أصوات الأسماك في السلم والحرب أديب زيني

أصوات الأسماك في السلم والحرب

ظهرت فكرة دراسة الضجيج تحت الماء والدور الإيجابي لعلم الأصوات المائي Hydroakustiosفي مجال الاستخبارات العسكرية منذ خمسة قرون، وتبين أن العبقري الإيطالي ليوناردو دافنشي كان أول من وضع أسس هذا النوع من العلوم، وتم على يده تجريب سماع الضجة الناتجة عن حركة السفن في الماء لأول مرة، وذلك للكشف عن الأصوات الصادرة عن سفن الأعداء، فإلى أين وصل هذا العلم؟.

لم يكن علم الأصوات المائي حتى بداية الحرب العالمية الثانية متطوراً، وقد ظهرت أهميته أثناء الحرب لمعرفة طبيعة الأصوات الصادرة في الماء وتميزها وكان من الصعوبة بمكان تحديدها من خلال أجهزة التصنت المائي، وأحياناً كان يحصل خطأ في تفسير الأصوات الصادرة عن أسراب الأسماك واعتبارها صادرة عن محركات الغواصات وبالتالي بث إنذار الخطر على الرغم من عدم الحاجة إليه وهو ما يكلف أموالا كثيرة وجهوداً كبيرة، وقد لوحظ أن أكثر الحالات حصلت في أوقات الغروب زمن انتقال الأسماك من المناطق العميقة باتجاه الشواطئ مصدرة أصواتاً قوية، لدرجة أنها أصخب من الضجيج الصادر عن محركات السفن ولم يكن أحد يستطيع الشك في أن هذا الرعد والصرير يمكن أن تصدره الأسماك لذلك كان علماء الأصوات على يقين من أن الذي أمامهم ما هو إلا عدو يجب التحضير له.

والحادثة التي أثارت ضجة كبيرة حصلت في خليج تشيزا ابيسك ( على الشواطئ الأمريكية) ربيع عام 1942، حيث إن هيئة الاستخبارات الصوتية المائية اكتشفت ضجة صاخبة لا يمكن أن تصدر إلا عن محركات عدد كبير من الغواصات، ولذلك وعلى وجه السرعة تم إعطاء التعليمات والتوجيهات للاستعداد لمعركة محتملة، فخرجت الغواصات الحربية إلى عرض البحر، ولكن بعد البحث المستمر لم يتم العثور على أية غواصة معادية فالإشارات كانت كاذبة.

علم الأصوات المائي

لم يستطع علم الأصوات المائي في أغلب الأحيان تفسير هذه الإشارات الكاذبة، وبالتالي نشأت قصص خيالية حول قدرة اليابانيين على تجهيز محركات سفنهم الحربية بحيث تصدر أصواتا مشابهة للأصوات الصادرة عن أسراب سمك ميتشمان القاطنة قرب الشواطئ الأمريكية والتي بعد وضع بيضها ( ربيعاً)- في المناطق تحت الشاطئية - تقوم الذكور بحراسة هذا البيض مصدرة صوتاً طنينياً لإبعاد الأعداء عنها.

كما أن السمكة الضفدع، تصدر أصواتاً مشابهة لزمجرة وهدير السفن العابرة بشكل متناوب من 2 إلى 3 مرات في الدقيقة. ويخيل للإنسان أن هناك باخرة تطلب الإغاثة، وهذه الأصوات قوية تفوق بقوتها صوت قطار عابر وسريع، ولقد اظهر القياس أن قوة "الصراخ السمكي" تفوق الـ100 ديسيبل، وتصل إلى درجة مؤلمة للإنسان عند سماعه تلك الأصوات. يتم تكاثر الأسماك الضفدعية في النصف الأول من الصيف فتضع الإناث بيضها تحت الصخور أو في الحفر الصغيرة، بينما تقوم الذكور بحراستها مدة ثلاثة أسابيع حتى خروج اليرقات مصدرة خلال هذه الفترة صفيراً وزمجرة، وهذا الصوت. بمثابة إنذار مخيف يؤكد أن المنطقة محمية وممنوع الاقتراب منها، واستطاعت مثل هذه التظاهرات الصادرة عن الأسماك والمضخمة في أجهزة التصنت المائية أن تشيع الذعر والرهبة حتى عند الاستخبارات البحرية.

ولم يستطيع العلماء خلال سنوات الحرب تفسير كل حالات الإنذار الكاذبة، لكنهم تمكنوا من القاء القبض على أحد الأنواع السمكية ويدعى السمك الأحدب المتموج متلبساً بجريمته وهي نشر الذعر على شواطئ أمريكا. ولهذه الأسماك التابعة لفصيلة Sciaeni-dae حجم كبير مع ظهر أحدب ( من هنا جاءت التسمية) وهي تضم ما يقارب 150 نوعاً، تقطن المناطق تحت الشاطئية من البحار الاستوائية وشبه الاستوائية، وتسكن بشكل أسراب إلى جانب الجروف والتجمعات الصخرية، وتخرج وقت الغروب من مخابئها النهارية صاعدة نحو الخلجان ومصاب الأنهار، وعند تحركها أسراباً تصدر ضجيجاً مدوياً خاصة عند اقترابها من زمن التكاثر. وبهذا الشكل فقد أثارت المشادات الكلامية الغرامية عند الأسماك الحدب بلبلة عند حرس الشواطئ.

إن قوة الصوت عند بعض الأسماك البحرية عالية لدرجة أنها استطاعت تفجير الألغام المائية ( التي تعمل على مبدأ الصوت) والتي كانت منتشرة إبان الحرب العالمية الثانية، هذا ويمكن سماع أصوات الكثير من الأسماك دون اللجوء إلى مكبر للصوت، فقد استطاع الكاتب البولوني الشهير أركادي فيدلر سماع غناء الأسماك في نهر أوكايالي ( وهو فرع من نهر الأمازون) وسجل هذه الظاهرة في كتابه ( الأسماك تغني في أوكايالي). كما دهش الباحث في علم الأصوات البيولوجي النمساوي فريدريك شالير عندما سمع أصواتاً مختلفة وقوية لـ"غناء" الأسماك في نهر الأمازون.

وقد أشار إلى وجود أحد الأنواع السمكية ويدعى سمك القرموط أيضاً في نهر الأمازون ويصل إلى متر واحد طولا، وحوالي مائة كلجم وزناً، وتصدر عنه أصوات بوقية مشابهة لهدير وزمجرة الفيل، ويمكن سماع هذه الأصوات على بعد "100م" ويتم ذلك عن طريق دفع خليط من الماء والهواء من خلال الشقوق الغلصمية التي يطبقها بشدة وتخدم هذه العملية في إبعاد الأعداء.

وتستطيع أفراد أحد الأنواع السمكية الاقتصادية من عائلة Characoidae في نهر الأمازون ويدعي Charaky، أن تصدر أصواتاً قوية بمساعدة الكيس السباحي مماثلة لضجيج الدراجة النارية، ويمكننا أن نتخيل الوضع في نهر الأمازون عند اجتماع مئات من أفراد هذا النوع في فترات وضع البيض والتكاثر وتشغيل دراجاتها النارية. وقد فسر العلماء سبب وفرة الأسماك ( المغنية) على اختلافها في نهر الأمازون وقالوا أن ذلك يرجع إلى تعكر الماء بشكل كبير، وبالتالي يصعب على الأسماك الاعتماد على حاسة البصر فقط في سلوكها الحيوي ولذلك فقد وهبتها الطبيعة القدرة على التخاطب بالصوت.

ومن المعروف أن الصوت ينتشر عبر الماء بسرعة 1440 / ثا أي بـ4.5 مرة أسرع منها في الهواء فالأسماك تستطيع التقاط الموجات الصوتية العادية وتحت الصوتية ( الأصوات التي تقل ذبذباتها عن 20 / ديسيبل / ثا لا تستطيع أذن الإنسان سماعها وتستقبل الذبذبات الصوتية من 5 - 25 هرتز باستخدام الخط الجانبي بينما الذبذبات من 16 - 13000 هرتز فهي تستقبلها عبر الدهليز السمعي أو بالأحرى الجزء السفلي منه ( Sacculus lagena ) وتستطيع بعض أنواع الأسماك التقاط الأصوات العادية وتحت الصوتية بواسطة الخط الجانبي والدهليز السمعي معاً.

وتختلف طبيعة التقاط الذبذبات الصوتية باختلاف الأنواع فالنوع ( Phoxinus Phoxi-nus ) يلتقط الأصوات من 16 - 7000 هرتز أم سمك الدوع الفضي فيلقتط الأصوات من 25 - 3480 هرتز.

أصوات عديدة

تنقسم الأصوات الصادرة عن الأسماك إلى:

1 - بيولوجية: ولها معنى تخصصي " تكيفي" كجذب أفراد الجنس ( ذكوراً أو إناثاً)، إشارات الاحتكاك المتبادل في السرب، إشارات الآباء للأبناء، إشارات الخطر، التهديد، التخاطب...

2 - ميكانيكية: تصدر عن الحركة، التغذية، حفر التربة.. وغير ذلك.

وغالبا ما تصدر الأسماك أصواتها بتواتر وشدة عاليتين وخاصة زمن التكاثر لجذب الجنس الآخر، وهذه الأصوات قوية لدرجة أنها تنبه الصيادين إلى أماكن تكاثرها وتجمعاتها. وتصدر بعض أنواع فصيلة الأسماك الحُدْب أصواتاً خاصة وقت التغذية واحتكاك الأفراد في السرب في منطقة الشاطئ الشرقي الأمريكي وتكون هذه الأصوات عالية وقت الظلام من الساعة الحادية عشرة وحتى الثانية ليلاً.

ويمكن للنوع الواحد من الأسماك أن يصدر أصواتاً مختلفة فمثلاً سمك القوبيون يحزق الذكر بأسنانه وقت التكاثر لجذب الأنثى وعندما تقترب منه يصدر صوتاً نقيقياً، أما عند حماية العش فيزمجر. وتختلف شدة الأصوات وذبذباتها حسب الجنس فذكور الفرخ البحري من فصيلة ( Serranidea ) تصدر أصواتاً أكثر قوة وذات موجات صوتية أطول.

ومن اللافت للنظر أن بعض الأسماك تستطيع أن تقرق كالدجاجة أمثال دجاجة البحر، أو أن تنبح كالكلاب مثل سمكة الستافريدا وبعضها الآخر يصدر أصواتاً مشابهة لايقاع الطبل كسمكة الطبل. أما سمكة Urophycis Chesteri فهي تقرقر وتصدر أصواتاً مشابهة لأزيز الخنزير.

وقد درس العلماء الروس معاني التخاطب الصوتي المختلفة عند الأسماك البحرية وأسماك المياه العذبة وأعطوا بعض المقترحات العملية لاستخداماتها. قسم الباحث V.R.Protasov الأصوات العدوانية الصادرة عن الأسماك إلى:

- تهديد ( يصدر من قبل القوي تجاه الضعيف).

- تنبيه ( يصدر من قبل الضعيف تجاه القوي).

- نداء قتالي ( يصدر وقت القتال).

واكتشف أيضاً مؤشر الخطورة عند الأسماك. وما الأصوات المتعاقبة لدجاجات البحر القارقة ( التي تقرق) سوى وسيلة للهروب من الأعداء، حيث إن الأفراد المتجاورة تنظم إلى الأولى وتصدر الأصوات نفسها ثم تغادر مكان الخطر معاً.

إن مؤشر الخطر عند الفصيلة الكاربية عبارة عن صرصرة أو قرقعة يصدرها الزعيم أو المرشد عند اكتشافه لعدو ما. وذكر العالمان V.R.Protasov و I.D.NIKOLLKY في كتابهما ( أصوات في عالم الصمت) تجربة "تلفون تحت الماء " وقد أثبتا من خلالها أن الأسماك قادرة على التنبيه والتعرف على أصوات أقربائها. ويستطيع أي قارئ إجراء مثل هذه التجربة في الظروف المنزلية ولا يلزم لذلك سوى حوضين زجاجين A وB ، ومسجل مع ميكروفون وسماعة بحيث يجب عزلهما عزلاً تاماً عن طريق تغليفهما بورق نايلون ووصلهما مع المسجّل. يوضع الميكروفون في الحوض A والسماعة في الحوض B ، ثم ننقل أنثى واحدة من سمك.Cichiasom sp من فضيلةCichli-dea إلى كلا الحوضين وبعدها ننقل ذكراً من النوع المذكور نفسه إلى الحوض الأول فقط، فيبدأ الذكر بمهاجمة ومتابعة الأنثى الموجودة في الحوض مصدراً أصواتاً تهديدية وينتقل هذا التهديد عبر المسجل إلى أنثى الحوض الثاني فتبدأ بالحركة وكأنها تعاني من التهديد نفسه الحاصلة لأنثى الحوض الأول وفي حال وضع ذكر في الحوض الثاني بدل الأنثى فلدى سماعة تلك الأصوات الصادرة عن الحوض الأول فإنه يتحسس ويأخذ وضعية قتالية مجهزاً نفسه لمجابهة الخصم (غير الموجود أصلاً في الحوض).

وغالباً ما تصدر الأصوات عن طريق تقلص العضلات الطبلية الواقعة جانب الكيس السباحي حيث تقوم جدرانه بوظيفة هزّاز أما الهواء الداخلي فيقوم بدور رنان.

اكتشف العالم الفرنسي Moro في عام 1864 أنه لدى تنبيهه للعصب المتحكم بعضلات الكيس السباحي عند دجاجة البحر تبدأ هذه السمكة بإطلاق صوت كالزمجرة.

أما سمكة الزنجور وتسمى قرش الماء العذب فهي تصدر صوتاً على شكل صفقة عند الافتراس، كما أن بعض أنواع فصليةLabridae تقطّع الأشنيات عن الصخور كما تتغذى على العوالق القشرية فتصدر صوتاً مشابهاً لطقطقة حوافر الحصان. وتستخدم خاصة التخاطب الصوتي عند الأسماك في عمليات الصيد وفي توجيه سلوكها، ويمكن جذب الأسماك إلى مكان الصيد بتسجيل أصواتها زمن التغذية والتكاثر ثم بثها عبر الماء، فمثلاً يتم صيد سمك القرموط باستخدام غرغرة أو بقبقة حيث ينجذب إلى مكان الصوت. كما يتم تقليد أصوات أحد الجنسين لزيادة كثافة الأسماك في أماكن الصيد عن طريق جذب أفراد الجنس الآخر.

ويمكن التعرف على أماكن تجمعات الأسماك من خلال أصواتها وبفضل هذه الظاهرة استطاع صيادو الأسماك في الصين التعرف إلى أماكن تجمعات سمك الفرخ الأصفر، وبالتالي الاقتراب من المكان وسماع الأصوات عن طريق أنبوب خاص يدخل في الماء، ومن ثم يتم الاصطياد. وتساعد الحفلات الموسيقية التي تقيمها أسماك الطبل البحرية الصيادين على معرفة أماكن تجمعاتها في المحيط الأطلسي.

وتجتمع أفراد سمك الأحدب الفضي، بشكل مجموعات في البحر الأبيض المتوسط ويستيقظ على أنينها هدوء الليل وهذا ما يساعد الصيادين على اللحاق بأسراب هذا النوع واصطيادها.

وعند سماع صوت محرك أو مرساة قارب أثناء إلقائها في الماء في فترة ما قبل التكاثر يقفز سمك السلمون من الماء، كما يلاحظ هذا ( القفز من الماء) عند سمك الكارب الفضي، حيث إنه من خلال مكان الصيد وبالتالي إلقاء الشباك في المكان المناسب، وفي حالات كثيرة عندما يقفز هذا النوع من الماء يقع على ظهر قارب الصيد نفسه، وقد استخدمت هذه الظاهرة أيضاً في اصطياد سمك البوري فالأفراد الخائفة من الصوت تقفز في الماء وتسقط في شبكة نصف دائرية وذات حواف عالية. وتستخدم الأصوات المخيفة في الصيد البحري أيضاً لإرهاب الأسماك العالقة في شباك الطرح الجيبية لمنع هروبها حيث تُبث أصوات بعض الأسماك المفترسة التي تتغذى على هذا النوع قريبا من عنق الشباك. كما تستخدم هذه الأصوات في عمليات منع الأسماك من الاقتراب من التجهيزات المائية كالعنفات وغيرها التي تشكل خطراً على حياتها.

وقد استطاع العلماء السوفييت اختراع إحدى الطرق (تقليد صوت الدلفين عند تناول غذائه) التي أثبتت صحتها العملية في حصر ووقف سمك الرنجة في شباك الطرح، وإغلاق الفوهات والمخارج عند اصطياد سمك السقمبري وسمك السايرا. وتم تصنيع جهاز في اليابان يصدر أصواتاً مشابهة لتلك التي تصدرها بعض الأنواع الاقتصادية، فعند اقتراب سرب من الأسماك من النوع نفسه من مكان إصدار الصوت يبدأ بالتجاوب ويعطي إشارات مشابهة وبهذا الشكل ينبّه الصيادين إلى ظهور هذه الأسراب في المنطقة المعلومة وبالتالي اصطيادها. وعلى المستوى الفردي فقد استطاع أحد الصيادين الهواة صناعة قصبة يدوية بسيطة قادرة على إصدار صوت (ضمن الماء) مشابه لحركات الأجنحة عند الحشرات الهوائية والتي تتغذى عليها بعض الأنواع السمكية مثل Leucisus Cephalus و Salmo sp.

واخيراً نخلص إلى القول إن العالم الموجود تحت الماء ليس صامتاً كما كان يعتقد، بل يعجّ بالأصوات المختلفة التي تؤكد ديناميكية الحياة المستمرة أينما وجدت. وتبلغ الأصوات التي تصدرها الأسماك من الأهمية القدر الكبير، فهي ليست فقط أحد أساليب التخاطب والتفاهم، أو مظهراً من مظاهر السلوك الحيوي بمختلف أشكاله، وإنما لها أهمية اقتصادية (عمليات الصيد)، وأمنية ( الاستخبارات المائية) ويجب ألا ننسى الدور الكبير للأسماك في خدمة الإنسان منذ الأزل وحتى الآن في حل الجزء الأكبر من مشكلة الغذاء والأمن الغذائي في العالم.

 

أديب زيني

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




سمكة دجاجة البحر





سمك السلمون





سمك القوبيون





الجنس: Cichiasom من فصيلة Cichlidae