بصمة الجينات والطب الشرعي وجدي عبدالفتاح سواحل

بصمة الجينات والطب الشرعي

مما لأشك فيه أن العلم يتقدم تقدما مذهلا في السنوات الحالية، حتى يمكن أن يقال إنه تقدم في ربع القرن الحالي بما يعادل تقدم البشرية في كل تاريخها الطويل. وفي مجال الوراثة تقدم هذا العلم تقدما يثير الإعجاب، وتبنى عليه الآمال الكثيرة في مستقبل الإنسان، إنه عالم قريب من عالم الأسرار والألغاز، والإبحار فيه كالإبحار في حيط بالغ الاتساع.

الوراثة - كما عرفها ستيفر جونز - كاللغة، كيان - من المعلومات ينتقل عبر الأجيال، لها مفرداتها (الجينات نفسها)، ولها أجروميتها (الطريقة التي تنظم بها المعلومات الوراثية)، ولها أدبياتها (آلاف التعليمات اللازمة؛ كي يصبح بشرا).

وبينما لا تزال البشرية في حالة من الدهشة والانبهـار مما آلت إليه نتائج تكنولوجيا تطويع الجينات، فاجأنا العالم الإنجليزي أليك جيفرس باكتشافه بعض طلاسم الجينات، ليعرفنا من أنا ومن أنت ومن هم الآخرون ؟ بما نحمله من جينات، أو بمعنى أدق بصمة الجينات. فما هي بصمة الجينات ؟ وما هي القضايا التي تستطيع حسمها، وعجزت الوسائل التقليدية للطب الشرعي عن أن تجد لها حلا؟.

ومن المعروف أن الجينات التي تنقل الرسالة الوراثية من جيل لأخر، وتوجه نشاط كل خلية حية هي عبارة عن جزيئات عملاقة تكون ما يشبه الخيوط الرفيعة المجدولة تسمى الحامض النووي الريبوزي المختزل ( NA )، وتحتوي هذه الرسالة الوراثية على كل الصفات الوراثية بداية من لون العينين حتى أدق التركيبات الموجودة بالجسم، وتترتب الجينات في خلايا الإنسان على 23 زوجا من الكروموسومات في نواة الخلية، والكروموسومات مركبة من الحامض النووي وبروتينات، وهذه البروتينات تلعب دوراً مهماً في المحافظة على هيكل المادة الوراثية، وتنظيم نشاط تعبير الجينات الذي يؤدي إلى تكشف وتكوين الفرد الكامل من خلية الزيجوت، وتوجد بعض الجينات في الميتوكوندريا، وتورث عن طريق الأم، وتكمن المعلومات الوراثية لأي خلية في تتابع الشفرة الوراثية (تتابع القواعد النيتروجينية الأربع التي وهبها الله للحياة، وهي الادينين والجوانين والسيتوزين والثايمين) التي تكون المادة الوراثية في صورة كلمات وجمل تقوم بتخزين المعلومات الوراثية في لوح محفوظ مسئول عن حياة الفرد.

حديثا تمكن أليك جيفرس في جامعة لستر بالمملكة المتحدة من اكتشاف اختلافات في تتابع الشفرة الوراثية في منطقة الانترون ( Intron ) متمثلة في الطول والموقع. وقد وجد أن هذه الاختلافات ينفرد بها كل شخص تماما مثل بصمة الأصبع - لذلك أطلق عليها بصمة الجينات - باستثناء نوع نادر من التوائم المماثلة الناشئة عن انقسام، بويضة مخصبة واحدة، وبحساب نسبة التمييز بين الأشخاص باستخدام بصمة الجينات وجد أن هذه النسبة تصل إلى حوالي 1: 300 مليون أي أن من بين 300 مليون شخص يوجد شخص واحد فقط يحمل نفسه بصمة الجينات. وقد وجد أيضا أن بصمة الجينات تورث طبقا لقوانين مندل الوراثية.

المقصود ببصمة الجينات

اختلافات في التركيب الوراثي لمنطقة الانترون ينفرد بها كل شخص تماما وتورث. أي أن الطفل يحصل على نصف هذه الاختلافات من الأم وعلى النصف الآخر من الأب، ليكون مزيجا وراثيا جديداً منفرداً يجمع بين خصائص الوالدين، وخصائص مستودع وراثي متسع من قدامى الأسلاف. ولقد وجد أيضا أن بصمة الجينات تختلف باختلاف الأنماط الجغرافية للجينات في شعوب العالم. فعلى سبيل المثال يختلف الآسيويون في (الجنس الأصفر أو المغولي) عن الأفارقة.

تعيين بصمة الجينات

كل ما هو مطلوب لتعيين بصمة الجينات هو عينة صغيرة من الأنسجة التي يمكن استخلاص الحامض النووي الرييوزى المختزل ( DNA ) منها. فعلى سبيل المثال:

* عينة من الدم في حالة إثبات بنوة.

* عينة من الحيوان المنوي في حالة اغتصاب.

* قطعة جلد من تحت الأظافر أو شعيرات من الجسم بجذورها في حالة وفاة بعد مقاومة المعتدي.

* دم أو سائل منوي مجمد أو جاف موجود على مسرح الجريمة.

* عينة من اللعاب.

بعد استخلاص المادة الوراثية، يتم تقطيعها باستخدام أنزيمات التحديد Restriction enzymes ثم تفصل باستخدام جهاز الفصل الكهربائي Electrophoresis ثم تنقل إلى غشاء نايلون، ثم باستخدام، مسابر خاصة Probes يتم تعيين بصمة الجينات على فيلم أشعه.

دليل جنائي

على الرغم من مرور وقت قصير على اكتشاف بصمة الجينات إلا أنها استطاعت عمل تحول سريع من البحث الأكاديمي إلى العلم التطبيقي الذي يستخدم حول العالم، وخصوصا في الحالات التي عجزت وسائل الطب الشرعي التقليدية عن أن تجد لها حلا مثل قضايا إثبات البنوة، والاغتصاب، وجرائم السطو، والتعرف على ضحايا الكوارث.

قضايا إثبات البنوة مشكلة اجتماعية خطيرة تشغل اهتمام كثير من العلماء في جميع أنحاء العالم، فضلا عن أنها مشكلة قضائية تستغرق سنوات طويلة أمام المحاكم، ويخطئ من يظن أن عملية الحسم في هذه القضايا تتم بسهولة بمجرد عمل تحليل طبي. فهناك فحوص، وكشوفات طويلة تجرى على ثلاثة أطراف الأب والأم والطفل، للتأكد من قدرة كل من الزوج والزوجة على الإنجاب خلال فترة إنجاب الطفل، أو ادعاء الحمل فيه، وكذلك شخصية وعمر الطفل. بعد ذلك يأتي دور التحليل الطبية، وتشمل فصائل الدم الرئيسية والفرعية، وهي ما يطلق عليها.H.L.A أي فحوصات على مكونات الدم، ولكن هذه التحاليل لا تعطي أكثر من 40% فقط، وهي نسبة تثير الشك أكثر من اليقين في مسائل إثبات البنوة.

وحيث إن نسبة النجاح التي تقدمها بصمة الجينات تصل إلى حوالي 96 % فإن ذلك شجع الدول المتقدمة مثل أمريكا وبريطانيا على استخدامها دليلا جنائيا. بل إن هناك اتجاها لحفظ بصمة الجينات للمواطنين مع بصمة الأصبع لدى الهيئات القانونية. وقد تم الحسم في كثير من القضايا بناء على استخدام بصمة الجينات كدليل جنائي.

فعلى سبيل المثال:

* في أمريكا عام 1988 تم الحكم على راندل جونز بعقوبة الموت، لاتهامه باغتصاب وقتل امرأة من ولاية فلوريدا.

* تمكن العلماء الأمريكان من التعرف على خمسة أشخاص تم قتلهم منذ 11 عاما باستخدام جينات الميتوكوندريا المعزولة من الهياكل العظمية المأخوذة من مقبرة جماعية في جواتيمالا.

* الحكم على مواطن بريطاني بالسجن لمدة 8 سنوات، لاتهامه بالسرقة، والاغتصاب.

* الحكم على مواطن بريطاني بالسجن لمدة 13 عاما لاتهامه بسرقة بنك.الجدير بالذكر أنه تم عمل بصمة جينات للسارق من لعابه الموجود على شاشة الأمن.

* عام 1985 في المملكة المتحدة تمكن أحد العلماء من إثبات ادعاء طفل من غينيا أنه بريطاني الجنسية. هذه القضية برزت دور بصمة الجينات في حل مشاكل الهجرة.

وإنه لبحر زاخر، علم الوراثة، قطعت البشرية فيه الكثير من مسافات ومساحات معروفة، ولا يزال أمامها الأكثر.. فالمعرفة لا تنتهي، كأنها بحر بلا ضفاف.

 

وجدي عبدالفتاح سواحل

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الكروموسومات أحد حاملات الجينات داخل الخلية





خلايا بداخلها النواة





تتابع الشفرة الوراثية