وراء الجبال

وراء الجبال

القرية بيوت صغيرة كالحة تحت الجبال الشاهقة. نتوءات من الخشب والحجر واللحم ملقاة في قعر الصخور. نقطة من الخضرة والدم والضوء تتنفس أمام المادة والموت. معبر وحيد أخير للحياة في قبر الأحجار.

حين يرمق يحيى ذلك الامتداد الشاهق لا يصغي إلا إلى عزف الأساطير والصقور.

ليس ثمة فرجة من سهل, ليس ثمة بوابة للخروج, ليس ثمة نسر قادر على تجاوز هذه العمالقة الكبار من الحصار والرعب.

ليلاً ونهاراً يعمل في هذه الآلة الغريبة وسط عريشه المفتوح للعيون الشكاكة والأيدي العابثة.

لم يأتِ أحد منذ قرون إلى القرية. لا يوجد ساعي بريد. ليس ثمة قوافل تعبر إلى هذا المكان النائي المعزول عن العالم.

لا يصدق أهل القرية أن هناك بشراً غيرهم وراء الجبال. وعندما صنع ذلك الجهاز الحساس الذي التقط أصواتاً غريبة دهشوا, وتحدثوا طويلاً عن معجزات السحرة الذين يشتغلون في كهوف الجبال.

هنا الأرض الخضراء الصغيرة المتشققة بين الأحجار, التي تنبتُ بدم, وتكتسحها السيولُ المدمرة, هنا الرجال والنساء المغروزون بين خناجر الأرض والشوك ولحظات الحب الوامضة في الليل.

هنا الأطفال الذين يطلعون مع ثغاء الماعز وروث البقر وضحك النجوم والتماعات الأشباح في الصخور.

ينغمس يحيى في المعدن المضيء.

هذه الآلة التي تشكلت من بقايا المحاريث والصفائح, تضج في الليل والنهار, تقذف الهواء الساخن, وتدير المراوح القوية.

يقترب سامي ونورة منه, يحدقان في الخرائط الغريبة, وأجهزة النداء والنبض والراديو, ويسمعان الأصوات, ويحركان الأضواء, وينبهران..

وفي كل مرة تنفجر هذه الآلة, وتنغرز العجلات بين الصخور والوحل, كانا يساعدانه في حملها وإعادتها إلى هذا العريش المفتوح للفضاء.

من الطمي, من الشوك, من الدفاتر الجلدية, من الكتب الصفراء المدفونة في المخازن والتراب, من أحلام الطفولة, من ذبذبات الضوء, من حفلات الأهالي الدموية..

جمع السطور والمعدن والضوء والأمل, سنوات وهو يجمع الفلين والعظام والحديد والكلام.

يرون ضوءاً غريباً يسطع في ذلك الكوخ, والورق يمتد, ويرسم الجبال, ويحلق بعيداً.

يثرثرون في مجالسهم, يغضبون, يأتون إليه بفئوسهم.

ـ ماذا تريد أن تفعل.. لماذا تكلم الجن?!

ـ إنني أصنع شيئاً لعبور هذه الجبال, أتعجبكم هذه العيشة الرهيبة كالضفادع والهوام? هناك وراء الجبال.. الأرض الخضراء والمدن والسعادة!

يندفعون إلى آلته, يرفعون أدواتهم الحادة. يضع جسده فوقها. يصرخون:

ـ منذ أن رحت تشتغل على هذا العفريت.. والأرض تبور, والمطر انقطع, والجواميس نفقت, أنت لعنة, وعملك سحر شيطاني! من أين طلعت لنا? كنا في هناء. كانت الأرض تمتلئ بالحبوب, والأطفال يملأون البراري, والآن أكواخ رثة, عراك مستمر, جوع مضنٍ, يالك من نحس!

كم من مرة ركض إلى الكوخ وهو يشتعل! كم من مرة ساعده الفتية ليجمع خردة الحديد وليخفيها آباؤهم! كم من مرة سلم أضلاعه وسنواته للنار!

يحرق السحرةُ البخور في كهوف الجبال. يرسمون وجهه بخطوط الجمر والدخان. يكتشفون أسباب لعنات الماعز والنحل والخراف في معدنه الملعون!

يصرخ السحرة في مغاراتهم العديدة المتعادية. تتكون خطوط من البارود والخناق, تمتلئ القرية بحريق رهيب.

تبدو أعواد الأكواخ, والأسياخ المنتصبة الحامية, وخطوط الدخان المترجرجة, وروائح الأرض والجلود المشوية, وأكوام الأشياء المُنقَّذة, مثل آثار الزيارات الرهيبة للنيازك, مثل حفلات الزار وانفجارات الجليد.

يصرخ يحيى في الليل. ويترنح لشواء البشر, ولقوافل الموتى, وللرجال المجانين الذين يبحثون عن مسارب آمنة في الجبال المعادية فيتهاوون كطيور ميتة ويغدون وجبات لذيذة للنسور.

يصرخُ في العرائش المغلقة المفتوحة للدخان والهلوسة, ولا أحد يأتي إليه سوى نورة وسامي يتعكز على قواهما الفتية وضحكاتهما النقية.

وهو يصبح عجوزاً تشتغل الآلة بقوة. ويبدأ الجسد المعدني بالانفصام عن إرث الروث والسحرة, لكنه يهبط مقعقعاً على النتوءات, مهتزاً, متألماً, يكاد يصطدم بالنخلات المبعثرات.

سامي ونوره يشعلان له المصابيح, ويسهران طوال الليل, يقرآن له المفاتيح والكتب, ويرون الجليد يملأ رءوس الجبال مضيئاً, مغلقاً كل شقوق الأمل.

البشر انكمشوا في بيوتهم, تدثروا بألحفتهم الثقيلة العطنة, يحرقون البخور, ويبصقون في أفواه الأطفال, ويطعنون الخرز بالأبر, ويذبحون الديكة العوراء, ويختنون النساء, ويتبركون بالأحجار.

يصرخ: ثمة طوفان قادم. ثمة جليد عارم جبار سيتدفق. ستكتسح الصخور المنازل والزرع, هلموا إلي!

لكن الأبواب والآذان تبقى مغلقة.

الربيع يقترب, والجداول الوحشية تتكون, والصخور تتقلقل, والظهور محنية, والعيون محدقة في النعال المقلوبة, والمزارات ممتلئة!

راحت الجبال العملاقة تهتز. الكوفيات البيضاء المسالمة فوق رءوسها تغدو ثعابين من الوحل والحصى والجذوع المندفعة. دمدمة رهيبة تكتسح كل شيء. ويهتزالرعاة والغنم في فلاتهم.

تنغلق الكهوف على السحرة في الجبال. ويركض الناس للشرائط المعلقة على القبور.

راحت العجلات ترتفع, وصمد الجناحان للريح, والشابان جثما خلفه, يتطلعون بأسى إلى أنهار المياه والأكواخ والرءوس, وهي تتدفق نحو أسنان الصخور, وجثث البشر والماعز والبقر تطفو, والأيدي القليلة ترتفع من اللجج, والصرخات تنفجر ثم تفور في الضجيج المدوي.

الطائر المعدني الضوئي يرتفع فوق قمم الفيضان والطوفان, وينفتح المدى اللا نهائي للنور.

 

 

عبدالله خليفة