كيمياء السعادة الألم خليل فاضل

كأن كل خطوة متقدمة يخطوها البحث العلمي تقربنا من اكتشاف ذاتنا الإنسانية، واكتشاف الحكمة والإحكام في بنائنا. لعلنا نتواضع، فنرتفع. وفي هذا المدى يصب اكتشاف الطب الحديث "للأندورفينات" أو: أفيونات الجسم الداخلية.. الطبيعية.

حاول الإنسان جاهدا أن يتعرف على كينونته، وضمن جهوده هذه كثف أبحاثه في الثمانينيات للتعرف على ما يحدث لتنتج ثورة في علوم الطب والحياة، ألا وهي المواد الهرمونية المسماة (الأندروفينات) وكما يلقبها بعض العلماء ب (أفيونات المخ) أو (المورفينات الطبيعية) وهي حتى الآن تلعب دورًا في كل ما يمر به الإنسان تقريبا من لحظة الولادة وحتى وقت الموت، كل شيء تقريبا له صلة إما بالألم والتألم أو النشوة والسعادة، فمثلا: البكاء، الضحك، الطرب لسماع الغناء والموسيقى، الوخز بالإبر الصينية، حبوب الترضية، الإجهاد، الاكتئاب، القمار، التمارين الرياضية، الصدمات، استعذاب الألم (الماسوشية)، الحمل والولادة، الشهية، المناعة، تجربة الاقتراب من الموت، اللعب مع الحيوانات الأليفة.... كل تجربة من التجارب السابقة - إلى حد ما - مرتبطة (بالأندورفينات).

انتشار محكم بالجسد الإنساني

بدأ بحث الإنسان في أوائل السبعينيات باكتشاف غير متوقع لمستقبلات الأفيونات في مخ الإنسان، وإذا كنا نمتلك هذه المستقبلات داخلنا فمعنى هذا أن أجسادنا تنتج مواد كيميائية لها خصائص الأفيون، وهذا ما حدث بالفعل! مجموعة من الكيمياويات (مورفينات داخلية) تقبع داخل تلك المستقبلات، وهكذا فإن مواد محددة تسري في دمائنا وأمخاخنا، وداخل حبلنا الشوكي!. فكر العلماء كثيرا قبل الوصول إلى نتائج حتمية بخصوص هذه المورفينات الإنسانية وحاولوا بالبحث والمتابعة معرفة خصائصها وأماكن وجودها من خلال تتبع رحلة وفاعلية المورفين المصنع (العقار) فوجدوا أنه يبطئ من النبض والتنفس فبحثوا في القلب والرئتين، عرفوا أنه يقتل الألم فبحثوا في الجهاز العصبي المركزي والطرفي، وعرفوا أنه يحدث اضطرابا في عملية الهضم والإخراج فنقبوا في الجهاز الهضمي، وجدوا أنه يزيد من الرغبة الجنسية فبحثوا في الغدد والجهاز التناسلي، وعرفوا أنه يحدث البهجة ففتشوا في أسرار المزاج الإنساني، وتقريبًا وجد العلماء (الأندورفين) أو مستقبلاته في كل مكان بحثوا فيه، وجدوه كموصل ينقل النبضات العصبية، يزيل الألم، يحفز تحرير الهرمونات يقوم بكل هذه الأشياء إما في وقت واحد أو على فترات وبسرعة ودون أي مجهود؟! ووجد العلماء أن عقاري النالوكسون Naloxone ونالتركسون Naltrexon، وهما معروفان بأنهما (مضادات للأفيون) وأيضا يغلقان مستقبلات (الأندورفينات) باحتلالها، فقام العلماء بحقن أحد هذين العقارين لبعض المتطوعين فوجدوا أنهم قد أحسوا أكثر بالألم وبأنهم أقل بهجة لكن لم يشتكوا من صعوبة في التنفس ولم تنتبهم نوبة تشنجية ولا ذهبوا في غيبوبة.

الأندورفينات وتسكين الألم

إذا وقع إنسان وانكسرت يده وهو يعرف أن ثمة كسرًا قد حدث في العظم، ومع ذلك لا يحس إلا بألم بسيط وبتوتر قليل لمدة ساعات حتى يذهب إلى المستشفى، فإن هذه الفترة الزمنية يعتقد العلماء أن (للمورفين الإنساني) دورًا كبيرًا فيها تحاشيًا للصدمة وتخفيفا للحدث وتمهيدًا للتدخل الجراحي والطبي، إنها تمهيد فطري طبيعي يتيح فرصة العمل لكل الأطراف، واستمر بحث العلماء خاصة مع الألم المزمن واهتدوا إلى مراكز محددة نبهوها كهربيًا في أحد جنود البحرية الأمريكية الذين عانوا من آلام مبرحة بسبب صدمة وانجراح شديدين لفقرات الظهر فاستجاب المريض وخفت عنه الآلام للمرة الأولى في حياته بل وتحول من مريض بالاكتئاب يرغب في الانتحار إلى إنسان واثق يعمل فترة محددة في أحد المكاتب وتزوج وكون بيتًا سعيدًا.

المتلذذون بالألم

منذ بضع سنوات أدهشنا العالم ليفين من جامعة كاليفورنيا باكتشافه تأثير (الترضية) وهو (إحساس بزوال الألم نتيجة اعتقاد المريض بالعلاج وإيمانه به) مما يدفعنا للاعتقاد بأن للأندورفينات دخلا في عملية (الترضية).

وفي عام 1988 استطاع ليفين إثبات أن حقن مريض (بأي شيء غير كيميائي: ماء حقن مثلاً) يؤدي إلى زوال الألم وكأنه تلقى جرعة تساوي 8 ملليجرامات من المورفين. وتطرق البحث العلمي إلى موضوع آخر شائق ألا وهو (إيذاء النفس جسديًا) فمن المعروف أن بعض المرضى يقطعون أياديهم ويحرقون أجسادهم دون أدنى إحساس بالألم، ولقد فحص كاتب هذه الدراسة مريضا بجنوب لندن وصل به الأمر إلى قطع ساقه بمنشار دون أي ألم، ومريضة أخرى تتلذذ بحرق ذراعيها وبطنها بالسجائر المشتعلة وتقطيع جلدها بالسكين. ويعتقد العلماء أن مثل هؤلاء الأشخاص يعانون من أمراض عقلية وأن أفعالهم الغريبة المؤلمة هذه تعمل على شحن أجسادهم (بأفيونات المخ - الأندورفينات) لهذا يقولون إنهم يشعرون براحة واسترخاء بعد هذه الأفعال!

مدمنو الرياضة البدنية

معظم الناس قرأوا أن الركض ومزاولة الرياضة البدنية مساو لتحرير الأندورفين في الجسم، وأن الإنسان بعدً مجهود عضلي يحس بالراحة والهدوء والاسترخاء وهذا أدى إلى أن البعض صار يدمن ممارسة المجهود البدني، أي الاعتماد عليه نفسيًا وبدنيًا، بمعنى تعوده على تحرير المورفينات الإنسانية بشكل منتظم ومتكرر ويومي! ولقد أكدت البحوث بفحص دم هؤلاء، ارتفاع نسبة أفيونات المخ في أثناء ممارستهم لها وثبت أيضًا بالفحص النفسي الطبي أن هؤلاء الرياضيين يكونون معتدلي المزاج، منتشين دائمًا عند التدريب وأن هناك علاقة قوية بين المزاج المبتهج والنشاط البدني، وهذا ما يؤكد الحكمة القديمة بأن (العقل السليم في الجسم السليم)، لكن هناك علماء آخرين يتشككون في مسألة علاقة (الأندورفينات) بتحسن المزاج في الرياضيين ويعزون صحتهم النفسية الجيدة إلى أمور مثل: نشاط الحواس، النظام، الإحساس بالتميز وبروح الفريق، الأمان، ويقولون إن مسألة الأندورفينات لا تصح في حالات الإنهاك والتعب الشديد وبعد ممارسة رياضة عنيفة أو طويلة، لكن من المؤكد أن جرعات معتدلة ومنتظمة من الرياضة البدنية كفيلة بأن تجعلنا سعداء.

الشهية.. وفقد الشهية

من المعروف أن الإنسان يأكل ليعيش، لكنه معروف أيضا أن الإنسان يأكل ليستمتع، وليس هناك دليل أكبر من اختلاف أنواع الأطعمة وتفنن الناس في الأكل والتذوق والتلذذ والشبع والانتشاء المصاحب لالتهام أنواع مختلفة من الطعام، وتبقى هناك أطعمة محددة مثل تلك الحارة (المحتوية على الفلفل) والحلوة تعطي نشاطاً وبهجة وإحساسًا عامًا جيدًا.

لكن ما هي العلاقة بين (الأندورفينات) والشهية المفتوحة جدًا؟ يعتقد أن (الأندورفينات) تساعد الجسم على التحكم في الشهوة الجارفة لتناول الدهون والحلوى في مواجهة الإجهاد والجوع، وأن اضطراب هذه المورفينات الإنسانية يكون في الواقع أرضية كيميائية لأمور مثل السمنة واضطرابات التغذية الأخرى ويثبت تلك النظرية أن إعطاء مغلقات طريق الأفيون لذوي الوزن الثقيل يساعدهم على أن يأكلوا اقل، ووجد بالفحص الطبي أن المرضى بالشدة العصبية (المتميزة بالإفراط الحاد في تناول النشويات والدهون). والفقد وكذلك المرضى بالفقد المرضي للشهية Anorexia تكون نسبة الأندورفينات لديهم منخفضة؟!

الحمل والبلوغ

جهزت الطبيعة الكائنات الحية بشهيتين كبيرتين الأولى للطعام لتمنع الانهيار الجسدى والثانية للجنس لتمنع الانقراض مما حدا بالعلماء إلى دراسة علاقة الأندورفينات بتناول الطعام وإلى دراسة علاقتها بالجنس.. ولقد كان.

فمن خلال الأبحاث التي أجريت على مدمني المخدرات اتضح أن مدمني المورفين والهيروين يعانون من العجز الجنسي والبرود، وأنهم يشفون من تلك الأمراض عند تخلصهم من الإدمان؟! هذا يدل على وجود علاقة وثيقة بين المخدرات وتنظيم الدورات الهرمونية التناسلية، وهناك في قلب المخ تقبع سيدة الغدد (الغدة النخامية) وسيدة سيدات الغدد (ما تحت المهاد) اللتان تتبادلان الإشارات والعلاقات لتنظيم كل شيء ولتحرير المورفينات الإنسانية، واتضح بما لا يدع مجالا للشك أن تعاطي المخدرات في فترتي الطفولة والمراهقة يؤثر بشكل سلبي على عملية الخصوبة عند الإنسان، من كل ما سبق يتضح أن تعاطي الأفيونات الصناعية على هيئة مخدرات يتدخل ليعطل الدورات الهرمونية الطبيعية لمنعها الجسم من تحرير الأفيونات الطبيعية داخله وبالتالي يضطرب الجهاز العصبي والهرموني ويحدث خلل وظيفي في سائر الأعضاء.

كذلك لوحظ أنه في فترة الأشهر الثلاثة الأخيرة من الحمل يخف إحساس المرأة بالألم وبالضغط، ويعتقد أن إفراز الجسم لكمية أكبر من الأفيونات الإنسانية وراء هذا الإحساس بجانب الشعور بالغبطة لمواجهة إجهاد الولادة، ويعتقد أيضا أن نسبة الأندورفينات في دم المرأة الحامل تصل إلى ذروتها قبل الولادة (تقريباً عشرة أضعاف النسبة المعتادة) وأن معدلها يهبط فور إتمام الولادة.

النشوة، البهجة، الضحك، الدموع

وقد يعتقد البعض أن معظم - إن لم يكن كل - تأثيرات الأفيون عضوية إلا أنها في حقيقة الأمر تمتد لتأخذ مجرى نفسيًا انفعاليًا لدرجة الاعتقاد بأن كل شيء متعلق بالنشوة والغبطة والسعادة مرتبط بتحرير مادة الأندورفين في الجسم مثل اللعب مع الحيوانات، سماع الموسيقى، وحتى التجارب الخاصة جدًا عند الاقتراب من الموت، إلى تلك الهزات والرقصات سواء في (الديسكو) أو الزار أو الضحك عاليا أو البكاء بحرارة كلها لحظات انفعالية حادة وساخنة لها ارتباط واضح بتحرير الأفيونات الطبيعية في جسم الإنسان.

(ويحكى عن مريض بمرض عضال مؤلم كان يضحك نفسه ضحكا عميقا حتى تهتز بطنه بشدة عشر دقائق كل ليلة فيستطيع النوم في الأقل لمدة ساعتين دون أي معاناة).

ويحاول البحاثة وعلى رأسهم "وليام فراي" من كلية طب ستافورد بأمريكا إثبات العلاقة بين الضحك وتحرير مادة الأندورفين في جسم الإنسان، لكن يبدو أن المسألة صعبة للغاية، فقد وجد أن تحرير الأندورفينات والضحك مرتبطان بالحد من الخوف والغضب والكآبة، كما أن الضحك رياضة تدخل الهواء النقي إلى الرئتين، وتترك عضلات الجسم في حالة استرخاء جميلة، من ناحية أخرى بحث الإنسان في وظائف المخ وتغيرها من حالات الغضب والحزن إلى السعادة، أو العكس، وعلاقة كل ذلك بالوجدان، ووجد أنها لم تزل منطقة معتمة جدًا لا نعرف عنها إلا النزر اليسير، لكن وجد أن كيمياء الدموع التي تبثها مآقي الإنسان في حالات الفرح والحزن وتقشير البصل واحدة، وبالتالي فليست هناك أي دلالات قاطعة في مجال كيمياء الدموع تتيح دراسة النفس وتغيراتها من خلال دموع الضحك والبكاء، كما وجد أن المصابين ببعض الأمراض مثل تقرحات القولون (على سبيل المثال - لا الحصر) تنخفض قدرتهم على البكاء، وأن مرضى كثيرين يرتاحون من آلامهم عندما يستطيعون البكاء وأن مرضى أكثر عندما تتحوصل أحزانهم وتكبت فإنها تولد تعطلاً في العلاج وتؤخر التقدم من الناحية الطبية والحياتية.

وهكذا تتدخل كيمياء الإنسان، أفيونات المخ، الأندورفينات، في الحياة الطبيعية، في الضحك والبكاء، في الانتشاء والطرب، في لحظة البلوغ وألم الولادة، في التريض، في الجوع وتناول ألذ الطعام، وفي الاستماع للموسيقى المحببة. كل هذا كفيل بضخ شحنات هرمون الألم والسعادة، المورفين الإنساني، الأندورفين، إلى سائر أجزاء الجسم. والآن تخيل وردة بنفسجية معطرة يكسوها الندى، أو أنك تلقى من تحب، أو تأكل ما تشتهي، أو تجرح يدك بالخطأ، إذا دعتك كل هذه التخيلات إلى أن تحس بغير ما كنت تحس به قبل قراءة هذا المقال، إذا سرت رعشة في أوصالك وخدرتك ثم نبهتك فإننا نكون قد استطعنا أن نوصل إليك ما نريده بمجرد لحظة تخيل علمية حياتية جميلة حتى لو احتوت بين طياتها بعضا من الألم.