إصلاح الفكر القومي العربي مهمة غير مستكملة محمد السيد سعيد

إصلاح الفكر القومي العربي مهمة غير مستكملة

النزاعات والتمزقات العربية تتوالى فصولا فاجعات، كل منها أكثر وجعا وإيلاما من الآخر، حتى صارت إلى رواية عبثية كاملة الأركان، والأمر الأكثر غرابة هو أن تداعي فصول التمزق يبدو وكأنه لا يقبل دفعا أو معارضة. وكأننا قد فقدنا رءوسنا، وكأننا فقدنا القدرة على الحكم على مسار الأشياء أو التحكم في تداعيات مصيرنا ذاته، برغم أننا نرى بوضوح أننا نندفع ونتدافع إلى الهاوية.

ظن بعض الكتاب والمفكـرين المعنيين بـالشأن العربي العام أن الجهود الكبيرة التي انصرفت لإصلاح الفكر القومي العربي ربما تكـون قريبـة من الإثمار، وذلك بعدما شهدت فصول الفجيعة العربية خـلال العقدين المنصرمين على بـؤس وضحالة الصياغات التقليديـة لهذا الفكر، وعلى الحاجة العميقة إلى إصلاحه من الداخل.

غير أن الاستقطابات الحادة التي ترافقت مع الحرب الأهلية في اليمن بـرهنت على أن الدعـوة إلى إصلاح الفكر القومي لم تمس إلا مسا خفيفا الكتل السياسية والفكريـة الكـبرى في الوطن العربي. فاتخذ القوميون بتلاوينهم المختلفة وخاصة البعثية والناصرية موقف التأييد الكـامل للغزو العسكـري الشمالي لجنوب اليمن وذلك باسم الوحـدة. وقد لاحظ كثير من المراقبين أن الاستقطابات الفكـرية والسيـاسيـة المحيطة بـالحرب الأهلية في اليمن هي امتدادات لتلك التي تفجـرت في أعقاب الغزو العراقي الصدامي للكويت في أغسطس عـام 1990. ويعني ذلك أن "القـوميين" مـازالـوا مخلصين لفكرة تبـدو عميقة الجذور إلى درجـة التكلس في الفكـر القومي الكلاسيكـي وهي فرض الوحـدة بالوسائل العسكرية.

إن ذلك الاستنتاج الذي يروج له الصحفيون والكتاب القوميون الكلاسيكيون هو بحد ذاته فجيعة حقيقية، لأنه يجرد شعار الوحدة من كل محتوى إنساني أو تاريخي ويقترب به من منزلة الأصنام المقدسة.

غير أنه قبل أن نشرع في إبراز استنتاج مضاد، نجد أنه من المحتم الإشارة إلى إهدار فكري شنيع. ويتمثل هذا الإهدار في ضياع كل تـأثير عقلي أو ثقافي لمشروع النقد والتصحيح الإصلاحي للفكر القومي العربي. وهو مشروع تابعه وساهم فيه عـدد لا بأس بـه من المفكرين العرب الذين لا تشوب حواسهم وقناعاتهم القومية والعربية أدنى الشكوك.

ذرائعية النقد الإصلاحي

إن تأمل هذا الإهدار يثير مسألة المسئولية المشتركة بين استمرار الضحالة المعرفية للنقد الإصلاحي للفكر القومي الكلاسيكي، والتسطح وسوء النية في التكوين الفكري للكتل السياسيـة الكـبرى المتحـدثة باسم "القومية العربية".

فعلى المستوى المعرفي، صرف النقـد الـديمقراطي للفكرة الكلاسيكيـة عن القومية العربية جل جهده في إيضاح الارتباط بين النكبات العربية الحديثة من جهة، والاستبداد والتسلط السياسي من جهة أخرى.

ومما لاشك فيه أن هناك بالفعل ارتباطا حميما بين الأمرين، وخاصة بالنسبة لنكبة عام 1967، والحرب العراقية - الإيرانية. 1980 - 1988، وغزو لبنان عام 1982، والغـزو الصـدامي للكـويت عـام 1990 والحرب الأهلية الدائرة في الجزائر 1992-؟ والحرب الأهلية في اليمن عام 1994. هـذا إلى جـانب بضع عشرات من الفواجع الأصغر.

غير أن هناك فارقا كبيرا بين المنطق الذرائعي البحت الذي يركز أحاديا على هـذه العلاقة من ناحية والحاجة إلى إدراك أشمل وأعمق لقيمـة الحريـة والكـرامـة الديمقراطية والحقوق الأساسية للإنسان في الثقافة السياسية العربية، باعتبار ذلك كله قيما يجدر الدفاع عنها بحد ذاتها حتى يكـون هناك أي معنى للحـديث عن مشروع عربي للتقدم والتحرر.

إن قمة القيـد المعرفي المهم على مشروع الإصلاح الفكري للحركة القوميـة تظهر لدى محاولة فهم جذور التواطؤ بين الكتل الفكـرية والسياسيـة العربية ذات الادعاءات القومية من ناحية والاستبداد والتسلط في نظم حكم معينـة طالما كـانت الأخيرة ترفع شعارات قومية ووحدوية من ناحية أخرى.

فبرغم أن هذه الكتل قـد أصبحت تبـدي اهتماما دعائيا بمسألة الديمقراطية، فإنها سريعا ما تتخلى كلية عن الديمقراطية في أول امتحان جاد لمبادئها وركائزها الأخـلاقيـة والسياسية. فعلى سبيل المثـال، لم تتورع أكثرية هذه الكتل في عديد من الأقطار العربية عن الاحتفال بـ والانتصار لوجهة نظر أي سياسي عربي - مهما كانت شهرته بالتسلط والقسوة ذائعة، وهو يعلن شعار الوحـدة كتبرير لغزو عسكري يستهدف اقتلاع عرب آخرين (مثلا الغزو الصدامي للكـويت)، أو تأديب وقمع مواطنيه ذاتهم (مثلا الغزو الشمالي لجنوب اليمن).

إن تفسير هذا التواطؤ يكمن في إدراك الديمقراطية والحرية باعتبارها "وسائل " لا غايات بحد ذاتها. ويعني ذلك أنه لن يكون من الممكن إنهاء التواطؤ مع الاستبداد والتسلط العربي من جانب قطاعات مؤثرة من الرأي العام في الأقطار العـربيـة إلا من خلال إصـلاح عميق للفكـر القـومي فيما يتصل بقضيـة الـديمقـراطيـة: أي دون استيعـاب وهضم قيمـة الديمقراطية كغاية من غايـات النضال العربي بل ولن يكـون من الممكن طرح أي رؤيـة تقـدمية لتطوير الشخصية العربيـة وخلق إنسان عربي جـديد دون التأكيد على ضرورة التمتع بالحرية والديمقراطية.

القومي في مقاعد المعارضة

إن النقـد الإصـلاحي للفكـر القـومي العـربي الكـلاسيكي يعاني أيضـا من قيود ثقافية - سياسيـة مؤثرة. ذلك أن التيار الرئيسي بـين الفكـرين " القوميين الإصـلاحيين" لم يستوعب تمامـا النتائج المنطقيـة للاعتراف بالضرورة الديمقراطية. ويقع هذا التيار في مغـالطـات سـاذجـة، إذ يتصـور ان مجرد إقـرار الديمقراطية - كنظام سياسي ونظام حياة - سوف يفضي تلقائيا إلى اختيـار الشعب - على نحـو حـر - للقوى الوحـدويـة/ القوميـة، وللتوجهـات السياسية والاستراتيجية لهذه القوى. وقد سعى أكثر المفكرين الذين تصدوا لإصلاح الفكر القومي إلى البرهنة على وجـود ارتبـاط (ميكـانيكـي ومبـاشر) بين إقـرار الديمقراطية والاختيار الشعبي للوحدة، كـما سعوا أيضا للبرهنة على وجود هذا الارتباط نفسه بين إقرار الديمقراطية واستمرار وتصعيد النضال (العسكري) العربي ضد الإمبريالية الغربية والصهيونية الإسرائيلية.

والافـتراض المستتر وراء هذه المغـالطـة هـو أن الحكومات والنظم الاستبدادية تعيق النضال الشعبي المتدفق أصلا لتحقيق الوحدة ومواصلة النضال ضد الإمبريالية والصهيـونية.

والواقع هو أن الحكومات والنظم الاستبدادية العربية تتحمل جـزءا ليس هينا من المسئولية التاريخية عن تدهور المشروع الوحدوي وعن الهزائم التاريخية للعرب في مواجهة الإمبريالية والصهيونيـة. غير أن خصوصية الحقبة الراهنة من التطـور السياسي والثقافي للمجتمعـات العـربيـة بالمقارنة بحقبة الخمسينيات والستينيات تظهر من أن الجماهير العربية - وبصفة أخص في المشرق- قـد "كفرت" بـالشعارات الـوحدوية والثورية المعادية للإمبريالية والصهيونية جزئيا بسبب إساءة استخدام الحكـومـات والنظم التسلطيـة لهذه الشعـارات في سياق قمع التطـور الحر للجماهير ذاتها. ويعني ذلك أن الـوحـدة كمشروع سيـاسي قد لا تكـون اختيارا شعبيا فوريـا من جانب جماهير تتمتع بحقوقها وحريـاتها الديمقراطية.

والفكـر القـومي الإصـلاحي العـربي يجب أن يعـد نفسـه لهذا الاحتمال، وذلك حتى لا ينقلب على فكرته الإصلاحية الأساسية وهي الديمقراطية، وذلك إذا ما برهنت على أنها ليست قنطـرة قصيرة إلى الوحـدة. ودون أن يوطد المفكـر والسياسي القومي الإصلاحي نفسه على أن يبقى في مقاعـد المعارضة لفترات قد تقصر وقد تطول، سوف يعاوده حتما إغواء الحل الانقلابي التسلطي الذي أغوى سلفـه المفكر والسياسي القومـي التقليدي. ومما لا شك فيه أن وقوع هذا الإغـواء يدفع الجـماهير العربية دفعـا إلى طـلاق بائن مع الفكـرة القـومية ذاتها. إذ تتكرس لـدى الجـماهير صورة ثابتة قـوامها أن الحديث عن الديمقراطية- لدى القومي والوحـدوي- ليس سوى دعاية مبتذلة جـربها مرارا مع المفكرين والساسة الـذين يهتفون بـالـديمقـراطيـة وهم في المعارضة، ويمارسـون أبشع صنوف التسلط والقسـوة والعنف عندما يثبون إلى مقاعد الحكم.

عادات ذهنية

فلنبـدأ من تصور ماذا يستطيع المفكـر والسياسي القومي الإصلاحـي أن يفعله لتحقيق غاية الوحـدة وهو في مقاعد المعـارضة وفي سياق من الاحترام الكـامل لقيم الديمقراطيـة والحرية. ونظن أن هذه البداية مهمة للغايـة كتمهيد ضروري لنقـد الفكـرة الكلاسيكية عن غاية الوحدة ذاتها.

وقبل كل شيء، ينبغي على هذا القومي الإصلاحي أن يدرك أن للديمقراطية عاداتها الذهنية إضـافـة لأسسها ومرتكزاتها الأخلاقية والسياسية. ومن أهم هذه العادات "احترام الجـماهير" أو الشعـب واختياراته الحرة. ويملي هذا الاحترام الإقلاع نهائيا عن الاعتقاد بـوجود "وعي زائف" عنـد الجـماهـير عندما لا تختـار الوعـي الخاص بالنخبة القومية/ الوحـدوية. ودون الإقلاع عن فكرة "الوعي الزائف" لما سوف يكون هناك دائما إغواء الإحـلال القسري العنيف لوعي الجـماهير بـوعي من يزعم لنفسه الحقيقة وحق القيادة من بين النخب السياسية.

كل ما يستطيع المفكر السياسي القومي الإصلاحي أن يزعمه هو أن له حقا أصيلا - في إطار الديمقراطية - في التنافس النزيـه على الفوز بثقة الجماهير. ويعني ذلك بـدوره أن الجـماهير هي صاحبة الحق في اختيار الفعل الوحدوي وهي صاحبة الحق في أن تصل بالدعوة الوحدوية إلى مقاعد الحكم في الدولة، وأن تسقط هذه الدعوة من مقاعد الحكم إذا شاءت.

فإذا استبعدنا كلية أي تبرير لفعل انقلاب تسلطي من جانب النخبة القومية/ الـوحدوية، لصار أمامها فقط الاجتهاد في البحث عن مداخل واستراتيجيات لاستعادة ثقة الجماهير/ الشعب في اختيـار الوحدة على نحو سلمي وحر.

وقـد يمثل اضطرار المفكـر/ السياسي القـومي الإصلاحي للجلـوس في مقاعـد المعارضة - لفترة قد تطـول أو تقصر- فـرصـة ثمينة لمراجعة خبرة الفكـر والعمل القومي/ الوحـدوي العربي خلال العقود الخمسة المنصرمة. بل وقد يمثل فرصة ثمينة لإعادة صيـاغـة دلالات والأسس المعـرفيـة ومقتربـات واستراتيجيات فكرة الوحدة ذاتها.

وقـد نحمل هنا بعض الأفكـار التي تستحق التأمل من جانب الفكر القومي/ الإصلاحي وتساعده على الاجتهـاد في سبل الخلاص من الأزمة الخانقـة التي يعيشها الفكر القومي/ الإصلاحي في الحقبة الراهنة من التطور السياسي - الثقافي العربي. وهذه ا لأفكار هي في الجوهر امتدادات منطقيـة لبعض منطلقات فكـر الإصلاح ذاته. ونلخـص هذه الأفكار في النقاط الأربع التالية:

قطيعة معرفية

أولا: الحاجة لإحـداث قطيعة معرفية مـع التصور الرومانسي - الإبهامي لدلالة الاختيار الوحدوي. والـواقع أن بعـض الكتـاب والمفكـرين القـوميين الإصلاحيين قـد بـدأ جـانبا مهما من هذه القطيعة بـالفعل. ونعني بـذلك القطيعـة مـع نظرة التعـالي والتحقير "للقطريـة" التي نظر إليها القومـويون الكلاسيكيون كتعبير نموذجي عن "التجزئة". وقد بين "القوميون الإصـلاحيون" أن الـوحـدة لا تقتضي بـالضرورة القفز على - أو إلغاء - القطرية، التي هي واقع عميق الجذور ولـه امتداداته الـراسخة لا في الترتيبات الـدستوريـة/ السياسيـة فحسب، بل وفي الذاتية الشعبية أيضا.

وأوضح هؤلاء الإمكـان المنطقي والعملي لرفع التناقض الزائف بين اختيار الوحدة، وواقع النظرية، وذلك بمقـارنـة الفهم المشرقي الـذي أقام هـذا التناقض مع الفهم المغربي الـذي يستغربـه. فالفكر السائد في المغرب العربي لا يعتمد مصطلح "الدولة القطرية" وإنـما مصطلح "الـدولة الـوطنية" والذي يشير إلى حس الانتماء. وتبدو العلاقـة بين "القومية العربية" والوطنيات "القطرية" كعلاقـة تكافل لا تعارض باعتبار أن كليهما مستويـات متدرجة للولاء والانتماء.

فليس هنـاك تناقض مثـلا بين شعـور المرء بأنه موريتاني أو مغربي أو مصري من ناحية وشعوره أيضا بأنه عربي. وحتى في الأردن ولبنان لا يجد المرء ترحيبا حقيقيا بفكـرة إلغاء هـوية هـذه المجتمعات أو الدول المستقلة لصالح فكـرة الوحـدة، سواء كـانت هذه الوحـدة على مستوى عربي، أو على مستوى ثنائي: أي مع قطر عربي آخر وأكبر.

وبرغم التقدم الملموس الذي يحققـه هذا الاعتراف بالوطنيات بالنسبة لسياسات الوحدة، فإن هذا التقدم لم يثمر تقدما مماثلا بالنسبة لدلالات الوحدة وأسسها المعرفية، وذلك لأن المفكـر القومي الإصلاحي لم يجرؤ على استكمال النتائج المعرفية لهذا الاعتراف. وبشكل أكثر تحديدا، لم يجرؤ الفكر القومي الإصلاحي على إحداث قطيعة معرفية مع التصور الرومانسي الإبهامي لمقولة "الأمة العربية" وهو التصور الذي يكمن خلف كل البنـاء المفاهيمي للنـزعـة القوميـة العربيـة الكلاسيكية.

فوفقا لهذه النزعة الأخيرة، كانت هناك دائما أمة واحدة متجـانسة وكلية (لا تقبل التقسيمات الجهوية أو الاجتماعية أو الوطنية)، تحلـق روحها في الزمان والمكـان باحثـة عن تجسيـد مادي لحقيقتها في دولة دستورية موحـدة. والنتائج المنطقية لهذا التصور هي أن عوامل التمزق والانقسـام إنـما تلحق بالأمة من خـارجها فقط: أي من المؤامـرات الإمبريـاليـة والصهيونية، في العصر الراهن، وأن أي وعى آخر أو حس بالانتماء تحت مستوى الأمة الـواحدة، أو فوقها هو نوع من الوعي الزائف الذي يفرض على الجماهير من خارجها، ويترتب على ذلك أن الثـورة - وهنا أي انقلاب قـد يسمى ثـورة قومية - إنما تجلي الوعي الحقيقي بمجـرد أن تحجز تأثير القـوى الخارجيـة المتربصة وعملائها المحليين. وقـد كانت هذه النتائج المنطقية لمقدمات هي في الأصل خـاطئة - الأساس الأيديولوجي التبريري لإقامة نظم تسلطية بـاسم القومية والوحدة، وخاصة في المشرق العربي. ويكاد يستحيل منطقيـا إنهاء وتصفيـة هـذا الأسـاس الأيديولوجى التبريري بدون القطيعة مع مرتكزاته المعرفية. فالأمة ليست كيانا فوق التاريخ أو عابرا للتاريخ، وإنما هي نتاج عبقرية الفعل التاريخي الذي يصهر ويدمج جماعات قد تكـون متفرقة أو متباينة انطلاقا من الفنون والآليات والمعطيات التي يتيحها الواقع التاريخي للحـداثة. والعرب هم جماعات إنسانية على درجة كبيرة من التنوع في تشكيلاتهم الاجتماعية وهياكلهم المؤسسية ومستويات تطورهم الثقافي والتقني ينتشرون على امتداد رقعة جغرافية واسعة حيث كـان التواصل فيما بينهم صعبا ومكلفا لفترات ممتدة في التـاريخ. غير أن هـذه الجـماعات ترتبط فيما بينها بروابط الـدين واللغـة والثقافـة بما يسهل اندماجها معا وانصهارها في أمة انطلاقا من التوظيف الكامل لمعطيات وإمكانات الحداثة.

وفي الواقع الراهن نجـد أن بعض المعطيات المادية والفكرية والأخلاقية لمشروع الاندماج والصهر قد نضجت، وبعضها الآخر لايزال غائبا أو ضحلا أو هشا. وحتى تستكمل هذه المعطيات نحن بحاجة إلى توظيف كامل فنون وآليات الفعل التاريخي الحداثي، وإلى إدارة حكيمة لمشروع جبار وممتد زمنيا. ونحن نعني بالإدارة الحكيمة عملية سياسيـة - ثقافية تلتقي فيها الإرادات على طرح صياغات تعددية تحترم جميعها قاعـدة الحق في المسـاواة والحق في التطور السلمي المتكافل. هذا الفهم يحتم توديع "إمبريالية الموحدين" إلى مثواها الأخير، بعدما صارت إلى تبرير صريح للفاشية القومية وللعنف التسلطي والقسوة القبلية، وإلى إدراك غريب للوحـدة كعلاقـة سيطرة وخضـوع بدلا من كونها في الأصل علاقة تكـافل وتحرر واسترداد للكرامة.

مشروع التقدم

ثانيا: إغناء اختيار الوحدة بدلالات مشروع للتقدم يقوم على حق التطـور السلمي المتكافل. فالوحـدة ليسـت مجرد دمج اجتماعـي أو اتحاد سيـاسي، لأنها تكتسب دلالاتها في سياق تاريخي محدد تبعا للأغراض والأهداف التي يخدمها هذا الدمج أو الاتحاد. ومفهوم الوحدة الذي قد يلهب خيال الجـماهير العربية هو ذلك المفهوم الذي تثريه مفاهيم جـوهرية مثل حقوق الإنسان وبالذات الحق في المساواة والحرية والمشـاركة في إدارة شئون البلاد. وهـذا كلـه ينعكس على إدارة الدولة انطلاقـا من إشعاعات ومعطيات الحداثة. ويتحتم دمج هذا كله في مشروع للتقـدم على الأرض العـربية، وهـو مشروع يصوغه الناس أنفسهم ولصالحهم وينفـذ بواسطتهم، حيث هم موضوع التقدم وذاته في نفس الوقت.

ودون هذه الدلالات الغنية والتقـدمية لمفهوم الوحـدة، لا نستطيع أن نميز بين الوحدة كـاختيار شعبي، وبينها كمجرد مشروع إمبراطوري أو تسلطي. فقـد قامت الإمبراطـوريات الكلاسيكية الكبرى "بتوحيد" الأقطار التي يسكنها العرب والمسلمون.غير أن هذا التـوحيـد لم يكن هشا فحسب، بل كـان "مكروها" أيضا، لأنه في الحد الأدنى لم يكن اختيـارا من جـانب الشعـوب ولصـالحها. وهنـا أيضا يكمن الفارق بين "التوحيد أو إعادة التوحيـد القسري أو العسكـري" عن طـريق بيروقـراطيات عسكـرية أو تسلطيـة أو عشائرية من ناحيـة، والتوحيد كاختيار شعبي حـر من ناحيـة أخرى. فـالأول ينهض على هم أسـاسي وهو تـوسيع الرقعة الاجتماعيـة والجغرافيـة لسيطرة مصالح بيروقراطية عسكـرية/ عشائرية. وهو توحيد يخفي داخله كل عـوامل الفرقة والانقسام وكل مرارات علاقات الإخضاع/ السيطرة. وهو يختلف جذريا عن الوحدة كاختيار شعبي وكجزء من مشروع تقدمي تاريخيا.

الوحدة كناتج للكفاءة الاتصالية

ثالثا: القطيعة مـع استراتيجيات "التوحيد القسري" وإبداع استراتيجيات لتقريب الوحـدة كاختيار طوعي وسلمي. وقـد يبـدو هـذا الإجـراء كمجـرد تحصيل حـاصل للأفكـار والمرتكـزات السابقـة. غـير أنه أكثر بكثير من مجرد تحصيل حاصل. ذلك أنه لن يكون من الممكن فتح الباب على مصراعيه للإبداع والاجتهاد في المجال السياسي للوحدة بـدون التحرر نهائيا من سطوة تجربة التوحيد القومي في بـلاد أوربا الغربية خـلال القرن التاسع عشر.

إن هذه القطيعة هي مقدمة جوهرية في واقع الأمر لفهم مختلف جذريا لمفهوم الوحدة. فالمفهوم السائد بين القوميين للوحدة يجعلها ممكنا قـائما على الصعيد الدستوري. وهذا الفهم له جذوره بالفعل في التاريخ السياسي والفكري لأوربا الغربيـة وأمريكا الشمالية، ولكن من خلال مدرسة فكـرية وحيدة وهي مدرسة الاتحاديين أو الفدراليين الذين كـان لهم دور كبير في "توحيـد" الولايات المتحدة. غير أنهم لم يكـونوا قط المدرسـة الوحيدة، ولا هم المدرسة الأكثر تأثـيرا في الأحداث خلال النصف الثاني من القرن العشرين لا في أوربا وأمريكـا الشمالية، ولا في العـالم كله. وقـد برهنت أحـداث هذا القرن على أن كل عمل يقوم على التوحيد القسري - سـواء انطلاقـا من ادعاءات قـومية أو غير ذلك من ادعاءات - مصيره إلى فشل بعد أن يترك وراءه مخلفات آلام وأوجاع ومـآس لا حصر لها ولا نهايـة. ويقـوم الفكـر الحديث على أن الوحـدة يمكن أن تتحقق بـالفعل كـاختيـار سلمي وشعبي عن طـريق وسـائل وآليـات التكـامل الاقتصادي والازدهـار الثقافي والكفاءة الاتصـالية. ومن هذا المنظـور الأخير، تتقـدم الوحـدة وتتسع وتتعمق كاختيار شعبي طـوعي وتلقائي وسلمي مع كل تقدم يتحقق في مجال بناء اقتصاد قوي ومد شبكة التفاعلات الاقتصاديـة على أساس من الكفاءة إلى حيثما تستطيع أن تمتـد. كـما أن كل إبداع ثقـافي لـه مردود وحـدوي. وتحقق الكفاءة الاتصالية فعل السحـر في تقريب الناس وصهـرهم و"توحيـد" خيالهم وتنـويعه وفتح الآفـاق أمامه. والكفاءة الاتصالية تعني فكرا وقيما ومثلا وقدوة قبل أن تعني تكنولوجيا ومعدات وآلات.

رابعا: الحاجـة إلى نخبة حيوية ذات ذكـاء تاريخي، ونعني بـالنخبـة الحيـويـة تلك التي لا تسيطر على الناس انطـلاقا من سيطرتها على دولاب الـدولة، بل العكس تمامـا: أي تلك النخبـة التي يختـار الناس توصيلهـا إلى مقاعد الحكم في دولاب الـدولة لأنها تستطيع قيـادتها بخطاب ملهم وممـارسـة نظيفـة تستهدف بناء مؤسسات الشعب الرقابية. فقد جمدت النخبة "القومية" بتلاوينها المختلفة وخـاصة البعثية والنـاصرية لأنها اكتفت بتوظيف دولاب الـدولـة البيروقـراطـي لتحقيق أغراضهـا. كـما أن الاكتفاء بالسيطرة على دولاب الدولة البيروقـراطية كان أحد أسرار هزيمة هذه النخبة في مواجهة الإمبريالية والصهيونية. إذ ترجمت بيروقراطية الدولة الشعارات التحرريـة لهذه النخبة إلى استراتيجيـة واحديـة وهي استراتيجيـة الصـدام العسكـري مع الإمبرياليـة والصهيـونية قبل أن تنضج العـوامل الحضـاريـة لتحقيق الانتصار. وقد أفادتنا تجارب هذا الصدام أن علينـا أن نستعين بكل قـدرات الـذكـاء التـاريخي والحضـاري في ميراثنـا العربي والإسلامي لتحقيق التحرر والانتصار النهائي، باعتبار هذا التحـرر هو عقد أمـانة مع النفس ومع العـالم ومعطيات تطـورنا ذاته. وقد يكون من المفيد والضروري أن نرسي أولا دعائم تقدمنا قبل أن نتـورط في صـدام عسكـري يرجح أن ننكسر فيه. إذ إنه مع التقدم فقط على جميع الأصعدة نستطيع أن نأمل في انتصار يحقق تحررنـا الخارجي والـداخلي في آن معـا. واختيار الـوحـدة - طوعيا وبصورة سلمية - هو جزء من هذا التقدم.

 

محمد السيد سعيد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات