آلام الظهر.. هل أصبحت سمة العصر؟

آلام الظهر.. هل أصبحت سمة العصر؟

القليل منا من لم يعان أو يكون قد عانى فعلا من آلام الظهر خلال فترة ما من حياته, إذ إنه من المعتقد الآن بأن 80% من الناس يعانون من آلام الظهر خلال فترة ما في حياتهم, فضلا عن أنه يعتبر السبب الرئيسي لحالات العجز عند الشباب. ونتيجة للتقدم الكبير الذي طرأ على الأبحاث المتعلقة بهذه الشكاوى الشائعة, فقد تغيرت الكثير من المفاهيم حول طبيعة وأسباب وطرق تدبير آلام الظهر.

أصبحت آلام الظهر أخيرا من الشكاوى الشائعة جدا, وقد يكون سبب ذلك مرتبطا بدرجة ما بنموذج الحياة العصرية خلال العقود القليلة الماضية, والمتمثلة بنقص النشاط الحركي, فضلا عن الضغوط النفسية والاجتماعية والتي أثبتت آخر الدراسات والأبحاث أن لها دورا ما في حدوث أو تفاقم هذه الشكوى. وتشير بعض هذه الدراسات إلى أن كل من بلغ الخمسين عاما من عمره, لابد أن يكون قد عانى خلال فترة ما في حياته من مشاكل الظهر. ويعتقد بأن مشاكل الظهر والفقرات هي أهم أسباب تحديد النشاط الوظيفي عند الأشخاص دون سن 45 سنة. وقد قدر في بعض الدول الصناعية أنه من بين كل ألف عامل, يحدث سنويا 500 يوم غياب عن العمل بسبب آلام الظهر. وتتكلف الولايات المتحدة الأمريكية وحدها بين 20 ـ 40 مليار دولار سنويا بسبب آلام الظهر. يدخل فيها تكاليف التشخيص والعلاج والانقطاع عن العمل بالإضافة إلى دفع التعويضات المترتبة عن مشاكل الظهر.

وتعتبر شكاوى الظهر هي الأكثر حدوثا عند الإنسان نسبة إلى باقي الأعضاء, حيث يصاب بها الكبار والصغار, النساء والرجال, طوال القامة وقصارها, البدينون والنحيفون على حد سواء. كما لوحظ أن آلام الظهر غالبا ما تبدأ بالحدوث في العقد الثاني من العمر, ثم تتزايد نسبة الحدوث حتى العقد الخامس لتبدأ بالتراجع تدريجيا.

نتيجة لازدياد هذه الشكوى فقد كثرت الدراسات والأبحاث, بل لقد أنشئت معاهد أو مراكز خاصة في كثير من الدول المتقدمة تعنى بآلام الظهر وطرق تشخيصها ومن ثم السيطرة عليها. هذا كله أدى إلى توفر الكثير من المعلومات الحديثة عن كيفية التعامل مع هذه الشكوى.

الأسباب عديدة وبعضها مجهول!

قد يحدث ألم الظهر في أي مكان منه, إلا أن أسفل الظهر هو المكان الذي يكثر فيه الألم. ويعتبر العمود الفقري أحد أقوى أعضاء الجسم, وهو يتألف ببساطة من الفقرات العظمية التي تفصل بينها أقراص غضروفية تمسك بها أربطة قوية, والكل محاط بعضلات كبيرة وقوية أيضا. وقد وجد أن أغلب حالات آلام الظهر هي تلك الناجمة عن الأربطة والعضلات المحيطة بالفقرات, وهذا يعني أن الغالبية العظمى من حالات آلام الظهر لا تنجم عن مرض خطير. ولقد لوحظ وجود عوامل مؤهبة لألم الظهر أهمها الوضعيات الخاطئة أثناء النوم أو الجلوس أو الوقوف, وأيضا بعض المهن الشاقة والتي يلعب فيها حمل الأوزان الثقيلة دورا مهما بالإضافة إلى بعض العوامل الأخرى التي قد تزيد من شدة الألم مثل التوتر النفسي والقلق والكآبة وتعدد الحمل عند النساء والتدخين. إن أكثر المرضى الذين يشكون من آلام حادة في الظهر يعود إليهم الألم ثانية بعد الهجمة الأولى, وهذه هي القاعدة, والاستثناء ألا تعود تلك الآلام. إلا أن ذلك لا يعني حتما أن سبب الألم هو مرض خطير, بل على العكس, فأكثر الأمراض الخطرة تأخذ سيرا مترقيا. أثناء الفترة بين هجمات الألم أكثر الناس يعيشون حياة طبيعية.

لقد ارتبط ألم الظهر كثيرا خلال السنوات الماضية بمرض انفتاق القرص Disc Herniation (أو ما يسمى بمرض الديسك). بالرغم من سلامة هذا المرض, خلافا لما يتصوره كثير من الناس, فإنه لوحظ أخيرا أن هذا المرض هو مسئول فقط عن خمسة بالمائة من حالات ألم الظهر.

هناك أسباب أخرى لآلام الظهر منها الأورام والأمراض الرثوية والأخماج وغيرها. ولحسن الحظ فإن هذه الأمراض تشكل نسبة ضئيلة جدا كمسببات لآلام الظهر.

إن كثيرا من حالات آلام الظهر المزمنة لا يمكن تشخيص سببها بدقة بالرغم من اللجوء إلى أحدث التقنيات التشخيصية كالشعاعية وغيرها. يمكن في بعض الحالات رؤية بعض التغيرات الشعاعية والتي غالبا ما تعبر عن شيخوخة العظام, وهي ليست بالضرورة سبب الألم. وفي مثل تلك الحالات يكتفي عادة بنفي وجود أمراض مهمة أو خطرة مسببة لهذا الألم.

إليكم.. درهم الوقاية

إن أي إنسان يقوم بنشاطه اليومي معرض للإصابة بمشاكل الظهر, وحمل الأشياء مهما كان وزنها هو أحد الأمثلة. كما أن الطرق الخاطئة للنوم أو الجلوس هي من العوامل المهمة المسببة لآلام الظهر. إن اتباع التعليمات التالية بمنزلة درهم الوقاية الذي هو خير من قنطار علاج وهذه التعليمات كفيلة بمنع أو التقليل من الإصابة بآلام الظهر.

الرياضة: تعتبر الرياضة المنتظمة السلاح الأمضى ضد مشاكل الظهر, فبالرياضة تقوى عضلات الظهر وتزداد مرونة الأربطة, وهذا كله يجعل الظهر قادرا أكثر على تحمل الإجهاد. وتعتمد نوعية الرياضة على سن المريض وشدة إصابته بالآلام, والقاعدة العامة في هذا المجال هي أن تتم الرياضة بصورة تدريجية. والسباحة هي أفضل أنواع الرياضات لمشاكل الظهرثم المشي وركوب الدراجة. قد يكون من الضروري في بعض الحالات تجنب بعض الفعاليات والتي كثيرا ما يشعر المريض أنها تثير الألم لديه, والمريض هنا قادر أكثر من الطبيب على معرفة وتحديد تلك الفعاليات.

حمل الأشياء: من الضروري جدا التنويه إلى أنه عند حمل الأشياء من الأرض يجب أن يتم بعدحني الركبتين وليس حني الظهر, أي أنه عند رفع أي جسم من الأرض ومهما كان وزنه أن يتم بعد القرفصة مع إبقاء الظهر مستقيما ثم تتم عملية الرفع بالتدريج, وليست بالخطف, على أن يتحمل الطرفان السفليان (الفخذان والساقان), وليس الظهر, وزن ذلك الجسم المراد حمله. وهذا الأمر له أهمية خاصة لتجنب الإصابة بمرض انفتاق الديسك.

النوم: الاستلقاء هو مريح لآلام الظهر, إلا أنه يجب ألا يكون على البطن. وأفضل الاستلقاء هو الذي يتم على أحد الجانبين مع ثني الركبتين والوركين قليلا, ويجب أن يكون الفراش ثابتا وليس شديد الليونة. وقد وجد أخيرا أنه ليس من الضروري, وكما كان يعتقد سابقا, النوم على لوح من الخشب أو على سطح قاس أو على الأرض.

الجلوس: يجب أن يكون مريحا, وأن يتم تبديل وضعيته باستمرار. وينصح الذين يعانون من آلام الظهر ممن تتطلب مهنتهم الجلوس ساعات طويلة يوميا وخاصة سائقي السيارات, أن ينتقلوا من وضعية الجلوس إلى وضعية الوقوف أو المشي ولو لبضع خطوات, وذلك خلال فترات زمنية متقاربة, كل نصف ساعة مثلا. كما أنه ينصح بوضع وسادة أسفل الظهر من أجل إبقاء الظهر بوضعية عمودية.

الوقوف: أكثر الناس يعرفون وضعية الوقوف الصحية للظهر, إلا أن القليل منهم من يمارسها فعلا باستمرار أثناء اليوم. وأفضل وضعيات الوقوف صحية هي التي تعرف بوضعية وقوف الجندي أو ما يقاربها, حيث يكون الظهر مستقيما والكتفان باتجاه الخلف والصدر بارزا للأمام.

إنقاص الوزن: بالرغم من أن آلام الظهر تصيب السمين والنحيل على حد سواء, فإن بعض الدراسات تشير إلى أن هذه الآلام أكثر حدوثا عند البدينين, كما وجد تحسن ملحوظ لآلام الظهر بعد إنقاص الوزن عند البدينين. لذلك يعتبر إنقاص الوزن هو أول خطوة لعلاج آلام الظهر عنـد البدين, وهذا يتم بشكل أساسي بتحديد الوارد الغذائي في الطعام ثم ممارسة الرياضة وليس العكس.

الحذاء: كثيرا ما تصاب النساء بآلام الظهر الناجم عن ارتداء الأحذية ذات الكعب العالي وخصوصا أثناء فترة الحمل, حيث يؤدي ذلك إلى أن يزداد الإجهاد على العمود الفقري. وأفضل أنواع الحذاء هو ذو الكعب المنخفض أو المنبسط.

تجنبوا إثارة الألم

بالرغم من أنه توجد أسباب عديدة ومتنوعة لآلام الظهر, فإنه في كثير الحالات وكما قلنا لا يمكن معرفة السبب الدقيق للألم بالرغم من اللجوء إلى أدق الوسائل التشخيصية الشعاعية المعروفة الآن. ففي تلك الحالات من الضروري نفي الأسباب الخطرة أو المهمة, وهذا الأمر لا يمكن أن يتم إلا من قبل الطبيب وبعد اللجوء لبعض الوسائل الاستقصائية.

كما ذكرنا فإن أكثر آلام الظهر تكون ناجمة عن الأربطة أو العضلات في الظهر, وبالرغم من أن هذه الآلام تزول سريعا وخلال بضعة أيام فقط, فإنه لا يمكن في أغلبية الحالات حدوث الشفاء منها نهائيا, بل إن تلك الآلام تعود للظهور بين الحين والآخر. وفي هذه الحالات يجب التعرف على العوامل التي قد تلعب دورا في إثارة هذا الألم ومن ثم تجنبها قدر المستطاع. من الضروري التنويه هنا إلى أنه ما كان يعتبر سابقا إحدى ركائز معالجة آلام الظهر, وهو الاضطجاع المديد في الفراش لعدة أسابيع, ثبت أن هذا ليس ضروريا, بل قد يؤدي لضمور عضلات الظهر فضلا عن الآثار النفسية السلبية التي قد يخلفها, وهذا كله يؤدي إلى تفاقم الوضع. وبدلا من ذلك فقد وجد أنه حتى في حالات ألم الظهر الشديد ينصح بالراحة في الفراش لمدة يوم أو يومين مع تناول بعض المسكنات الخفيفة ثم العودة سريعا لممارسة الحياة اليومية حالما يخف الألم, مع تجنب بعض الفعاليات المجهدة.

غالبا ما تستجيب آلام الظهر الناجمة عن حدوث انفتاق الديسك للعلاج الدوائي مع الراحة, وحالات قليلة منها فقط تحتاج إلى المعالجة الجراحية, وتنصح آخر الدراسات في هذا المجال بتجنب العلاج الجراحي ما أمكن.

المعالجة الفيزيائية: يمكن في حالات ألم الظهر الحاد اللجوء للكمادات الباردة عدة مرات يوميا, وبعد زوال الألم الحاد تستبدل بهاكمادات ساخنة عدة مرات يوميا أيضا, مع ضرورة الحذر من إصابة الجـلد بالحـروق. هنـاك أنواع أخرى للمعالجات الفيزيائية تستطب حـسب حالة المريض, وما قد يكون منها نافعا لمريض قد يكون مضرا لآخر, فالطبيب في هذه الحالات هو الذي يستطيع أن يحدد نوع وشكل المعالجة الفيزيائية المقترحة.

أخيرا, على المرضى المصابين بآلام مزمنة في الظهر أن يتذكروا دائما أنه بالرغم من أن هذه الشكوى شـائعة جدا, فإن هـدف العـلاج الحـالي ليس فقط تقـليل الألم, بل هو التـوصل للاستمتاع بالحياة بالرغم من وجود هذا الألم!

 

 

عبدالناصر كعدان