إيبولا: فيروس الغابة الدموي خالص جلبي

إيبولا: فيروس الغابة الدموي

برغم كل مبررات الرعب التي اجتاحت البشرية مع انتشار وباء إيبولا، فإن هذا ليس نهاية المطاف إن لم تتعلم البشرية من الدرس، درس العبث بالبيئة وفض بكارة الطبيعة التي لم يعد يحترمها الإنسان، فلم تعد تحترمه.. لكن الفرصة مازالت سانحة للنجاة، إذ إن العدوى بهذا الوباء - وما شابهه من فواتك الأوبئة - مازالت مقصورة على انتقال سوائل الجسم لا رذاذ الأنفاس. و"العربي" التي ظلت على نهجها نزّاعة إلى التأصيل، تورد هذا المقال لا تعقيبا على حدث، بل تقليباً في أعماق هذا الحدث.

عندما دخلت المريضة الشابة قسم الإسعاف في المستشفى لم يكن أحد يعمل أنها تحمل قنبلة بيولوجية، وتقدم (الجراح) المناوب ليفحص المريضة، انها تغلي من الحرارة، وتشكو من ألم حاد في البطن، ولكن طبيعة الإقياءات والإسهالات كانت مريبة فهي مختلطة بالدم، إلا أن الحالة هي ( حالة بطن حادة ACUTE ABDOMEN ) واتخذ قراراً كلفه حياته فيما بعد.

عندما تم شق البطن بالمشرط الحاد فوجئ الجراح ببطن غير عادي، ولكنه لا يفسر له كل هذه الآلام الحادة، ولا ندري إذا كان قد مشى على طريقة الجراحين التقليدية فاستأصل الزائدة الدودية أم لا؟

ماتت المريضة بعد عدة أيام من العملية في ظل انسمام دموي غير معهود، وبآلام مبرحة ونزوف معممة من كل مكان، وبعد موت المريضة بعدة أيام ابتدأ الطبيب الجراح يهذي من الحمى، ويدخل في حالة غيبوبة، ويشكو بدوره من آلام ممضة في البطن وانتفاخ في الأطراف، وسقط في الفراش وهو ينزف من كل مكان.

مات الجراح بعد ذلك ولحقه (طاقم العمليات) المكون من ثلاثة أشخاص إلى القبر، وأما ممرضات الجناح الأربع اللواتي كن يعنين بالمرضى فبدأن يتساقطن مثل ورق الخريف باتجاه الموت على هذه الصورة المفزعة. وتتابع مسلسل الأموات. عند ذلك شعر المرضى في المستشفى أنه مسكون بأشباح الجن التي هجمت من الغابات، ففروا على وجوههم هائمين تاركين المشفى يصفر فيه الهواء، ويتخلله الموت وترتمي فيه الجثث، وتعيث فيه الفيروسات الدموية.

كان هذا في مطلع شهر إبريل 1995 م أي قبل شهرين من تاريخ هذه المعلومات في مستشفى مدينة ( كيكويت - KIKWIT) في زائير، الدولة الإفريقية، وعندما بدأ منجل الموت يحصد الحشرات أدرك الجميع أنهم أمام وحش مرعب أنطلق من الغابة.

بداية سيناريو الرعب

في صيف عام 1976م أرسل طبيب من جنوب السودان ( مدينة الناصر) إلى معهد الأمراض الاستوائية في هامبورغ يروي واقعة مفادها انتشار حالات غريبة من الحمى المجنونة المترافقة بالغيبوبة والنزف، وأكد الطبيب في تقريره أن الحالات هي قطعاً ( ظريفة) للاطلاع. والأطباء لهم (صرعتهم!!) فهم يصفون الحالات المرعبة بأنها ظريفة، والأورام المتقدمة بأنها تدعو إلى حك اليدين للعمل الجراحي!!

يقول الدكتور كنوب لوخ (مجلة دير شبيجل) إن التقرير أثاره وقام بزيارة مستشفى (المريدي) في المنطقة ولكن ما رآه كان مفزعا مروعاً من بشر يتساقطون إلى الموت كالذباب في ظروف ألم ومعاناة مخيفة: مرضى يتقيأون كل شيء حتى أحشاءهم، تتسلخ أغشيتهم المخاطية تحت آلام لا تطاق أما اللسان وقبة الحنك فكانت تتساقط متفتتة. كان المرض ينخر فيهم بالكامل من الدماغ حتى الأعضاء التناسلية.. كانوا ينزفون من كل مكان من الأنف والفم والعين والجلد، كان رشح الدم ينصب في كل الأجواف الداخلية من تامور وجنب وبيريتوان ( أكياس القلب والرئة والأمعاء بالتتالي) لقد أدركت على الفور أنني أمام ظاهرة مرضية جديدة تماماً، علينا أن نتحرى المسبب الإمراضي فيها وبفحص (الخزعة) المأخوذة من كبد الأموات بعد تشريح الجثث (مات 124 فرداً من أصل 200 إصابة) تمت رؤية فيروس الرعب الجديد هذا.

الفيروس دراكيولا

كان ( فيروسا ) يلتوي على نفسه في أعداد لا تنتهي مثل الديدان أو الأفاعي، باطنه شحنة من الأحماض النووية تبلغ ضعف ما هي في فيروس الإيدز سيئ الذكر الذي لم يطوق حتى الآن بعلاج أو لقاح. ومعطفه الخارجي طبقة شحم وتبرز من أطرافه نتوءات تشبه أقدام الزاحفة ( أم أربعة وأربعين).

فيروس الإيدز يمشي كلصوص الليل المتسللين، ولا يعلن عن هويته مثل المنافقين، ويضرب ضربته في الظهر بعد حين مثل كل الغادرين. أما فيروس (الإيبولا) الذي أخذ اسمه من نهر في زائير حيث زمجر المرض وكشر عن أنيابه، فهو يضرب بسرعة ووضوح وبمنتهى القسوة وبشكل دموي، فحضانته لا تحتاج كما في الإيدز إلى سنوات بل هي بين 2 - 21 يوماً، وإذا بدأت مظاهر الحمى والألم فيبقى دور الطبيب دور الشاهد، الذي يرى فصول الموت الأخيرة لا أكثر، وكما انتشر فيروس ( الإيدز ) سابقاً بواسطة الدم وأخلاط البدن والعلاقة الجنسية المشبوهة فإن فيروس ( الإيبولا) يعيد نفس السيرة السابقة. فيروس الإيدز يستخدم إستراتيجية التغيير في التركيب الكيمياوي الحيوي، حيث يقتحم تركيب الحامض النووي فيصبح قطعة منه، أما استراتيجية فيروس الإيبولا فهي أدهى وأمر، حيث يعمد إلى العنف في التركيب الجزيئي بمعنى أنه يعرف لغة واحدة فقط هي: التكاثر والتكاثر والتكاثر... فيروس الإيدز يسطو على أنواع من الكريات البيضاء في الجهاز المناعي،. أما هذا فيستخدم أي خلية مطية لهدفه المدمر، فباعه في الحيل أوسع وأمكر، إنه يتودد إلى دوريات الحراسة من الخلايا المهتمة بتصيد الأجسام الغريبة ( المعروفة بالبالعات MACROPHAGES) فتنخدع به فيمتطيها، فإذا أصبح في داخلها ضرب ضربته فنسف البناء من داخله، فتسرب إلى كل الأجهزة النبيلة والأعضاء الحساسة، وبذلك تخترق خلايا الكبد، وتدمر مصافي تكرير بترول الجسم (الكليتان) وينعطب الطحال، ويُنسف الكظهر، وتتدمر الطبقة الباطنة للأوعية الدموية فينهار جهاز لزوجة الدم بالكامل، فحيث يسبح الدم بنعومة بين التميع والتخثر، وينساب كأنه اللحن العذب يضخ الحياة في طرقات مملكة البدن التي تبلغ مائة ألف كيلو متر، يحدث الانقسام والنزاع في هذه المملكة اللطيفة، فيتحول كل قسم من الدم إلى حزب، جزء متطرف يتكتل على نفسه فيكون الخثرات مثل القطران الأسود، وجزء كسل رخو مهمل يفقد كل قابلية للتماسك، فيتسرب الدم من كل مكان شيعاً وأحزاباً وكل حزب بما لديهم فرحون ؟؟!!. هذه الظاهرة هي التي يخشاها كل الأطباء ويرجفون منها ويرمز لها بحروف مخيفة ( DIC ) أي انحلال الدم الشامل، فهذا ما يفعله فيروس الإيبولا الدراكيولا.

وقد عكف العلماء ومراكز البحث العلمي بعد تحديد هويته على وجه الدقة في معهد انتشار الأمراض في (أتلانتا) الولاية الأمريكية حيث يوجد مركز مراقبة انتشار الأمراض المرموز لها اختصارا ( CDC ) دون جدوى حتى الآن على معرفة مصدره وما هو الحيوان الذي يعيش في جلده وأي الأوساط التي يرتع فيها، فهناك سلسلة من الحيوانات التي ينام كل واحد منها في حضن الآخر، فالحيوان يحلم في جلده القمل أو النمل أو البعوض، الذي بدوره قد يحمل الإيبولا في لعابه !! فالفيروس المدلل ينام كما نرى محميا على ثلاث وسائد وفرش وثيرة بين لعاب البعوضة ووبر القملة وجلد الخفاش الليلي مثلاً، أو بين بول الجرذان وأمعاء الحوافر وأوعية القردة وجلد الثعابين، فنحن لا نعرف على وجه الدقة حتى الآن من أين جاء ومن هو صديقه وأنيسه ونديمه من الكائنات الأخرى؟؟ ولكن الشيء الأكيد أنه يهجم بين الحين والآخر بما هو أرعب من غوريللا الغابات فينهش ويفتك حتى يشبع فيهدأ ويعود للغابة ليهدأ فيها إلى حين.

رحلة البحث عن يأجوج ومأجوج

في خريف عام 1988م قامت مراكز البحث في الجيش الأمريكي بتقصي أماكن وجود الفصائل الفيروسية الجديدة واستطاعت أن تعزل - بمحاذاة المساقط المائية في منطقة إيلجون ( ELGON ) الواقعة بين أوغندا وكينيا في كهوف تأوي إليها الفيلة- فيروساً قريباً من فصيلة الإيبولا ولكن لم يتم التأكد من أن هذا المكان هو مصدر توريد هذا الفيروس الخطر، ونظراً لأن الغابات الاستوائية الرهيبة هي مصدر هذا الفيروس فإن رحلة البحث تعني تفقد نصف حيوانات وطيور العالم وحشراته وعجائبه الموجودة هناك. أين أنت يا فيروس الإيبولا هل تنام في بول جرذ، أو دم قرد؟ هل أنت غاطس في جلد خفاش أو وبر عنكبوت؟ هل تدب مع نملة أو تطير مع نحلة؟؟

أخطر مركز بيولوجي في العالم!!

عندما تلقى الدكتور كليرنس جيمس بيترز ومساعده ستيفن أوستروف العينات الـ(16) من دم المصابين في زائير، التي أرسلت بواسطة الدكتورة جوليا ويكس هرعا إلى المركز البيولوجي المخصص للكشف عن هذه الفيروسات الخطرة في مركز مراقبة انتشار الأمراض في أتلانتا، المعروف بـ ( CDC ) حيث يتم الكشف عن هذه الفيروسات في قسم مخصص معروف بـ ( مركز الأمن الحيوي مضروب أربع مرات ) ( BIO - SAFTEY LEVEL 4 - BL ) حيث يقوم قسم يسمى بالكابينة الزرقاء ( BLUE SUIT ) ذات جدران رهيبة من الخرسانات المسلحة عديمة النوافذ، تحرس على مدارس الساعة برجال أشداء غلاظ، مستعدين للتدخل السريع وبالقوة المسلحة إذا تطلب الأمر عند الشعور بخطر التسرب لهذا المركز دخولاً وخروجاً. ولا غرابة لأن بضعة أطنان من السلاح البيولوجي كافية لإنهاء الجنس البشري فهو أخطر من السلاح النووي.

دخل الدكتور بيترز فلقّن كلمة السر المكونة من كلمتين فانفتح الباب إلى غرفة نزع الملابس حيث استبدل بملابسه ملابس معقمة كتيمة، واعتلت رأسه خوذة زجاجية شفافة، ثم أقحم يديه في ثلاث قفازات معقمة فوق بعضها البعض استعداداً لدخول الحجرة الزرقاء. في داخل الغرفة امتدت خراطيم الأكسجين المعلقة إلى السقف. ويتم شفط وتجفيف الجسم بشكل دوري، بعد أن زُود اللباس ببطارية لذلك، وتخضع الغرفة كلها لضغط سلبي حتى لا يفلت ولو بطريق الخطأ أي فيروس أثناء فتح الأبواب. ثم بدأ الدكتور بيترز يخرج ( الجني من القمقم) حيث كان قد أودع الفيروس في قوارير مبردة بالنشادر السائل، وللكشف عن الفيروس هناك طريقان: فأما الطريق الأسرع فهو اختبار ( إيلايسا - ELISA ) حيث يتم تتبع آثار أقدام غوريلا الغابة أو جني سندباد، وهي الطريقة المعروفة باكتشاف ( مضادات الأجسام ) فحيث يمشي المجرم يترك وقع أقدامه، فنأتي نحن الأطباء لنأخذ مقاسات (دعسة القدم) هذه وتحديد صاحبها وأنه مرّ من هنا !! وأما الطريق الثانية فهي المواجهة المباشرة لهذا الفيروس المرعب ولكن وهو مشدود بالسلاسل تحت سيل التيار الإلكتروني في المجهر المكبر ما يزيد عن مائة ألف مرة.

كانت الإجابة واضحة وسريعة فـ( 14 ) عينة من أصل 16 حملت الخبر اليقين عن فيروس الغابة أنه قام بهجمة جديدة بعد أن غفا ونام لمدة خمسة عشر عاماً، وظن الناس أنه كان وحشاً تائها ضمن الغابة ض سبيله ثم عاد إلى مثواه، ولكن يبدو أن هناك من أقض مضجعة، وعكّر غفوته، أو أنه جاع فقام يطلب الافتراس من جديد. وهكذا قفز الآلاف من الكيلومترات من جنوب السودان، من مدينة الناصر والماريدي ليضرب ضربته أولاً في مدينة ( يامبوكو) ثم ليزحف مقترباً من العاصمة الزائيرية في مدينة ( كيكويت) شرق العاصمة كينشاسا بمسافة 400 كم.

واقعة مرعبة لسطو جرثومي

في الثامن من أغسطس عام 1967 م تقدم المخبري ( كلاوس. ف) - الذي يعمل في معامل البيولوجيا لاستخراج اللقاحات في مصانع ( بهرنجر) في مدينة ماربورغ الألمانية- بطلب إجازة قصيرة بسبب صداع لم يستطع معه متابعة العناية بقرود المخبر، التي كان ينشر جماجمها بعد موتها لاستخراج الدماغ وزراعة خلايا الكلية من أجل تحضير أمصال اللقاحات لشلل الأطفال والحصبة، ولكن كلاوس المذكور لم يعد مطلقاً لمكان عمله وتم توديعه إلى مثواه الأخير بعد 15 يوماً، وحين تم الكشف عن القرد الذي كان يعمل عليه وهو من نوع قرود البحر الخضراء، والتي تجلب في العادة من أوغندا، تبين أن دمها غاطس في مليارات المليارات من الفيروسات المرعبة التي هي من فصائل الإيبولا، وأصيب مركز البحث العلمي في ماربورغ بالرعب في عدة مستوياتن وشكر المصادفة الجميلة التي راح ضحيتها أحد المخبرين والتي تولاها لربما تم نشر اللقاح إلى ملايين الأطفال في العالم ومعه السم الزعاف محمولا على ظهر فيروسات القتل، وبذلك تبرز فكرة في منتهى الخطورة عن عدة إمكانات لقتل شعوب بأكملها، من خلال قتل أطفالها بخطأ أحمق من هذا الحجم، وإذا كانت هذه الفيروسات تظهر على السطح بسرعة، فإن فيروس الإيدز يعس لفترة طويلة بحيث يكون العالم قد وقع في كارثة جمعية رهيبة قبل أن يستطيع أن يفعل لها أي شيء!! ولنتخيل حدوث شيء من هذا القبيل في الستينيات من هذا القرن قبل كشف اللثام عن كل تحدي الإيدز، وهذا كله يوحي بمدى التحديات والمطبات التي تواجه الجنس البشري.

وفي نوفمبر من عام 1989م حصلت واقعة جديرة بإثارة الخيال العلمي، هذه المرة في الولايات المتحدة الأمريكية، عندما لاحظ تاجر للقرود يأتي بها من الفلبين في مدينة ريستون ( RESTON ) وهي ضاحية للعاصمة واشنطن، بأنها بدأت تمرض وتنزف، وكان انتقال المرض من قفص لآخر ليس عن طريق التلامس المباشر أو المفرزات أو الدم، بل عن طريق الهواء، والأنكى من ذلك أن العمال المعتنين بالقرود ظهرت عندهم مضادات الأجسام في اختبارات الدم، مما يوحي بانتقال الفيروس إليهم دون مظاهر سريرية. إن العلماء يحبسون أنفاسهم عندما يتصورون أن فيروس الإيدز أو الإيبولا بدأ يغير طبيعته، فبدأ ينتقل عن طريق الهواء بالسعال والرذاذ والتنفس والعطاس، عندها لن يبقى مكان واحد على وجه البسيطة.

 

خالص جلبي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




صورة مكبرة للفيروس القاتل إيبولا





برغم الجهود المضنية للعلماء فما زال الفيروس الدموي لغزاً محيراً





في مستشفى كيكويت بزائير تنتظر تشخيص الموض





تابوت يضم جثمان إحدى الممرضات الإيطاليات الست اللاتي قضين نحبهن في الوباء بزائير