المثقف العراقي.. من الحصار السياسي.. إلى المنفى والموت

المثقف العراقي.. من الحصار السياسي.. إلى المنفى والموت

حديث الشهر

بات من الضروري الانفتاح على الفكر والثقافة والفنون العراقية, بعد سنوات طويلة من المعاناة عاش فيها مبدعو العراق حياة الغربة والحصار. إن هذه الثقافة المحاصرة في الوطن والملاحقة خارجه أصبحت في حاجة إلى تكاتف الجهود من أجل تجديد روحها وانتشالها من حالة الانكفاء على الذات.

  • رفع الحصار عن الرأي والفكر والثقافة العراقية يبقى مطلباً ملحّا يستحق قدراً كبيراً من الاهتمام

  • لا يجوز الاستمرار في الصمت العربي على ما يجري من حصار للعقل والثقافة العراقية

  • البلدان العربية مدعوّة لمزيد من الانفتاح على إبداعات وأعمال مثقفي العراق وفنانيه ومفكّريه المنتشرين في المنافي

بالأبيض والأسود تحمل إلينا الصحف صورة (حياة شرارة) وهي تبتسم ابتسامة مليئة بالشجن. لا أحد يصدق أن هذا الجسد النحيف لتلك المرأة الأربعينية مليء بكل هذه الدرجة من الإحساس بالمرارة الأمر الذي دفعها إلى وضع حد لحياتها والإقدام على الانتحار. وكان يمكن أن يمر هذا الحادث في سرية تامة مثل عشرات الفواجع التي تحدث في الداخل العراقي منذ سنوات طويلة سبقت الحصار ولكن الظروف شاءت أن تكشف صفحة أخرى من الصفحات المرعبة التي يعيشها المثقفون العراقيون تحت وطأة النظام, فقد تكفلت أخت حياة الصغرى (بلقيس) بنشر رواية أختها الأخيرة تحت عنوان (إذا أيام أغسقت) وكتبت لها مقدمة ضافية تحكي فيها مأساة أختها الأديبة الأكاديمية التي عاشت مرارة الواقع اليومي وصدمت طويلا لضغوطه وجاءت القشة الأخيرة عنـدما أرادت أن ترحل عن العراق برفقة ابنتـيها الذاهبتين للتعلم في الخارج وتم منعها من السـفر. لحظتها أحست شرارة بأن الطوق قد أحكم خناقه حول رقبتها ففضلت الانتحار الأمر الذي كان من النادر حـدوثه في البـيئة العراقية المسلمة, والذي يقرأ الرواية يشـعـر بأن المناخ العام كله منـاخ طارد ومميـت.. فإذا لم يكن الخروج ممكنا فلا يوجـد حل إلا القبر.

إن حياة شرارة لم تشأ أن تكتب (استعطافا) للسلطة كي تسمح لها بالسفر, لا لأن كرامتها الأكاديمية والأدبية لم تسمح لها بذلك فقط بل لأنها رأت أن هذا السفر هو أبسط حق يمكن أن يمارسه الإنسان وأنه ليس من حق أحد أن يحول الوطن إلى سجن كبير يحتجز أبناءه. وقد اختارت الأديبة الراحلة الحياة الجامعية لتكون مسرحا لأحداث روايتها ويا له من مسرح. فهو موبوء بأجهزة الأمن والتنصت والتجسس سواء أكانوا رجال أمن محترفين أو أساتذة أو طلابا. إنه مسرح مليء بالخوف المميت الذي يعاني منه كل واحد تجاه الآخر. ويكفي أن عميد الجامعة يقف على رأس أساتذته كل صباح مرتديا بزته العسكرية يصدر إليهم الأوامر والبذاءات ويؤكد لهم في كل لحظة أنه رمز لسلطة غاشمة لا تعترف لا بالعلم ولا التقاليد العلمية وإنما تستمد سلطتها الأساسية من قانون البطش والتهديد.

أرض الشتات

وإذا كانت حياة شرارة قد اختارت القبر, فإن عشرات المثقفين العراقيين قد اختاروا المنافي البعيدة مكانا لهم. والقليل منهم هو من استطاع الاستقرار في مكان قصي من هذا العالم بعيدا عن طائلة (فريق الاغتيالات) الذي يوجهه النظام العراقي لكل من يناوئه وحاول أن يجمع شتات نفسه وقلمه, أما الكثيرون فمازالوا ضائعين في أرض الشتات الواسعة. وليست هذه الهجرة الجماعية مرتبطة بغزو العراق للكويت عام 1990 وهزيمة النظام وفرض الحصار الدولي عليه, ولكنها حالة قديمة من الفرار الجماعي بدأت منذ أن فرض هذا النظام سيطرته على البلاد وقام هو بنفسه بفرض (الحصار) على المثقفين من أجل (تبعيثهم), أي إرغامهم على الانضمام لحزب البعث أو (تصديمهم) للتغني بالولاء من أجل الحزب الأوحد, والزعيم الأوحد, وقد جرى ذلك في عملية اجتثاث وحشي للقوى الديمقراطية من كل التوجهات, قومية أو يسارية, وصولا إلى الطوائف والمذاهب والقوميات باستخدام جميع الأسلحة. لقد قال الشاعر الكبير عبدالوهاب البياتي قبل أن يموت في المنفى: (إن هجرة المثقفين العراقيين كانت محدودة جدا في العهد الملكي في حين أنها ارتفعت إلى أعداد لا تصدق مع وصول حزب البعث إلى السلطة, بل إن هناك ظاهرة أخرى جديدة وهي أن الشعراء والأدباء العراقيين ماتوا ويموتون في المنفى أمثال غائب طعمه فرمان الذي دفن في موسكو. وبلند الحيدري الذي دفن في مقابر لندن والفنانة زينب التي دفنت في الليالي البيضاء الإسكندنافية , أما الشاعران الكبيران محمد مهدي الجواهري ومصطفى جمال الدين فقد نجوا من هذه الغربة البعيدة وماتا في دمشق وضمهما قبر السيدة زينب, وها هما يرقدان بسلام دون أن يجرؤ أحد على أن يعبث بقبريهما كما حدث في قبور الشعراء العراقيين في وطنهم..).

انتهى كلام البياتي, وكان يمكن أن يتبنأ أنه هو أيضا سوف يموت في الغربة.. وأن دمشق سوف تكون أحن عليه من أرض بغداد, ولـكن الموتى لا يروون القصص كما يقولون.

ورغم المحنة اليومية التي يعانيها المثقف العراقي في تلك المنافي التي ترفض وجوده ولا تسهل له الحياة على أرضها فإن السلطة العراقية تواصل ملاحقتها له. ومنذ شهور قليلة أعلنت بغداد (هدر دم) المفكر والمحلل السياسي غسان العطية, كأنها تضيف محنة أخرى إلى محنته الشخصية. وهو ليس الأول ولن يكون الأخير في تلك القائمة الطويلة التي يواصل النظام صنعها عندما يستدعى عوائل هؤلاء المثقفين ويرغمهم على كتابه بيانات (هدر دم) الأبناء والأشقاء لمجرد أنهم رفضوا الإذعان لمنطق التسلط والعسف. وقد تم على مدى هذه الشهور الماضية إهدار دم العديد من النخب الأكاديمية والثقافية والفكرية, في محاولة من النظام لفرض (طابع شرعي) على القتل العمد الذي تلجأ إليه وسائل هذا النظام.

في أعقاب العدوان الصدامي على الكويت في أغسطس 1990, تضاعفت أعداد الهاربين من جحيم الحصار الصدامي الذي أحكم قبضته لا على منتجي الثقافة والفكر وحدهم بل على الممارسات الحياتية لمختلف النخب الاجتماعية من أكاديمية وفنية. واكتملت دائرة الإغلاق والمصادرة على النبض الثقافي والإبداعي والفكري لشعب كامل ليصبح محاصرا ضمن دائرة خانقة من القهر السياسي والإفقار الاقتصادي والتجويع المتعمد, مقابل الهدر المجنون للموارد والأرواح في حروب وحماقات عسكرية (بدأت بالأكراد مرورا بإيران وانتهاء بالكويت) وممارسات عدوانية فادحة الخطأ. لم يعد هناك مثقفون عراقيون ـ على اتساع مفهوم المثقف بتنويعاته المختلفة من مبدعين, وأكاديميين, ومهنيين, وصحفيين.. إلخ (مقيمين) داخل مجتمع العراق, اللهم إلا أولئك المنخرطين في مسيرة (التبعيث) الصدامية, الممجدين لكل إشارة أو لفتة أو جملة تنطلق من قريحة (القائد الضرورة) و(القدر المخبأ للعراق منذ الأزل), أو هؤلاء الذين التزموا الصمت, أو ماتوا كمدا وقهرا وفقرا, إذا ما نجوا من الموت ذبحاً.

تلك حال الثقافة في العراق, حال المصادرة في الداخل, وحال الغربة وافتقاد الحضور في (الأوطان البديلة). ففي الداخل لا وجود إلا لثقافة النظام المصنوعة في مؤسساته الحزبية وأجهزة إعلامه بقيادة وتوجيه من محدودي الكفاءة والموهبة من كبار موظفي الدولة والحزب. ففي غياب كامل وتعتيم مطلق على كل ما يجري في العالم أصبح الشعب العراقي لا يتلقي معلوماته الثقافية والفنية والسياسية إلا من أجهزة إعلام السلطة, فالمطبوعات العربية والأجنبية محظور دخولها, والأطباق اللاقطة للإرسال التلفزيوني امتلاكها عقوبته السجن والإنترنت تسمع به ولا تراه, والإذاعات العربية والأجنبية يسلط عليها كم هائل من التشويش, فلا يسمع المواطن في العراق إلا ما يريده النظام أن يسمع ولا خيار له إلا مشاهدة قنواته التلفزيونية التي تبث له صور القائد الملهم وحكمته وشجاعته, وتحذره في كل لحظة من (الأعداء المتربصين بالعراق, والجيران الخونة والمجرمين المحيطين به من كل اتجاه)! في خضم هذا الحصار للثقافة العراقية أصبح المواطن العراقي يعيش في زمن غير زمانه, وعاد به عشرات السنين إلى الوراء في زمن تزداد سرعة تطوره وتقدمه وارتقائه.

وعلى مدى ثلاثين عاما أو يزيد عاشت الثقافة العراقية ومبدعوها حياة الغربة والحصار في منافي العالم, وقدم منتجوها ـ على الرغم من ذلك ـ ألوانا من أبدع وأجمل ما شهدته واستمتعت به ساحات التلقي في مختلف أرجاء العالم العربي والعالمي... إلا في العراق. قرأ العالم واستمتع واغتنى جمالياً وروحياً بأشعار الجواهري والبياتي وبلند الحيدري, وبقى كثيرون في منطقة الحصار, بقي سعدي يوسف وعدنان الصايغ ومظفر النواب, وروايات الراحل في الغربة غائب طعمة فرمان وسليم مطر والربيعي والتكرلي, والإبداعات التشكيلية لضياء العزاوي وجبر علوان وطابور طويل لا ينتهي من المبدعين العراقيين في التشكيل والموسيقى والمسرح والغناء ممن أثروا الثقافة والفن العربيين, وأضافوا الكثير والأصيل لهما, لكن أحداً لم يقرأ أو يسمع أو يشاهد إبداعاتهم في العراق, فأي شيء آخر يمكن أن يصلح عنواناً لحال كهذا سوى المصادرة والحصار! وأي حصار أكثر قهراً واضطهاداً وألماً من أن يسمح لطبول المزمّرين للطغاة وأعداء الحرية وأنصاف المتعلمين بأن يستولوا على عقول وأفئدة الجماهير, وقمع وتشريد ونفي كل مَن انطلق يغني خارج هذا السرب المنافق, وعزل شعب بأكمله - كل هذه السنين الطويلة - عن إبداعات ونتاجات ثقافة تنتمي إليه هو بالذات, وتسعى إليه عبر وسائط أغلقها بإحكام ذلك الحصار المضروب حوله من نظامه الحاكم المتسلط على مقدراته.

كيف نرفع الحصار?

على أنه إذا كان السعي إلى رفع الحصار عن الشعب العراقي يواجه تعللات النظام وتهرّبه - حفاظاً على مكاسبه السياسية والاقتصادية التي يحققها من استمرار حصاره هو للحياة العراقية كافة متعللاً بالحصار الخارجي - فإن رفع الحصار عن الرأي والفكر والثقافة العراقية يبقى مطلباً ملحّاً يستحق قدراً أكبر بكثير مما نوليه حتى الآن من اهتمام, على الأقل على الجانب الإنتاجي والإبداعي لهذه الثقافة المحاصرة المقهورة. فالصمت العربي ـ مثقفين وناشرين وعاملين في حقول الثقافة, وحكومات وشعوبا ـ على ما يجري من حصار للعقل العراقي والثقافة العراقية, أمر لا يجوز الاستمرار فيه, مع أننا نشاهد العديد من المنظمات والحكومات الغربية المعنية بالثقافة تبادر إلى تقديم الدعم والعون للمثقفين العراقيين معنوياً, ودعم إنتاجهم مادياً, مساهمة في كسر الحصار الداخلي على تلك الثقافة.

إن هذه الثقافة المحاصرة داخلياً والملاحقة خارجياً تتطلب من كل القوى الديمقراطية الحريصة على العراق بلداً وشعباً أن تتضافر جهودها الفردية والجماعية لدعمها وتمكينها من الوصول إلى أوسع القطاعات الشعبية داخل العراق وخارجه, لتقوم بتجديد روحها وفك أسرها انطلاقاً نحو الديمقراطية والانعتاق من الخوف والهزيمة والانكفاء على الذات.

إن ساحات الثقافة في مختلف بلداننا العربية لمدعوّة إلى مزيد من الانفتاح على إبداعات وأعمال مثقفي العراق وفنانيه ومفكّريه المنتشرين في المنافي القريبة والبعيدة, عبر الفضائيات والإذاعات العربية, والإفساح في المجال لها عبر الدوريات والمجلات والكتب وحلقات النقاش والمؤتمرات وخشبات المسرح... إلخ, فلابد لهذه الثقافة الرافضة للاستبداد والديكتاتورية والمخنوقة في الداخل العراقي أن تتنفس في الفضاء العربي وأن يتواصل بقاؤها وإغناؤها لثقافتنا العربية, وأن تجد في فضائها العربي الأمان والطمأنينة, لتسهم في نضال شعبها في الداخل وتسمعه صوتها وتشد من أزره للتخلص من كابوس القهر والإذلال الذي طال أمده.

إن توجيه الفنانين والمفكرين والمثقفين العرب جهودهم في دعم الثقافة العراقية المشرّدة والمطاردة وحمايتها هو الأجدى والأكثر نفعاً والأبقى في صالح الشعب العراقي من ذلك الحماس العاطفي المتمثل في مواكب الزيارات لبغداد ضمن برامج موضوعة من أجهزة الحكم والسلطة, مما يؤدي بالضرورة إلى مزيد من دعم النظام في مواجهة المثقف العراقي المكابد للألم والصراع ضد الديكتاتورية.

 

سليمان العسكري