"النظام العالمي الجديد" سمات المرحلة الراهنة محمد دياب

"النظام العالمي الجديد" سمات المرحلة الراهنة

ما هي حقيقة هذا "النظام العالمي الجديد"؟ وهل أن العالم أصبح يعيش حقا في كنف قوة عظمى هي الأقوى عسكريا وسيـاسيا واقتصاديا؟ وهل أن التنـاقضات والصراعات داخل العالم الرأسمالي المتطور انتهت، أو حتي جمدت، وأسلست جميع الأطراف القياد لهذه القوة؟

ليس ثمـة شك في أن وضعاً نوعياً جـديداً في العالم قـد نشأ بعد زوال المعسكـر الاشتراكي، ومهما تكن التسميات فإن العـالم في العقد الأخـير من القرن العشرين يختلف كليـا عما كـان عليه خـلال الفترة الممتدة من الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية الثمانينيات، فهو يمر اليـوم بمرحلة تتسم بعـدم الاستقرار وبمحاولات ترتيب أوضاع البيت الدولي على أسس تأخذ في الحسبـان المتغيرات التي شهدها، وموازين القـوى الجديـدة التي نجمت عنها، إنها مرحلـة ذات طابع انتقالي، لم تكتمل فيها بعـد معالم النظام الدولي الذي دخل طورا من التغير والتحول، وسوف تحدد نتائج هذه المرحلة مصير الشعوب والـدول لسنـوات طـوال. ومن أبرز سمات هذه المرحلـة غياب القـوة العظمى الثانية في الشرق، ممـا خلق انطباعا بأن العالم الأحادي القطب قد قام فعلا، فهل هذا هـو الواقع؟. نحن نزعم أن الـوقـائع والتطـورات الجارية في العـالم اليـوم تشير إلى احتمال قيام نظام بثلاثة أقطاب (اقتصاديـة) وربـما أكثر دون أن نفكر بـالطبع أن الولايات المتحدة الأمريكية هي القوة العسكـرية والسياسية الأقـوى في عالم اليـوم، وسوف نحـاول إثبات رأينا هذا من خـلال تتبع سمات المرحلة الراهنة ورصد احتمالات تطورهـا، لاسيما في المجال الاقتصادي الـذي سيحظى بالقسم الأساسي من دراستنا.

سمات المرحلة

إن "النظـام العالمي الجديـد" لا يـزال في طـور التكـون، بيد أن المرحلة الجديدة، الانتقالية، تتسم بسمات مميزة ستكون - أو بعضها على الأقل - سمات لهذا النظام الجديد، وأبرزها

1 - في المجال السياسي: - غيـاب القوة العظمى الشرقية وزوال معسكـرها واتجاه الدول التي كانت تتألف منها، وفي مقدمتها روسيـا للالتحاق بالغرب سياسياً واقتصادياً وحتى عسكريا.

- سعي الـولايات المتحدة إلى التفرد بقيادة "النظام العالمي الجديد" ومحاولاتها استغلال نفوذها السياسي وتفوقها العسكـري المطلق لانتزاع اعتراف الآخرين بهذه القيادة.

- تراجـع دور الأمم المتحـدة الفعلي، وتحولها إلى مظلة تعمل الولايـات المتحدة تحتها بـاسم القانون والشرعية الدولية.

- ظهور ألمانيا كدولة موحدة قوية اقتصاديا تسعى إلى الاضطلاع بدور سياسي في أوربـا والعالم يتناسب مع وزنها.

- الاتجاه لعزل ومحاصرة بعض البلدان التي تنتهج سياسة لا تتلاءم مع المتغيرات الدولية.

- العمـل على إزالـة بؤر التوتر وحل النزاعات الإقليميـة المستعصية سـواء في الشرق الأوسط أو إفريقيا أو جنوب شرق آسيا، وغيرها.

2 - في المجال الأمني والعسكري:
- زوال حلـف وارسـو واسـتمرار حلف شمالي الأطلسي كتكتل عسكري وحيد، رغـم أنه إحدى ثمار الحرب الباردة وكـان من المفترض زوالـه بزوالها، وأخيرا الاتجاه لكـي يشمل دول أوربـا الشرقية في إطار ما سمي مبدأ "الشراكة من أجل السلام" وفي الوقت نفسه سعي أوربا الغربيـة لتطـوير هويـة عسكريـة وسياسية جـديدة تتماشى وظروف ومتطلبات قيـام "الاتحاد الأوربي".

- تـراجع دور الأسلحة النووية التي بات احتمال استخـدامهـا شبه معـدوم، واكتسـاب الأسلحـة التقليدية "المتطورة" زخما جديدا، فالأسلحة النووية ظهرت مع بـداية الحرب البـاردة، أو بالأحرى أخذ الصراع بين المعسكـرين المتنافسين آنـذاك شكل الحرب الباردة نتيجـة ظهـور الأسلحـة النـووية، وأخذت أهميتها تتضاءل مع انتهاء هذه الحرب ولا يقلل من أهمية هذا الاستنتاج استمرار سعي عدد من الدول - بينها دول نامية - إلى اقتناء الأسلحة النووية.

- تزايد احتمالات نشوب حروب محلية وإقليمية تستخدم فيها أسلحة تقليـدية بـالغة التطور، تتخذ منحى تدميريا شديدا، ولكن على نطاق محصـور جغرافيا، وكانت الأسلحة التي استخدمت في حرب الخليج نموذجا لهذه الأسلحة "الذكية".

- تعـزز اتجاه التدخل العسكـري المباشر لـوقف النزاعات والحروب المحليـة والإقليمية سواء تحت راية الأمـم المتحدة أو قوات متعددة الجنسيـة بقيادة الولايات المتحـدة نفسها، واعتماد سيـاسـة فـرض العقـوبـات والمقـاطعـة والحصـار العسكـري والاقتصادي للبلد المعتـدي أو المسئول عن انـدلاع حـروب من هذا النوع، مع مـا ينجم عن ذلك من تعديل في مفهوم السيادة المطلقة.

تكتلات اقتصادية وصراعات

3 - في المجـال الاقتصـادي: يعكس الميـدان الاقتصادي أبرز سمات "النظام العالمي الجديد" أي تعدديـة الأقطاب الاقتصاديـة، ويتجلى ذلك في الحقائق والتطورات والاحتمالات التالية:

- بروز وتعزز دور التكتلات الاقتصادية الإقليمية إذ يسعى كل قطب من الأقطاب الثلاثة في الاقتصاد الرأسمالي العالمي (الولايات المتحدة أوربا الغربية، واليابان) إلى إحاطة نفسـه بمجموعة من الدول التي تشكل المدى الإقليمي الاقتصادي الذي يستطيع من خلالـه منافسة القطبين الآخرين، إن وجود أقطاب وتكتلات متصـارعة داخل الاقتصـاد الرأسمالي ليس بحد ذاتـه ظاهرة جـديدة، بيد أن الجديد هو الاتجاه لإضفاء طابع تكـاملي شـامل على العلاقـات بين أعضاء التكتل، والوصول بـالعملية التكامليـة إلى مـرحلة متقدمة، كـما هـو الأمر بالنسبة للاتحاد الأوربي، وقـد كانت التناقضات والصراعات التي وصلت أحيانا إلى حد "الحروب التجارية" وفرض العقوبات الاقتصاديـة على المنافسين سمـة مميزة للعلاقات بين الأقطاب الثلاثة، ومع أن ظروف الصراع مع المعسكر الاشتراكي في الماضي طغت على هذه الصراعات داخل المعسكـر الرأسمالي وخففت من حدتها، فإن التنافس بين هذه الأقطاب ظل قائـما، وكان يأخذ أشكالاً مختلفة تبعا للظروف والأوضاع وموازين القوى على الصعيـد العالمي، ومع تفكك الاتحاد السـوفييتي وزوال المعسكـر المعادي عادت هـذه الصراعات إلى السطح بقـوة، وتجلى ذلك في الحدة التي رافقت مفاوضات "جـولة الأوروغواي" للاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية والتجارة (غات)، التي اكتنفتها اتهامات متبادلة وتهديدات بعقـوبات اقتصاديـة بين مجموعات الدول الصنـاعية الكبرى، قبل أن تتوصل إلى اتفاقية مراكش للتجارة الحرة التي أسفرت عن إنشاء المنظمة العالمية للتجارة.

وهكذا، فنحن أمام ثلاثة تكتلات اقتصادية دولية قائمة فعلا، تسعى إلى اقتسام العالم اقتصاديا.

التكتل الأول هو اتفـاقية التجارة الحرة في أمريكا الشمالية (نـافتا) بزعامة الولايات المتحدة وعضوية كل من كنـدا والمكسيـك، والتي مـن المحتمل أن يشمل مجالها الاقتصادي بلـدان الأمريكتين بحيث تنشأ شبكة معقدة من الاتفاقـات التجارية التفضيلية تغطي هذه البلدان وتؤمن للولايات المتحـدة سوقا واسعة.

التكتل الثـاني هو الاتحاد الأوربي الذي سيجعل من المجموعة الأوربيـة في حـال اكتمال خطواتـه التنظيمية قوة اقتصادية جبارة وسيمكنها من اتباع سيـاسة خـارجية أوربيـة فيها مقـدار أكـبر من الاستقلالية عن الولايات المتحدة، وقد قطع الاتحاد الأوربي معظم المراحل التمهيدية لقيامه، برغـم ما يكتنف مسيرتـه من خـلافـات وتناقضـات بين أعضائه، ولكن تجدر الإشـارة إلى أن مستقبل هذا التكتل سيبقى إلى حـد كبير رهنا بـالـدور الألماني وبالمنحى الذي سيأخذه هذا الدور، فألمانيا الصاعدة اقتصاديا وسياسيا تثير قلق الكثيرين من جيرانها وحلفـائها، فهي بعد انتهائها من تسديد الفواتير الداخلية والخارجية للوحدة المكلفة جدا، لن تكتفي بالدور المحـدود الذي رسم لها حتى الآن، وستعمل على كسر الأطر التي قيدت حـركتها، وتزعم التكتل الأوربي اقتصاديا وسياسيا وربما عسكريا.

أما التكتل الثالث فهو الذي تسعى اليابان إلى إقامته في آسيا، فاليابـان التي اكتفت حتى الآن بدور القزم السياسي والعسكـري على الرغم من تحولها إلى عملاق اقتصادي لم تعد ترضى بهذا الدور بعـد المتغيرات على الصعيد العالمي.

وتراها تتجه الآن إلى إقامة سوق آسيوية تشكل المدى الإقليمي الـذي يمكن أن تـوظـف فيـه نجـاحهـا الاقتصادي، وتستطيع من خلاله ممارسة دور سياسي أكبر يتلاءم مع وزنها الاقتصادي وطموحـاتها، ولسوف يدور صراع وتنافس شديـدان بين هذه التكتلات الثلاثة على منـاطق النفوذ في العالم، ولا نميل إلى التفاؤل كثيرا من إنشاء المنظمة العالمية للتجارة، التي ستكـون مهمتها تنظيم وضبط التبادل التجاري بـين الدول الموقعة عليها، وفق مبادئ وأسس تلبي بالدرجـة الأولى مصالح الأطراف الأقوى على حساب الضعفاء.

فـالمصالح الاقتصادية هي المعيار الحقيقي في أي اتفاق، وميزان القوى هو الذي يفرض غلبة هذه المصالح أو تلك، فهل سيمنع قيام المنظمة الجديدة الولايات المتحدة من استخـدام سلاحها الاقتصادي المسمى "سوبر 301" لفرض عقوبـات على الدول التي تزعجها بعدم فتح أسـواقهـا أمام البضائع الأمريكية، حتى ولو كـان ذلك يضر بمصالـح هذه الدول؟ لا، بالطبع وهذا ما لم ينفه الأمريكيون حين أكـدوا أن "المادة 301" ستبقى قـائمـة وفاعلـة بعد توقيع اتفاقية الـ "غات" الجديدة.

بروز الصين

- بروز الصين كقوة اقتصاديـة يحسب لها ألف حساب مع استمرار انطلاقتهـا الاقتصادية الناجحة، ومن المحتمل أن تتحـول إلى منـافس جـدي وخطير لليابـان على زعامة التكتل الآسيوي، لاسيما مع قيام الصين الكـبرى بعد عودة هونغ كونغ إلى كنف البلد الأم في أواخر القرن واحتمال قيام تكـامل اقتصادي (على الأقل) بينهـا وبين تـايوان، وسيـزداد حجم الصين وتأثيرها في حـال نجاحهـا في إقامة علاقات مميزة (سياسية واقتصادية) مع روسيـا والدول التي كان يتألف منها الاتحاد السوفييتي السابق.

ولكن وصـول الصين إلى هـذا المستـوى وهـذا الدور لاتزال دونه عقبـات كثيرة، أهمها وأخطرها التنـاقض الجذري القـائم بين النهج الاقتصـادي الانفتاحي والليبرالي الذي تسير عليه، والنظام السياسي القـائم نظام الحزب الواحـد، أي بين الديمقراطية الاقتصادية والتوليتارية السياسية، وعلى كيفية حل هذه الإشكالية سيتوقف مدى قدرة الصين على دخول حلبة الصراع الاقتصادي العالمي كمنافس فاعل.

- استمرار انكفاء روسيا اقتصاديا لفترة من الزمن لن تطول كثيرا، فروسيا ستسعى إلى إعادة جمع معظم الجمهوريات السوفييتية السابقة ضمن تكتل أو اتحاد اقتصادي يمكنها من مواجهة تحديات المرحلـة المقبلة، ونشير في هذا السياق إلى تعمق انقسام العالم إلى شمال وجنوب، وإلى اتساع نطاق "الجنوب " بانضمام عدد من البلـدان التي كـانت في السـابق جـزءاً من الاتحاد السوفييتي، إلى صفوف البلدان الفقيرة والمتخلفة.

- أما بالنسبة إلى البلدان النامية فإن الجهود لإقامة أسواق مشتركـة أو تجمعات اقتصاديـة إقليمية لن تجد، على الأرجح، طريقها إلى التطبيق إلا في حالات محدودة جـداً، ولن تكـون هذه التجمعـات في حـال قيامها ذات قدرة تنافسية فاعلة، ولكن هذه البلدان ستبقى ميدانـاً للتنـافـس بين التكتلات الرئيسيـة المذكورة، بيد أن سمـة المرحلة الجديـدة ستتمثل في سعي البلدان المتطورة إلى تفادي إبقاء معظم البلدان الناميـة في حـال من التخلف العميق الـذي يعيق انخراطها النشط في الاقتصاد العالمي.

خلاصة القول إن العالم يمر اليوم بمرحلة انتقالية يصعب التنبؤ بطولها أو قصرها ولكن الـواضح أن النظرة إلى "النظام العـالمي الجديد" بـوصفـه نظام القطب الواحـد تتسم بقـدر كبير من التبسيط، فإذا كـان هذا الوصف صحيحـا، مع بعض التحفظ في المجـال السيـاسي، فإن "النظـام العالمي الجديـد" سيعكس في المجـال الاقتصادي تعـدديـة الأبعاد والأقطاب وصراع التكتلات الإقليمية، وسيلعب العـامل الاقتصادي الـدور الحاسم في رجحان كفـة هذا القطب أو ذاك في هذه المرحلة أو تلك.

العرب.. أين هم؟!

نتسـاءل أخيرا أين هم العرب مما يشـهده العالم من تطورات ومتغـيرات؟ وكيف يعـدون العدة لمواجهة ما يطرح من مشاريع وخطط لإقـامة سوق إقليمية شرق أوسطيـة تضم دولا ذات بنى اقتصـاديـة أكثر تطورا وعصرية كإسرائيل وتركيـا على سبيل المثال؟ المؤسف أنهم يستعدون لدخول الحقبة الجديدة من التطور العالمي وهم أكثر تشتتا وتمزقا، وأبعد ما يكونون حتى عن أدنى درجات التعاون الاقتصادي والتحصين الذاتي.

إن السمـة الأساسية للنظـام العالمي الجديـد في المجـال الاقتصادي هي كـما رأينا في قيام التكتلات والتحالفات الاقتصادية، ومعظم الدول تسعى إلى الانتظام في تجمعات إقليمية وإقامة أسواق كبيرة، أما من سيبقى خارج هذه التجمعات فلن يكـون قادرا على الصمود في خضم المنافسة الدولية المتعاظمة، لذا فإن مسألـة التكـامل الاقتصـادي وإزالة القيـود والحواجز وفتح الأسـواق بين البلدان العربية غدت قضية حيوية تفرضها المتغيرات الدولية ومتطلبات المصالح الوطنية والحقائق الجيوسيـاسية أكثر منها مجرد قضية قومية عاطفية.

 

محمد دياب

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات