حتى الكهرباء تلوث البيئة...!

حتى الكهرباء تلوث البيئة...!

يجري الفرد, وبشيء من الهوس خلف مفرزات الصناعة من أدوات وتجهيزات كهربائية وغيرها لتيسّر له حياته اليومية, ولتضفي عليها مظاهر الرفاه الاجتماعي. وتشير دراسات طبية وبيئية مكثّفة في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين إلى أن المجتمعات المدنية (الاستهلاكية) تتعرض, نتيجة الاستخدام المتزايد للكهرباء وتجهيزاتها, إلى تلوّث لم يكن وقعه معروفاً من قبل. فالحقول والأمواج الكهرمغناطيسية التي تنتشر في محيطنا, وتتغلغل في أجسادنا بشكل دائم وغير ملموس قد تؤثر في صحتنا الحيوية والنفسية.

هل أعلنت المجتمعات المدنية المعاصرة حرباً شائنة على نفسها وعلى بيئتها? هذا السؤال المحيّر والسوداوي النزعة طرحه, منذ أكثر من قرنين, قلّة من الحكماء وعلماء المجتمعات الإنسانية وأصحاب المذاهب الأخلاقية ووصولاً إلى الجماعات (الخُضر) من دعاة الحفاظ على الطبيعة والحياة. بل وذهب بعضهم إلى استقراء مستقبل تهيمن فيه التقانة على الأرض والطبيعة والإنسان وتتحكم حتى في مبتدعيها.

إن نظرة سريعة إلى الوراء عبر السلم الزمني السحيق, ستوضح لنا كم كان كوكبنا عدوانياً قبل ما يزيد على أربعة بلايين ونصف البليون من السنين, بحيث تعذّر قيام الحياة عليه. وقد قُدّر أن تمضي مئات الملايين من السنين قبل أن يصبح موئلاً صالحاً للكائنات الحية وتصبح بيئته مضيافة للجنس البشري, تعجّ فيها بكل أشكال الحياة في محيط مسالم إلى حدّ كبير.

ومع بدء تشكّل المجتمعات البشرية, وتكوّن الحضارات, أخذ الإنسان يؤثّر في بيئته المحيطة ويسخّرها شيئاً فشيئاً لأغراضه ومنافعه الخاصة. ومع ذلك, ظل يعتبر نفسه جزءاً مكمّلاً للطبيعة وامتداداً لها, وهذا ما يتجلى في تلك العلاقة الحميمة بين الإنسان والأرض والطبيعة لدى المجتمعات الزراعية الأولى. لقد بقي هذا التكامل والانسجام قائماً إلى أواخر القرن الثامن عشر وبداية الثورة الصناعية الأولى عندما تحوّلت نظرة الإنسان إلى الطبيعة من علاقة نفعية تبادلية إلى علاقة سيطرة وتحكم لا تُرى فيها الطبيعة إلا كجماد لا حياة فيه ولا ضير في استنزافه إلى الحد الأقصى. وهكذا, أخذ تسخير العلوم والتقانة للطبيعة يبتعد تدريجياً عن المظاهر الأخلاقية والصفات الإنسانية والفطرية الأصيلة.

ومع ذهولنا, المقترن بكثير من الإعجاب والإكبار, بالإنجازات الخارقة التي حققتها وتحققها التقانات الكهربائية والمعلوماتية ووسائل الاتصالات لحاضر ومستقبل البشرية, يتساءل البعض فيما إذا كانت هذه التقانات ستقودنا إلى مزيد من الاغتراب عن محيطنا وإلى تمزيق أكبر للتوازن البيئي.

هذا التوازن الذي وفّره كوكبنا عبر ملايين السنين قد تنسفه ثوراتنا التقانية المتعاقبة في قرون عدة.

الحقول والأمواج الكهرمغناطيسية

تتعرض الكائنات الحية على الأرض بشكل دائم إلى حقول كهربائية ومغناطيسية وإلى إشعاعات كهرمغناطيسية (طبيعية), إذ ينتشر حقل كهربائي ساكن ما بين الغلاف الجوي الأيوني المحيط وسطح الأرض تبلغ شدته الوسطية عند منسوب سطح البحر ما يقارب 100 فولت/المتر (V/m). وتزداد هذه القيمة بشكل معتبر عند حدوث العواصف الرعدية. كما ينتشر على سطح الأرض وفي محيطها حقل مغناطيسي ساكن شدته الوسطية على منسوب سطح البحر 50 ميكروتيسلا (uT). وتؤدي النشاطات والرياح الشمسية والاضطرابات الكونية إلى تغيرات وتأرجح لشدة الحقل المغناطيسي الأرضي. وإضافة إلى هذه الحقول الطبيعية, تتعرض الأرض إلى إشعاعات شمسية وكونية بعضها ذو طاقات عالية تؤدي إلى تشرّد (تأيّن) الهواء, إلا أن معظـم هـذه الإشعاعات يتم امتصاصها في طبقات الجو العليا, وتحتوي بعض المكامن الجيولوجية على خامات مشـعّة تؤدي بدورها إلى تأيّن الهـواء. إن استمرار الحياة على الأرض منذ ملايين السنـين يؤكد لنا أن مجمل التأثيرات السلبية للحقول الساكنة وللإشعاعات الطبيعية المؤيّنة وغير المؤيّنة ضعيف نسبياً, وأمكن للكائنات الحية التأقلم معه بشكل أو بآخر.

ومع اكتشاف الكهرباء ودخول تطبيقاتها العملية في دقائق حياتنا اليومية, بدأت الحقول والأمواج الكهرمغناطيسية (الصُنعية) تغزو فضاءنا المحيط وتتضاعف آلاف المرات. لقد استثمرت الصناعات كامل الطيف الكهرمغناطيسي تقريباً في إنتاج الأدوات والتجهيزات والآلات بدءاً من التردد الصفري ومروراً بترددات الضوء المرئي, ووصولاً إلى الأشعة السينية عند التردد 01E51 هرتز. ولقد تبين أن جميع الأدوات والتجهيزات الكهربائية تصدر حقولاً كهربائية ومغناطيسية أو أمواجاً كهرمغناطيسية (وأحياناً كليهما) تبعاً للتردد الذي تعمل به.

وسيقتصر الحديث هنا على التلوّث الذي تسببه الحقول الكهربائية والمغناطيسية المتناوبة ذات التردد المنخفض جداً (06/05 هرتز) وتأثيره في صحة وحياة الإنسان باعتبار أن معظم التجهيزات والتمديدات الكهربائية التي نتعامل معها تصدر مثل هذه الحقول.

يرتبط انتشار الحقل الكهربائي بجهد المنبع الكهربائي (الفولت), ولحسن الحظ يتم في الغالب (حجب) هذا الحقل عن طريق جدران وأرضيات المباني ووصل الأغلفة المعدنية للتجهيزات الكهربائية بالأرض. وفي المقـابل, فإن انتشار الحقل المغناطيسي مرتبط بمرور التيار الكهربائي (الأمبير), ولا يمكن حجب هذا الحقل بسـهولة كما هو الحال مع الحقل الكهربائي. ولهذا ينتشر الحقل المغناطيسي, بلا قيود تقريباً, في محيطنا متغلغلاً عبر الجـدران والحواجز إلى داخـل جسم الإنسان والكائنات الحية عامة, وبالتالي, تركّز معظم الدراسات العلمية على مدى تأثير الحقول المغناطيـسية المتنـاوبة على صحة الإنسان.

التأثيرات الوبائية

إن التجهيزات والمنابع الكهربائية العاملة بالترددات المنخفضة جداً تصدر حقولاً كهربائية ومغناطيسية غير مؤيّنة. أي أنها لا تمتلك طاقة كافية لتأيين الهواء أو لفصم عرى الروابط الكيميائية بين الجزيئات المكوّنة للخلايا والنسج العضوية للكائنات الحية أو تفكيك المورثّات (الجينات) على عكس الإشعاعات المؤيّنة كالأشعة السينية وفوق البنفسجية. وينحصر تأثير هذه الحقول على جسم الإنسان في تطبيقها لقوى كهربائية ومغناطيسية على الجزيئات في الخلايا والنسج مما قد يؤدي إلى إزاحتها أوتوجيهها وكذلك في توليدها لتيارات كهربائية ضعيفة نسبياً قد تتداخل مع السيالات الكهربائية العصبية الموجودة أصلاً في الجسم أو تشوشها.

ومع ذلك, فقد أثارت بعض الدراسات في علوم الطب الوبائي الإحصائي, قبل عقدين من الزمن, مسائل مهمة تتعلق بالتأثيرات الحيوية (البيولوجية) الضارة المحتملة الناجمة عن تعرّض الإنسان للحقول المغناطيسية ذات التردد المنخفض سواء في المواقع السكنية أو أماكن العمل. فقد لوحظت زيادة في (عامل مخاطرة) الإصابة بسرطان الدم (اللوكيميا) عند أطفال تقع منازلهم بالقرب من خطوط الجهد العالي. كما أن معدل الإصابة بسرطان الدم اللمفاوي هو أعلى من المعدل (المتوقع) لدى العاملين في مجال صناعات الطاقة الكهربائية وبعض الصناعات المشابهة الأخرى. وكان من البديهي أن تحدث مثل هذه الدراسات ضجة كبيرة في الأوساط الشعبية والإعلامية في الدول الصناعية, وينتقل صـداها إلى أنحاء العالم. ومنذ ذلك الوقت, جرت مئات الدراسات الوبائية الإحصائية والتجارب المخبرية في الزرع الخلوي وأخرى على الحيوانات والمتطوعين. وامتدت الدراسات لتشمل احتمالات الإصابة بالأورام الدماغية وأمراض القلب والأوعية والإجهاض المبكّر ومرض الزهايمر إضافة إلى إمكان الإصابة بالأمراض النفسية كالكآبة والقلق وغير ذلك.

لقد جاءت نتائج هذه الدراسات والتجارب متناقضة ما بين التأكيد والنفي لهذه التأثيرات, كما أن طرائق البحث المختلفة المتبعة لا يكمل بعضها بعضا في الغالب. فالدراسات الوبائية الإحصائية, كما هو معروف, لا تسمح بتحديد العلاقة بين السبب (الحقل) والنتيـجة (المرض) بشكل دقيق. أما التجارب المخبرية على الأنسجة والخلايا فبإمكانها تحديد هذه العلاقة, إلا أن السؤال يبقى عن مدى إمكـان تعمـيم نتائج التجارب المخـبرية للأنسجة وللخلايا على كامل جسم الإنسان.

وإزاء هذه التناقضات, طلب الكونغرس الأمريكي, عام 1992, إلى المعهد الوطني لعلوم الصحة البيئية وعدد من المؤسسات العلمية والصحية الأخرى البدء ببرنامج بحثي وتحليلي شامل يهـدف إلى إجـراء بحوث جديدة ومراجعة عامة لكل الدراسـات السابقة وتقديم البراهين على مدى خطورة التعرّض للحقول الكهربائية والمغناطيـسية ذات التردد المنخـفض. في عام 1998 خلصت مجموعات العمل المكوّنة للبرنامـج إلى نتيـجة مفادها الآتي:

(لم تتمكن أي مجموعة عمل من التوصل إلى دليل كاف لتصنيف التعرض للحقول الكهربائية والمغناطيسية ذات التردد المنخفض جداً على أنه مسرطن معروف أو محتمل للإنسان..., ومع ذلك, فقد توصل معظم أعضاء لجنة صياغة التقرير النهائي إلى نتيجة مفادها أن التعرض لهذه الحقول يؤدي إلى سرطنة ممكنة للإنسان, وقد بُني قرار اللجنة بشكل رئيسي على الدلائل المحدودة على زيادة مخاطر سرطانات الدم عند الأطفال المقترنة بالتعرض المنزلي وزيادة حدوث السرطان اللمفاوي المرتبط بالتعرّض المهني. أما بالنسبة لأنواع السرطانات الأخرى أو الأمراض غير السرطانية, فإن مجموعة العمل هذه قد صنّفت البيانات التجريبية على أنها تقدم دليلاً أكثر ضعفاً أو أنها لا تدعم التأثيرات الناجمة عن التعرّض لمثل هذه الحقول).

وواضح هنا أن صياغة نتيجة التقرير تبدو معقدة بل ومربكة لعامة الناس ولربما لصنّاع القرار. فقد اعتمدت الصياغة على تصنيفات علمية خاصة للمواد وللعوامل المسرطنة وضعتها الوكالة الدولية لأبحاث السرطان LARC (فالاسبست مثلاً مصنف لدى الوكالة كمادة مسرطنة معروفة والفورم الدهيد محتملة والقهوة ممكنة....). وهكذا جاءت نتيجة التقرير حذرة ودبلوماسية إلى حد كبير, وهي دبلوماسية قد تُرضي, في الواقع, جميع المعنيين بالأمر, لكن دون إعطاء جواب قاطع.

التعرض للحقل المغناطيسي

إن (إمكان) وجود تأثيرات سلبية للحقول المغناطيسية على صحة الإنسان, تتطلب إلمام الفرد بأساسيات التعرض لها وبالتجهيزات والمنابع التي تصدرها, وبالتالي اتخاذ بعض الإجراءات الاحتياطية أثناء التعامل اليومي معها.

يتناسب تعرّض الإنسان للحقل المغناطيسي المتناوب:

- طرداً مع شدة التيار الكهربائي للجهاز أو المنبع.

- عكساً مع المسافة الفاصلة (البعد) بين الإنسان والجهاز أو المنبع الكهربائي.

- طرداً مع المدة الزمنية للتعرض (قصيرة, طويلة أو دائمة).

وهكذا, يتعرض كل فرد يومياً إلى (جرعات) متغيرة من هذه الحقول تبعاً لطبيعة نشاطاته المنزلية والمهنية, ومكان وجوده وحتى مستواه المعيشي.

إن تنوّع مصادر وشدة الحقول المغناطيسية الصنعية المحيطة بنا في كل مكان تجعل من المتعذّر اتخاذ إجراءات وقائية ناجعة تماماً حيالها. وعلى ضوء معارفنا الحالية, فإن أفضل ما يمكن اتباعه هو الحد من التعرّض التراكمي اليومي. وقد يساعد في ذلك فصل التجهيزات عن المنابع الكهربائية عند عدم استعمالها والابتعاد, قدر المستطاع, عن الأدوات والآلات العاملة وبخاصة المزوّدة منها بالمحرّكات الكهربائية. كما أن ترشيد استخدام التجهيزات المنزلية والمكتبية إلى الحد الزمني الأدنى محبّذ ليس من وجهة النظر الاقتصادية فحسب, بل الصحية أيضاً.

ورغم كل هذه المخاطر الممكنة للحقول الصنعية, ستستمر المجتمعات البشرية في استثمار الطاقة الكهربائية (النظيفة) ولو غرقت في بحرها الملوّث, وستظل المنتجات الكهربائية تسحر ألباب الأفراد والجماعات وإن انقلب السحر على الساحر.

 

حازم صابوني