حكم الدولتين الأموية والعباسية.

ومهما يكن من ذلك, فإن حديثنا لن يصل بعمقه التاريخي لتلك الفترة, بل سنتناول فترة ظهور الأغنية الحديثة التي تبلورت بشكل واضح منذ الخمسينيات من القرن العشرين, وبالتحديد عندما سافر إلى مصر الفنان الكويتي سعود الراشد في أواخر عام 1958م ليسجل بعض ألحانه أو بعض معالجاته لبعض الفنون الشعبية التي تعتبر بحق بداية التطور للأغنية الكويتية.

أما الحديث حول تأثير الموسيقى الغنائية الكويتية أو تأثرها بما وصل إليها من حضارة قائمة, فإننا نلمس الطابع والنكهة المصرية في بعض صياغة الجمل اللحنية التي ظهرت خلال فترة الستينيات وبداية السبعينيات من القرن العشرين, وذلك في محاولة من الفنان الكويتي لإثبات وجوده على مستوى العالم العربي من جهة, ومن جهة أخرى نشر ما ينتجه على نطاق واسع عن طريق سهولة وليونة الجملة المصرية التي تصل بسلاسة للأذن العربية. خاصة أن الفنون الكويتية بتلك الفترة تعتبر قليلة الانتشار وتشكّل صعوبة في كيفية استيعابها من قبل المستمع العربي, مما دفع الفنان لأن يحاكي الأسلوب المصري في صياغة بعض الجمل اللحنية التي تعتبر من أجمل الصياغات اللحنية. وأقرب مثال على ذلك نجده في لحن (صوت السهارى) الذي غنّته المطربة المصرية فايزة أحمد بعدما غنّاه المطرب الكويتي عوض دوخي, فهذا اللحن وإن صيغ بأسلوب صياغة الجمل المصرية, فإنه من الألحان الشعبية القديمة والذي ألبسه الفنان الكويتي ثوباً جديداً يتناسب ومستمعي هذا العصر.

الأغنية تنهض

اشتركت عوامل عدة في النهوض بمستوى الأغنية الكويتية الحديثة, ونقصد بالحداثة ما ظهر من فنون غنائية خلال تلك الفترة من الخمسينيات إلى السبعينيات تقريباً. فكان من أهم تلك العوامل وأقواها تأثيراً هو تشجيع الدولة ممثلة بوزارة الشئون ووزارة الإرشاد والأنباء (وزارة الإعلام في الوقت الحالي). فقد أنشأت هذه الوزارة عام 1958م أول مركز لرعاية الفنون الشعبية لجمع التراث الشعبي من أغاني وأمثال وشعر وما إلى ذلك من مأثورات شعبية, ثم ظهرت جمعية الفنانين التي جمعت تحت ظلها جيلين من فناني الكويت, فكان لهذا التجمّع أثر واضح في رقي ومعالجة الفنون الكويتية. أما وزارة الإرشاد والأنباء, فكان دورها بارزاً وقوي التأثير, ففي نهاية عام 1958م تقريباً, تأسست بفضلها فرقة الإذاعة الكويتية من العازفين العرب, وعلى الأخص من مصر التي وفد منها مجموعة من الفنانين لا يُستهان بمقدرتهم الفنية مثل نجيب رزق الله ومشيل المصري وأحمد علي وحمدي الحريري, فهؤلاء وإن مثّلوا قياديي الفرقة, فإن أعضاءها كانوا على مستوى راق من التمكّن من العزف على مختلف الآلات الموسيقية, حيث كانت لهم أياد بيضاء في فتح الإبداع لدى الفنان الكويتي, فكانوا بمنزلة الرسول الذي يوصل الرسالة بشكل صادق, والبناة الذين وضعوا أساساً قوياً للأغنية الكويتية الحديثة.

بعث الأغنية الشعبية

هناك العديد من المحاولات الجادّة التي ارتفعت بمستوى الأغنية الكويتية إلى مصاف الأعمال التي ينظر لها بإعجاب, فكان دور الفنان الحديث بارزاً في كيفية المعالجة الفنية لتلك الأعمال, ولكي نصل إلى مفهوم واضح حول هذه المعالجات, لابد لنا أن نحلل بعض الأعمال الفنية الكويتية التي كانت في السابق شعبية الأصل, ثم خرجت من تحت هذا المصطلح عندما تدخل الفنان الكويتي وحاول معالجتها معالجة فنية صبغتها بصبغة الحاضر المتجدد. فلو أخذنا على سبيل المثال فن (الهولو) وهو أحد فنون غناء البحر, وحاولنا تحليله موسيقياً كعمل متكامل من ناحية أساسيات البناء اللحني, فإننا سنجد تلك الناحية متوافرة بشكل متفاوت من ناحية قوة عناصره المكوّنة من الأنغام كموسيقى نغمية, والإيقاع كموسيقى إيقاعية. فإذا ما نظرنا أولاً إلى الناحية النغمية, فإننا سنجدها أقل وفرة من الناحية الإيقاعية, ولكن صياغتها كجملة موسيقية تعتبر متكاملة البناء, أي أن لها بداية ونهاية, ومحددة بما يطلق عليه في العرف الموسيقي اسم مقام. وأغنيتنا المختارة هذه مصاغة من مقام يعرف باسم مقام البياتي, وعلى ذلك نجد تنوّع استخدام المقامات في صياغة معظم الأغاني الشعبية محددة في مقام واحد, ولا تتعداه في أي حال من الأحوال, كما أن محدودية استخدام المقامات في الأغاني الشعبية لا يعني العجز في الأغنية الشعبية أو عدم المقدرة على استخدام أكثر من مقام, ولكنها سمة من السمات التي ميّزت الأغنية الشعبية عن الأغنية الموضوعة أو الملحّنة. هذا من ناحية المقام والنغم في أغنيتنا, أما الناحية الإيقاعية, وهو العنصر الثاني في كيفية صياغة الألحان الموسيقية, فلقد ميّز هذا العنصر - وهو الإيقاع -الموسيقى الكويتية عن سائر موسيقات العالم, وذلك من حيث كثرة عدد أنواع وأشكال الإيقاعات الكويتية. أما إيقاعنا في هذه الأغنية, فهو إيقاع لمة الجيب - بكسر الجيم -, والجيب تسمية تطلق على شكل من أشكال الإيقاعات الكويتية البحرية, وهذه التسمية, استمدت من تسمية أحد أنواع الأشرعة التي تحملها السفينة في الكويت, والبالغ عددها ستة أشرعة مختلفة الأحجام. أما عن عدد وحدات نقره... فهي تساوي ست عشرة نقرة, منها سبع نقرات تستعمل لفظة دم, وثماني نقرات تستعمل لفظة تك, يتخللها سكتتان, الأولى خلف الدم الأولى, والثانية خلف التك الأولى.

أصالة الأغنية

نعود الآن لأغنيتنا, ونقول إنها من الأغاني البحرية الشعبية القديمة, والتي أحسّ بأصالتها ومنبعها الفنان الكويتي الحديث, فحاول معايشتها بطريقته الخاصة, فانفعل وتفاعل معها إلى أن أظهرها لنا بصورة أخرى تساير عصرنا الحاضر. ومع أن الفنان الحديث شديد الحماس للارتقاء بمستوى الأغنية الشعبية من مستوى الأداء الشعبي البسيط إلى مستوى الأداء العالمي, إلا أنه كان حريصاً كل الحرص على أصالة الأغنية وأساسيات وضعها, سواء من الناحية اللحنية أو الناحية الإيقاعية. فكانت استعارته لهذه الأغنية استعارة حرفية تخلو من الشوائب, أي أنه أخذ منها ما هو أساسي في اللحن ثم حاول معالجتها وتجميلها موسيقياً بحيث أظهرها لنا بالتالي في ثوب جديد يلائم وقتنا الحاضر. هذا مع حرصه على أن تحمل هذه المعالجة بعض سمات الأغنية الأصلية والتي تمثلت بتسلسل كيفية الأداء حتى لا تبهت الصورة العامة للأغنية نفسها, ونلاحظ أيضا أن الفنان هنا لم يمس هذا الجزء من الأغنية بشيء من ناحية اللحن وكيفية تركيبته اللحنية حيث نجد المقام المصاغة منه الأغنية, هو نفسه لم يتغير, كذلك نجد الإيقاع المستخدم نفسه في الأغنية القديمة قد طبّقه على الأغنية الحديثة, ولكن باختلاف تنظيم دخوله فقط.

معادل الشعر والموسيقى

نقول إن الأغنية القديمة كانت تعتمد في طولها الوقتي على نوعية الشعر المغنى, فمتى ما كان الشعر طويلاً كانت معه الأغنية طويلة, ولكن هذا الطول الزمني في الأغنية كان يعتمد على تكرار اللحن نفسه مع تغيير أبيات الشعر فقط. وتغيير الأبيات الشعرية على لحن ثابت جعل المستوى الفني للموسيقى في الأغنية القديمة يأتي بالدرجة الثانية بعد الكلمات. أي أن المجهود الموسيقي لم يأخذ حقه في التطريب, علاوة على الاهتمام الكافي في اختيار وحسن أداء المطرب. لذلك تدخل الفنان الكويتي وبوعي منه ليعادل بين كفتي ميزان الشعر والموسيقى, وحاول معالجة الأغنية من هذا المفهوم ومن هذا المنطلق. فبدأ خطواته في معالجة الأغنية بادياً بنزع الشوائب من اللحن الأساسي, وذلك في محاولة منه لتوضيح الأغنية بشكل يلائم مستمع اليوم, ثم بعد ذلك حاول إثراء الناحية الموسيقية, فنجده يضع مقدمة لحنية جديدة تنطوي على نوع من أنواع التأليف الهارموني البسيط. وكأنه بهذه الحالة يؤكد إصراره على تطوّر القديم ليلائم مستمع اليوم ويعلن بهذا التطوّر عن ولادة موسيقى جديدة تدخل الكويت من أوسع أبوابها وهو المذياع.

ولكن... هل اكتفى الفنان بهذا الحد من التطور...? وهل عملية النقل أو تحسين الأداء الغنائي من القديم إلى الحديث يعتبر نهاية التطور...?

لقد حاول الفنان أن يكسر قاعدة التكرار الممل للموسيقى الملحّنة عند الملحن الشعبي. فجعل بداية تطويره للأغنية هو النقل الحرفي من القديم إلى الحديث في كيفية الأداء, سواء من ناحية الموسيقى أو من ناحية الغناء. ثم بعد ذلك أخذ ينوّع من استخدام الجمل الموسيقية, ممهّداً لها بوصلة موسيقية صغيرة قريبة في أدائها من طابع الماضي وبشكل حديث متمثّلة بترديد الكورال. هذه الوصلة قد مهّدت لدخول الفنان إلى عالم الأنغام ليضيف أكثر من جملة موسيقية بمصاحبة غناء المطرب, فتنقل ما بين عشرة أنواع من أجناس المقامات مستعرضاً مهارته الفنية في كيفية الانتقال من مقام لآخر.

موسيقى وابتهالات

ولو أخذنا مثالاً آخر يمثل الأغاني الدينية في الكويت, فسنجد أغنية (حيوا ليلى) التي عبّرت عن هذا النوع من الفنون تعبيراً صادقاً, فإذا ما دققنا النظر بقصد تحليلها موسيقياً, فإننا نرى تكوين جملة موسيقية كاملة العناصر والبناء, ومصاغة من مقام يعرف باسم مقام البياتي, كذلك نجد هذه الجملة تنقسم إلى جزأين أو إلى قسمين, القسم الأول فيها يعبّر عن سؤال يحتاج إلى إجابة, ثم نجد القسم الثاني الذي يمثّل الجواب على ذلك السؤال, وبنهايته, أي بنهاية الجواب, تنتهي الجملة الموسيقية. ولكي نكون أكثر وضوحاً في شرحنا هذا, نقول إن الشطر الأول من البيت في القصيدة وهو (حيوا ليلى) والمعاد مرتين على التوالي, يكون بمنزلة السؤال, ثم قام الشطر الثاني من هذا البيت نفسه وهو (وعلى ليلى السلام) بالجواب على ذلك السؤال, حيث نجد نهاية الجملة تأتي مع نهاية لفظة "السلام", أما لفظة اسم الجلالة "الله" فهي تعبّر عن الوصلة فيما بين أبيات القصيدة مما يمكن المؤدي من إعادة الجملة مرة أخرى دون أن نشعر بانقطاع الجملة ثم إعادتها مرة أخرى.

هذا من الناحية اللحنية والمقامية في أغنيتنا, أما الناحية الإيقاعية فيها, فإننا نستمع إليها بشكل أصوات المجموعة وهي تؤدي الضغوط الإيقاعية الأساسية في اللحن مستغلة في ذلك لفظة "الله" مع مد الهاء الأخيرة, ثم لفظة "دايم" ليكتمل الوزن الإيقاعي الصوتي, وهذا النوع من الإيقاع قد شكّل طابعا انفردت به معظم الأغاني الدينية الشعبية, مما زاد في تمييز هذا النوع من الأغاني عن غيرها, وهذا النوع من الأداء في الإيقاع تمثل في أصوات المجموعة التي اتخذت من اللفظين السابقين إيقاعاً صوتياً يضبط من خلاله وفي وقت معين أساس الإيقاع الخاص بالأغنية. ونحن عندما نذكر أساس الإيقاع, فإننا نقصد تلك الضغوط الإيقاعية المتوالية التي نسمعها بشكل بحة صوتية أو همهمة صوتية لا توضح اللفظين السابقين والناتجة عن انحباس الهواء في الصدر ثم اندفاعه اندفاعاً مفاجئاً في وقت معين حاملاً معه في كل دفعة أحد اللفظين السابقين. هذا من ناحية النغم والإيقاع في أغنيتنا, أما من الناحية الأدائية فيها, فإننا نستمع إلى الجملة الموسيقية نفسها السابق شرحها تتردد باستمرار طوال الأغنية, ولكنها تنتقل ما بين المؤدي منفرداً والمجموعة التي تقوم بأداء دورين معاً, الدور الأول يتعلق بالناحية الإيقاعية مثلما شرحنا سابقاً, ثم دور الكورال الذي يكرر الجملة الموسيقية نفسها, والبيت الأول نفسه من القصيدة الغنائية.

 

إنصاف الأنغام

هذا ما كان من أغنيتنا في طور نشأتها الأولى, فلننتقل إلى المرحلة الثانية فيها لنستشف الجديد الذي أضافه الفنان الحديث, حيث نلاحظ فيها تكرار الجملة القديمة, وقد عولجت بشكل واضح أظهر الملامح الأساسية في صياغة الجمل اللحنية, ومن الواضح أن هناك فرقاً فيما بين الأغنية القديمة والمعالجة في الأغنية الحديثة, فإذا ما نظرنا إلى هذه الأغنية كعمل متكامل من الناحية الفنية في تركيب الأنغام والمقامات, فإننا نجد الفنان هنا قد انطلق إلى عالم الأنغام باحثاً عمّا يناسب هذا النوع من الأغاني من جمل موسيقية تزيد هذه الأغنية ثراء من الناحية النغمية والمقامية. فإذا كان اللحن القديم قد تحدد بجملة واحدة تتردد طوال الأغنية ومقام واحد أيضاً, فإن هذه المحدودية في صياغة الجمل اللحنية قد جعل الناحية اللحنية والنغمية تأتي بالدرجة الثانية بعد الكلمات المغنّاة أو القصيدة الغنائية, إذن فالفنان الحديث بمعالجته الجديدة حاول إنصاف الناحية النغمية, وذلك بأن عادل ما بين كفّتي ميزان الشعر والموسيقى, كما فعل في الأغنية العاطفية, فنجده يبدأ بالنقل الحرفي من القديم, أي أنه قد أخذ الجملة الموسيقية القديمة بما تحمله من أنغام وأبعاد لحنية دون تحريف يذكر نازعا منها بعض الشوائب, ومحاولاً تأكيدها من خلال إعاداتها المتكررة مع اختلاف شكل ونوعية الإعادة التي لوّنتها بأشكال عدة من الأداء سواء كان أداء موسيقياً أو فردياً أو جماعياً.

لقد بدأ الفنان أولاً بعرض الجملة القيّمة كاملة دون تحريف يذكر, وكأنغام موسيقية فقط جاعلاً منها مقدمة موسيقية لعمله الجديد, وممهّداً لدخول الغناء مباشرة, ثم بعد ذلك يعيدها مرة أخرى مضيفاً إليها الغناء المفرد, ثم يعيد أداءها للمرة الثالثة مضافاً إليها غناء المجموعة كما كانت في الأداء القديم, بعد ذلك يعيد هذا الترتيب نفسه مرة أخرى مؤكداً إصراره على الأخذ من القديم, ولكن مع اختلاف غناء البيت الشعري, ثم في نهايته, أي في نهاية البيت الشعري وبداية البيت الجديد, يبدأ بالتغيير الفعلي للجمل اللحنية الجديدة والتي أضافت للأغنية رونقاً وجمالاً وثراء تفوّقت به على الأداء القديم في الأغنية القديمة.

صوت الوطن

ننتقل إلى نموذج آخر من النماذج الفنية التي تعامل معها الفنان الحديث, وسنحاول من خلاله أن نبيّن كيفية ونوعية الصياغة الفنية عند ذلك الفنان, هذا مع ملاحظة أننا قلنا صياغة وليس معالجة, والفرق هنا فيما بين هاتين الكلمتين, أن الكلمة الأولى تعني الخلق الجديد, أما الكلمة الثانية فتعني التعديل أو الحذف أو الإضافة لشيء موجود في الأصل, ولكن ينقصه شيء مما ذكرناه من أفعال سابقة, والفنان الحديث عندما أخذ على عاتقه مسئولية التعامل مع هذا النوع من هذه الفنون, إنما كان هذا مبنياً على قناعته التامة بأنه يتعامل مع فن يعتبر من أخطر أنواع الفنون بشكل عام, وذلك من الناحية التأثيرية في نوعية المشاعر التي يشترك بها كل مَن يملك أحاسيس وطنية, الأمر الذي جعل الفنان الحديث يأخذ مساراً آخر يغاير ما كانت عليه الأغنية القديمة سواء كانت في التاريخ الحديث أم في التاريخ القديم, ونحن إن رجعنا في موضوعنا هذا إلى تاريخ الأغاني الوطنية, وخاصة الشعبية منها لنستدل على أصل منبعها وما نحن به من تقدم واضح في نوعية أغانينا الوطنية, فإننا نلمس أوصاف فن العرضة تتمثّل بأروع صورها عند العربي في قديم التاريخ, حيث نجد الحادي يأخذ دوره المشجع أثناء الحروب والاستعدادات لصد هجمات المعتدين, وذلك عن طريق إنشاد الأشعار الحماسية التي تشد من أزر المحاربين وتحثّهم على بذل الغالي والنفيس من أجل الحفاظ على كرامة الأرض والعرض.

وقالب الأغاني الحماسية الشعبية والتي يطلق عليها في الوسط الشعبي اسم العرضة, من القوالب التي تحددت من الناحية التكوينية بشكل ضيق الأفق, مما جعل الفنان يختصر الطريق نحو الارتقاء بهذا النوع من الفنون بشكل سريع ودون المرور بمراحل عدة من التحسين والتطوير, ونحن إذا اتفقنا على أن الفنون الشعبية بشكل عام قد تحددت من الناحية الصياغية بجملة واحدة مع اختلاف نوعية هذه الجملة من أغنية لأخرى, فإننا بعد هذا الاتفاق, نجد في قالب صياغة العرضة تحديداً (جملة واحدة) تتردد في جميع الأغاني التي تحمل اسم العرضة وصفتها بشكل عام. وقد يطرأ على هذه الجملة أو يتخللها شيء من الاختلافات المتفاوتة في نوعية الأشكال النغمية الإيقاعية والتي تشعرنا بالتغيير غير المدرك بالنسبة للمستمع العادي, ولكننا مع ذلك لن نستطيع أن نعطي استقلالية كل عرضة عن الأخرى من الناحية الصياغية ككل.

أنواع العرضة

ينقسم فن العرضة إلى نوعين.. النوع الأول أطلق عليه اسم العرضة البرية, أما النوع الثاني فقد أطلق عليه اسم العرضة البحرية, وهذان الاسمان أطلقا من واقع مكان أداء كل واحدة, أي أن العرضة البرية تؤدى على اليابسة, والعرضة البحرية تؤدى على ظهر السفينة, ونحن لو نظرنا إلى هاتين العرضتين لنستدل على أوجه الاختلاف فيما بينهما, حيث يكمن الاختلاف في نوعية الإيقاع المؤدي فقط, أما الهدف من الغناء, فإننا نجد الاتفاق فيما بينهما متطابقاً من أوجه عدة, وأولها التوقيت ثم المناسبة التي تغنى بها.

إن العرضة البرية تؤدى في التاريخ القديم أثناء الحروب والاستعدادات لها, أما في التاريخ الحديث وإلى اليوم نجد أداءها يظهر واضحاً بالأعياد والمناسبات الوطنية, أما العرضة البحرية, فإن أداءها في التاريخ القديم ينحصر على ظهر السفينة عندما تشارف على الوصول لأحد الموانئ فقط, وذلك تعبيراً من البحّارة عن الابتهاج بسلامة الوصول دون أن يتعرض واحد منهم أو السفينة لخطر البحر الذي يحدّق بهم طوال رحلتهم, واليوم وفي التاريخ الحديث نجد هذه العرضة تؤدى بجانب مثيلتها دون النظر إلى مكان أدائها.

إن الأداء الشعبي يختلف من الناحية التنظيمية عن الأداء الحديث, وذلك من ناحية البدايات في الأداء الغنائي, ففي الأداء الحديث نجد قائد الفرقة وملحّن العمل نفسه يحددان نوعية البدايات وأشكالها المختلفة, سواء كانت بدايات موسيقية أو غنائية, أما في الأداء الشعبي, فإننا نجد ضابط الإيقاع هو قائد المجموعة, والذي يحدد بداية الانتقال من البيت الشعري إلى البيت التالي, لذلك نجد بداية غناء العرضة يؤدى الغناء فيها دون مصاحبة الإيقاع, وبعدما تؤدي المجموعة غناء البيت الأول من القصيدة بما يعادل أربع مرات - على سبيل المثال - من الإعادات المتوالية, بعدها يبدأ ضابط الإيقاع بالضرب على آلته مع بداية الإعادة للمرة الخامسة, محدداً بذلك عدد الإعادات لكل بيت من أبيات القصيدة الغنائية.

أما الناحية النغمية في العرضة, فإننا نجدها جملة غنائية كاملة العناصر, ومصاغة من مقام كامل, هذه الجملة تتكرر باستمرار مع كل بيت من أبيات القصيدة الغنائية, أي أن بدايتها مع بداية البيت الشعري ونهايتها مع نهاية البيت الشعري نفسه. أما من الناحية الإيقاعية, فإننا نجد علم التحليل الموسيقي يدرج هذا النوع من الإيقاعات تحت جدول الإيقاعات البسيطة, ويرمز له برقم ثلاثة على أربعة.

أما العرضة البحرية, فسنحاول من خلال تحليلها أن نتعرف على نوعية الفارق اللحني إن كان هناك فرق, والفارق الإيقاعي الذي حدد صفة هذا النوع من العرضات.

انتشال القالب الشعبي

هذا ما كان من نوعية فن صياغة العرضة بشكلها الشعبي, أما تعامل الفنان الحديث وصياغته لهذا النوع من الفنون - نقول صياغة وليس معالجة - فإننا نلمس استعارة الناحية الإيقاعية فقط, وعليه فإن صياغته ستكون بحتة دون الاستعارة من الجملة القديمة بشيء, لذلك سنحاول التركيز على الناحية اللحنية أولاً, ثم الناحية الإيقاعية, ثم الناحية الشعرية لنستدل على كونه حماسي المعاني أو عاطفيا.

أما الناحية النغمية فيه, فإننا نجد الفنان قد تعامل مع هذا القالب على أساس انتشاله من الوسط الشعبي المعروف ببساطة أدائه ورفعه إلى مستوى الأداء الحديث معتمداً في ذلك على خبرته في مجال الأنغام التي حاول من خلالها أن يعادل بين كفتي ميزان الشعر والموسيقى, وإذا كان فن صياغة العرضة في الماضي يعتمد على قوة الكلمة المؤثرة في الشعر سواء كان حماسياً أو شعراً يحمل بين ثناياه معاني الفخر والاعتزاز, فإن الفنان في صياغته الجديدة قد ميّز في نوعية هذا الشعر من الناحية النغمية فجعل في لحنه للشعر الحماسي ما يعبّر به عن الحماس وإثارة المشاعر الوطنية عن طريق الأنغام والأبعاد الموسيقية الحادّة والقوية والصلبة. أما إذا كان الشعر المراد صياغته موسيقياً من النوع الذي يحمل من المعاني ما يعبّر عن الفخر والاعتزاز وحب الوطن والتغزّل به, فإن صياغة الأنغام المناسبة لهذا النوع من الشعر تتطلب الليونة والمرونة في التعامل, والتي عن طريقها تثار المشاعر العاطفية التي تتقبل هذه الكلمات وتنفعل وتتفاعل معها, والفنان الحديث قد استخدم الأنغام التي تعبّر عن الاعتزاز والفخر وحاول مخاطبة مشاعرنا العاطفية نحو الوطن عن طريق صياغة الجملة اللحنية الليّنة. ويتضح لنا ذلك من خلال نوعية المقامات المختارة.

ولكن هل الفنان الحديث قد اكتفى بهذا النوع من الموسيقى الوطنية أو العسكرية..? أم أنه تعدّى ذلك...?

في واقع الأمر أن الفنان الحديث واسع الاطلاع في مجال فنونه والفنون العالمية أو العربية, الأمر الذي يدعوه دائماً لطرق جميع الأبواب الفنية, سواء كانت محلية متمثلة بإيقاع وقالب فن العرضة أو عالمية أو عربية, لذلك نجد الفنان الحديث يستعير الإيقاع العالمي والخاص بالموسيقى العسكرية المسمى باسم إيقاع المارش العسكري أو إيقاع الخطوة العسكرية, وذلك ليصيغ ألحانه القوية التي تثير المشاعر الحماسية في نفوس السامعين له, خاصة عندما يجد نفسه أمام نوعية الأشعار التي تثير النخوة والعزّة والشهامة والاستبسال في سبيل الدفاع عن الأرض وكرامتها وعزّتها, وفي واقع الأمر أن إيقاع المارش العسكري صلب وقوي في طبيعته, ولا مجال للزخرفة الإيقاعية أو الحلية الإيقاعية فيه, وهو من الإيقاعات بسيطة التركيب ويدركه الإنسان العادي بسرعة دون بذل مجهود في معرفته والإحساس به, وهذا النوع من الإيقاع - إيقاع المارش - يصل عند سماعه ويتجاوب معه سريعاً الجهاز العصبي للإنسان, الأمر الذي يجعل هذا الجهاز يقظاً بدرجة عالية طوال فترة سماعه لهذا النوع من الإيقاع, لذلك يشعر السامع له بما يشبه التوتر العصبي الذي يزول بزوال المؤثر.

هذا من الناحية الإيقاعية, أما من الناحية النغمية, فإن تأثيرها على السامع في مثل هذه الحالة, يقوم مقام المهدئ لتلك الثورة العصبية التي سببها ذلك الإيقاع, ولكنها مع ذلك لا تبطل مفعوله نهائياً, بل تساعد على تقبّلنا لهذا الإيقاع أولاً ثم تعمل كعامل مساعد لنقبل الكلمات المغناة لتقوم بمفعولها المطلوب, وهذا يتوقف على نوعية الصياغة اللحنية التي يتطلب منها أن تكون مناسبة للموقف أولاً ثم أن تكون خالية خلوّاً تاماً من الناحية التطريبية التي تعطي مفعولاً عكسياً لما يسببه هذا النوع من الإيقاع. وعليه فإن الجمل اللحنية لهذا النوع من الإيقاع والأناشيد الوطنية, تكون واضحة المعالم ومحددة في بداياتها ونهاياتها كالخطوات العسكرية, كما أن الجمل الخاصة بهذا النوع من الفنون تكون أكثر فعالية من الناحية الحماسية فيما لو استبعدنا نوعية المقامات الشرقية التي تحمل بين ثناياها درجة الربع تون أو درجة السيكاه المعروفة في الموسيقى العربية بشكل عام, هذا مع العلم أن هذه الدرجة قد استخدمت في نوعية الأناشيد الوطنية الليّنة - هذا إن جاز لنا أن نطلق على هذه الألحان صفة الليونة والمرونة - ولا نريد أن نمر على صفة الليونة في الأغاني الوطنية مرور الكرام دون أن نوضح القصد من هذه الصفة أو أي نوع من هذه الألحان التي تحمل هذه الصفة, ولماذا, وكيف استطعنا أن نطلق هذه الصفة على هذه الأنواع من الأناشيد الوطنية..? والتي انقسمت إلى نوعين... النوع الأول, وقد تحدّثنا عنه قبل قليل, والذي يحمل من الصفات ما يشعرنا بالحماس والاستبسال للدفاع عن الشرف والكرامة.

أما النوع الثاني من هذا الفن, وهو ما يتحدث عن المشاعر الوطنية العاطفية, والتي أعطتنا الحق بإطلاق صفة الليونة والمرونة عليه. فلقد كان للفنان الحديث الباع الطويل في كيفية صياغته والتعامل معه, خاصة عندما ينفعل مع الحدث الذي من أجله صاغ عمله, فهو يتجه إلى مخاطبة مشاعرنا الوطنية عن طريق عاطفة الحب الوطني, ذلك الحب الذي تجتمع حوله قلوب أبناء الوطن الواحد, فتتغنى بجماله ثم تفتخر بماضيه وتعتز بصروحه الحضارية, هنا وفي مثل هذه المواقف, نجد الفنان ينتقي من حدائق الأنغام الموسيقية ما يناسب هذه المشاعر, فيصوغ ألحانه المعبّرة عن الحدث متنقلاً بين الجمل الموسيقية التي تثير بنا تلك الأحاسيس المرهفة, وذلك من الناحية الصياغية والأدائية التي تتميز بالجانب التطريبي الذي تتفاوت مقدرتنا الحسيّة في مدى تقبّلنا له, فمن الجائز أن يطرب شخص ما, بينما الثاني يقف موقف الحياد في أحاسيسه, ثم نجد الثالث يقف موقف عدم الرضا, ومهما كان من نوعية المواقف المختلفة في أحاسيسنا, فإننا نستنتج طابع الليونة والمرونة من نوعية الجمل الموسيقية التي أخذت شكلاً مرناً يمكن تطويله وتقصيره حسبما يريد المؤدي, أو بالمعنى الأصح حسبما تفيض به قريحة المؤدي من أنغام لحظية أثناء الأداء.

تحليل لحن وطني

إلى هنا نقف وقفة المتأمل لما بذله الفنان من مجهود رفع من مستوى الأناشيد الوطنية إلى مرتبة المستمع خارج نطاق منطقتنا الخليجية, ولكن هل اكتفى الفنان بهذا القدر من التقدم في كيفية صياغة هذا النوع من الفنون...? أم أن هناك محاولات أخرى...? وهل اقتصر عمل الفنان على نوعية إيقاع المارش العسكري وإيقاع فن العرضة فقط...? أم أنه تعدى ذلك إلى إيقاعات أخرى...? وكيف نجيب الإجابة العلمية الصحيحة دون الاعتماد على أحاسيسنا, سنحلل أحد الأعمال الفنية التي تظهر إجابات واضحة حول أسئلتنا السابقة.

فإذا ما بحثنا بين الألحان عن الإجابات الصحيحة لتلك الأسئلة, فإننا نلمس ذلك في نوعية إيقاع الوحدة العادية أو السائرة, وهو إيقاع يعتمد على ضغوط اللحن وإبرازها وتوضيحها فقط, وبهذا نكون قد أجبنا عن سؤالنا السابق الخاص بنوعية الإيقاع. أما نوعية الصياغة اللحنية والأنغام الموسيقية, فإننا نجد محاولات عدة من الفنان وهو يحاول لمس شفافية المشاعر العاطفية في حبّنا الكبير للوطن, ومن محاولات الفنان في هذا الاتجاه نجدها في إثارة الذكريات الطفولية لدينا, وذلك من خلال لحن قديم ردده معظم أبناء هذا الوطن وهو لحن (طق يا مطر), وهذا اللحن يعتبر من الألحان الشعبية الموسمية الخاصة بالأطفال, ونحن عندما نقول من الألحان الموسمية, فإننا نعني ذلك بالفعل, حيث نجد غناءه قديماً يرتبط مع موسم الأمطار والشتاء فقط, وما من أحد فينا إلا كانت له ذكريات قد ارتبطت بموسم الشتاء في الكويت, وهذا اللحن في هذه الأغنية يثير هذه الذكريات التي تحرّك بدورها مشاعرنا العاطفية.

تلك نماذج مختارة من الفروع الأساسية للأغنية الكويتية, حاولنا من خلالها أن نقيم المستوى الفني لتلك الأغنية, حيث تبين لنا مدى أصالتها وعمقها الفني, علماً بأن هناك الكثير من النماذج قد تعدت مراحل التطوير والتحسين - أربع أو خمس مراحل, بيّنت من خلال متابعتها وتحليلها مدى المجهود الذي بذله الفنان للوصول بالأغنية الكويتية إلى مستوى يتناسب ومستمعي وقتنا الحاضر.

 

يوسف عبدالقادر الرشيد

 
 




سعود الراشد





الغناء صاحب حياة البحر والغوص في الكويت





الفنان سعود الراشد (الاول من اليسار) واحمد الزنجباري (الثاني من اليمين)





نجيب رزق الله (من اليمين) وأحمد محمد علي (يسار)





احمد محمد علي (صورة حديثة)





الغناء يصاحب رقصة العرضة