على مشارف القرن القادم: الميكروروبت.. إنسان آلي لا تلحظه عين..!! محمد نبهان سويلم

على مشارف القرن القادم: الميكروروبت.. إنسان آلي لا تلحظه عين..!!

في نفس مساحة أو حيز نقطة الطباعة السوداء، وربما أقل من ذلك كثيرا، سوف يكون هناك في قابل الأيام ميكروروبت أو إنسان آلي كامل.. يتحرك.. يستقبل البيانات ويرسل المعلومات.. يرى.. يؤدي غرائب الأعمال، وكأنه مارد أسطوري، لكنه مارد لن يخرج من قمقم الأساطير بل من جراب مفاجآت العلم الذي يقفز نحو القرن القادم قبل حلوله الوشيك.

إن محاولات صناعة آلات تقلد أداء الكائنات الحية، والإنسان على وجه الخصوص، محاولات لها جذور ضاربة في التاريخ الإنساني، فمنذ صنع السامري عجله الذهبي ذا الخوار الذي عبده اليهود عندما ذهب سيدنا موسى عليه السلام إلى الوادي المقدس، منذ ذلك التاريخ لم تتوقف المحاولات ومع كل إطلالة تكنولوجية تفرغ بعض الناس لمثل هذه الأعمال، فعندما هل عصر العجلة والترس والزنبرك صنع بعض الفرنسيين دجاجة تضع بيضا من كرات خشبية بيضاء وتصدر أصواتا تقترب من أصوات الدجاج، وأعمل بعض الألمان فكرهم في صناعة صبي من حديد وخشب وكسوا هيكله المعدني ملابس وحذاء.

لكن الإنسان الآلي بمفهومه الحالي ظهر إلى الوجود بعد التطور التقني الهائل في مجالات الإلكترونيات ونظم التحكم والحاسبات الإلكترونية.بعدها اكتشف علماء معهد M.I.T بالولايات المتحدة الأمريكية المعادلات الرياضية الحاكمة لأداء مثل هذه الآلات..

وكأنما المعادلات هنا بمثابة حجر رشيد، فعن طريق حجر رشيد الذي سجلت عليه بعض اللغات القديمة واللغات الفرعونية واكتشفه علماء الحملة الفرنسية على مصر، وبعد فك رموزه تكشف للعلماء أصول اللغة الفرعونية القديمة، واستطاعوا معرفة تاريخ الفراعنة.. صحيح أن هذه اللغة لا تعني شيئا لمن يجهل أصولها، وكذلك تكون لغة المعادلات الرياضية لمن لا يعرف فحواها، فأحيانا - وعلى حد قول د. عبدالمحسن صالح - ما تشير هذه المعادلات إلى حقائق لا يستطيع من توصل إليها معرفة ما يمكن أن تنطوي عليه من تطبيقات لها أهميتها وخطورتها.

وجاءت تلك المعادلات لتتبنى أسس علم الذكاء الصناعي الذي أسهم في إنشاء فروع جديدة من العلوم مثل نظم الخبرة، ونظم دعم القرار، والإنسان الآلي، ومعالجة الكلمات واللغات الطبيعية، لكن النجاح والشهرة الجماهيرية كانتا من نصيب الإنسان الآلي.

كان الإنسان الآلي، وما زال، كتلة معدنية هندسية المظهر والجوهر وكومة من الأسلاك والتوصيلات والدوائر الإلكترونية الدقيقة، كتلة لا تخطئها عين وهي تتعرض لأخطر البيئات وتؤدي أشق الأعمال سيان في مصانع السيارات أو داخل المفاعلات النووية أو في بعض المستشفيات أو في محطات غسيل الطائرات.. لذلك شاع وذاع الإنسان الآلي عبر ربوع العالم، وكتب عن كفاءته الكثير، وبرز الإنسان الآلي في عديد من أفلام السينما، لدرجة دعت إحدى محطات التلفزة العربية إلى إنتاج مسلسل دعته "العمدة الآلي" لإشباع نهم الطفل والكهل لمعرفة الآلات التي تشبه في أدائها أداء الإنسان.

حقيقة كان " العمدة الآلي" بدائيان وبان على بدنه ومعداته التواضع الشديد إلا أنه أسعد الكثيرين بما أدى من أعمال مرحة بهرت أهل الريف والحضر، وهذه بلا شك نتيجة إعلامية معقولة ومقبولة.

أوهى من خيوط العنكبوت

والآن نتصور أن هذه الآلة الضخمة المسماة بالإنسان الآلي قد أخذت في الانكماش والتقلص رويدا رويدا وتحول الإنسان الآلي من عملاق إلى قزم ثم تدهور كيان القزم وأضحى مجرد نقطة.

هذا بالضبط ما حققه جزئيا باحثون أمريكيون استخدموا أساليب التقنية المتقدمة في الحصول على بعض النتائج الباهرة التي لم يصدقها علماء كثيرون فور إعلانهم عنها في مؤتمر علمي عرضوا خلاله صورا لهذه الآلات الدقيقة، خوفا عليها من لمسة أصبع طائشة أو ذرة تراب عالقة، أو ما شابه من مؤثرات غير محسوبة قد تدمر هذا الكيان الدقيق وتنقله إلى رحمة مولاه. لماذا؟ لأن هذا الميكروروبت أو الإنسان الآلي الذي لا تلحظه عين ذو مكونات طولها لا يتجاوز خمسة أجزاء من ألف جزء من البوصة فيما يعادل مائة وخمسة وعشرين جزءاً من ألف جزء من الملليمتر، أو بمعنى أقرب للذهن.. أو هي من خيوط العنكبوت، وبرغم هذه الرقة والدقة فإن بدنه يضم قطعا كثيرة: تروسا وتوربينات ودوائر الكترونية وحاسبا الكترونيا مزيدا في صغره، وهي مكونات تتطلب ميكروسكوبا الكترونيا لتحديد مواقعها.

ويجيء هذا الإنجاز الفريد ونحن على مشارف القرن الواحد والعشرين مؤكدا أهمية تكاملية البحث العلمي في مجالاته المختلفة. وما أشبه اليوم بالبارحة فقد كان الحاسب الإلكتروني في بداية الخمسينيات يشغل مساحة تناظر مساحة ملعب كرة قدم، ويستهلك من الطاقة الكهربية ما يكفي لإنارة حي كامل مأهول بالسكان، ثم أخذ ينكمش وينكمش وكلما تقلص حجمه زادت قدرته وكفاءته، وهذا الانكماش لم يكن بفعل البرد بل بفعل العلم وإعمال العقل، نفس هذا المنهج سار عليه علماء الذكاء الصناعي الذين تأكدوا أن أفضل إنسان آلي لم يصنع بعد وأنه لكي يؤدي الإنسان الآلي أبدع وأدق الأعمال لأبد أن يتقلص حجمه وينكمش وينكمش وصولا إلى الميكروروبت، إذ قد تقود هذه الآلات الذكية إلى تصميم وصناعة سفن فضائية لا يزيد طولها على ربع المتر، وعلى متنها هذه الآلات الذكية وتنفذ مهامها العلمية والبحثية بدرجة أفضل وبدرجة دقة عالية لا يستطيع تحقيقها أي رائد فضاء بشري، ناهيك عن إمكان بقائها في الفضاء ما شاء العلماء لها البقاء سنة، عشر سنوات، مائة سنة، فلا التزام لها أو ارتباط لهذه الآلات بالأرض ومن عليها ولا تحتاج إلى غذاء أو هواء.. أو غير ذلك. وقد يقود الميكروروبت العلماء إلى تحقيق إنجازات باهرة في أساليب وأدوات الجراحة وعلاج العلل والأمراض، إذ سوف يسمح حجمه الدقيق بإدخاله إلى الجسم العليل سابحا في الشرايين والأوردة، ويتجول هنا وهناك باحثا ومنقبا عن الأمراض، فإن وجدها هاجمها بأسلحة جديدة وتكتيكات مبتكرة تناسب هذا الأمل الجديد الواعد مع مطلع القرن القادم.

المدهش في الأمر أنه فور الإعلان عن اكتثساف الميكروروبت جذب اهتمام العلماء من كل حدب وصوب، ففي معامل أبحاث الطيران والفضاء والدفع النفاث وضع المهندسون والعلماء خطط صيانة جديدة تعتمد على الوافد الجديد، وركزوا على صيانة مسارات الوقود والدوائر الإلكترونية ومخارج غازات الصواريخ، وكل الأماكن التي استحال على عمال الصيانة الاقتراب منها أثناء انطلاق الطائرة أو الصاروخ أو سفينة الفضاء، وقالوا سوف تدفع وحدات الإنسان الآلي الدقيق إلى هذه المواقع وتبقى هناك وتتلقى أوامر تشغيلها باللاسلكي بعدها تندفع لإجراء الصيانة المطلوبة، وقد تبقى في مواقع الأعطال أو تعود مرة أخرى إلى مكانها بين الأجهزة الدقيقة.

أحلام كثيرة وآمال متسعة راودت أذهان العلماء في كل مجال وليس في مجال بذاته.

المهم أن الميكروروبت هو محصلة جهد كثيف ومجهود شاق وفكر عميق ودأب غير كلول بذله علماء الحاسبات الإلكترونية والإلكترونيات نحو تصغير الدارات الإلكترونية. قبلا كانت صمامات زجاجية مخلخلة الهواء بها أسلاك وتوصيلات معدنية وحولوها إلى الترانزستور الذي تم تصغيره بدوره إلى دارات إلكترونية متكاملة، ثم تقلصت إلى دارات أصغر وأصغر وأدق تكفي شريحة واحدة منها لا تزيد مساحتها على مساحة عقلة الأصبع لإدارة مصنع كامل أو تخزين معلومات لو سطرت على الورق لاحتاجت إلى عشرات الألوف من الصفحات. نفس التكنولوجيا قادت العلماء إلى صناعة محاور حركة أدق من خيط العنكبوت، ورابطات ميكانيكية أصغر من شذرة تراب عالقة في الجو، وعدسات زجاجية رقيقة دقيقة تحسبها ومضة ضوء، وهي نفس التكنولوجيا التي حكمت إنتاج حاسب إلكتروني قالوا عنه أنه في حجم الذرة فإن كان رأس الدبوس يضم ملايين الذرات فيبقى السؤال: كيف؟ واجابتي لا أدري ولعل غيري يدري.

حقيقة لم يتحول كل شيء إلى واقع حتى الآن لكن في تقدير الأستاذ موري فاك، أستاذ الحاسبات الإلكترونية في جامعة كارنيجي هيلون.. أن الصعوبات الحالية لن تقف حائلا دون صناعة الميكروروبت الذري خلال السنوات القادمة، ويؤيده في مقولته الدكتور "دافيد نيزان" الذي أكد شيئا مهما آخر هو أن الهدف ليس خلق إنسان إلي إنما صناعة مساعد إلي للإنسان، لأن الإنسان كما خلقه الله هو أعقد مخلوق على الأرض وفي الكون كله.

مصنع على مساحة أصبع

والواقع أن تقنية الميكروروبت بالغة التعقيد، والغوص في تفاصيلها لا محل له هنا ونقربها بالقول تتولى الحاسبات الإلكترونية تصميم القطع الآلية والدوائر الإلكترونية ثم ترسمها على شرائح شفافة وفق التصغير المطلوب، بعدها يتم إسقاط الرسوم ضوئيا على شرائح رقيقة من السيليكون الذي تتولد على سطحه مناطق حساسة ومناطق أقل حساسية، ثم توضع شرائح السيليكون في مواد كيميائية ناحرة تتفاعل مع المناطق الحساسة وتبقي على المناطق الأقل حساسية التي لم تتعرض للضوء، وبذا أمكنهم إنتاج قوالب صب ميكرو، وبها أنتجوا التروس والمحاور والعجلات وأعمدة الإدارة، ويكفي القول إنه على شريحة سيليكون لا يزيد قطرها على خمسة سنتيمترات يمكن إنتاج مائة ألف ترس ومائة ألف عمود إدارة وعشرات الألوف من القطع الميكانيكية الدقيقة.

ومشكلة رؤية الميكروروبت ما زالت تمثل تحديا قبالة العلماء... ويجربون أساليب جديدة منها مستشعرات بالأشعة تحت الحمراء، وعدسات سداسية الأوجه، ويحاولون التوصل إلى إمكان الرؤية بالألوان الطبيعية مثلما يرى الإنسان العادي، ويعاون المستشعرات والعدسات حاسب إلكتروني دقيق يحول الشفرة الضوئية إلى ايعازات وتعليمات للميكروروبت، الذي استعاض عنه العلماء خلال تجاربهم بوحدات سيارات أطفال صغيرة تجري وتلهو بين المعامل والورش وقاعات الطلبة وتعرف طريقها دون أن تصطدم بأرجل الموائد أو الكراسي، ويدونون النتائج ويراجعون كل شيء لتحقيق هذا الهدف الطموح.

ومع إشراقة كل صباح جديد يقترب العلماء من تحقيق الإنسان الآلي الدقيق، الذي لأجله عقدت مؤتمرات علمية كثيرة لعل أبرزها مؤتمر المؤسسة القومية للعلوم بالولايات المتحدة الأمريكية الذي انعقد لمناقشة مجالات الاستخدام المنتظرة والتطبيقات المرتقبة.

هناك من اقترح ابتكار أقراص ذكية ذات مستشعرات خاصة يتم عرسها داخل جسم الإنسان، وتحمل الأقراص مواد طبية مركزة، ومتى استشعرت بوادره مرض تحولت الأقراص من وضع الترقب إلى التصدي للفيروسات والميكروبات، فإن حققت النصر كان بها، وإن أصابها الياس أطلقت عبر حاسبها ونظامها الإلكتروني صرخة استغاثة تستحث العون والمدد.

وطالب الأطباء باستخدام الميكروروبت كفريق صيانة للشرايين، يتجول داخل الأوعية والشرايين، يلتقط الصور ويرسلها إلى الأطباء ويحدد الأطباء مواقع رواسب الكوليسترول، ومن الأطباء يتلقى أمر تنظيف الرواسب وفتح المسارات للدم مستخدما أدق وأروع معدات التنظيف في العالم، كما يتولى فرز خلايا الدم خلية خلية، فإن وجد خلية مريضة أو ضعيفة حطمها وأتي عليها قبل أن تؤثر في خلايا الكرات السليمة.

والآمال عريضة والآفاق لا حدود لها لدرجة أن أحد الباحثين في جامعة ستانفورد نشر كتابا دعاه " الإنسان الآلي المليوني" نسبة إلى إنسان آلي لن يزيد طوله على جزء واحد من الملليمتر والكتاب شائق وممتع وخيالي لأبعد الحدود، ومع هذا فإن كل ما ذكره المؤلف أضحى قاب قوسين أو أدنى من دنيا الواقع، فقد تنبأ بإنسان آلي يعيش داخل القلب يراقب حركته ويرسل إشاراته للأطباء مستخدما حاسبا الكترونيا في حجم الذرة كما أسلفنا.

وأترك الخيال أمام القراء ليتصوروا مدى فوائد هذه الآلات في الطب والهندسة والحراسة وفي أعمال أخرى عديدة يصعب حصرها.. فهي مجالات جديدة تماما لم يسبق أن طرقتها البشرية من قبل.

هذه إطلالة على القرن القادم.. ومن لا يصدق.. أقل له: ومن منا كان يصدق إمكان وصول إنسان للقمر فقد كانت رحلات القمر والفضاء مجرد خيالات كتاب وقصاصين حولها العلم إلى حقيقة وأصبح السفر للفضاء عملا روتينيا لا توليه وسائل الإعلام اهتماما كبيراً.

الأزهار تملأ الدنيا والنحل يجمع الرحيق ويملأ البطون بالعسل، وما تقدمه معامل البحوث اليوم هو الأزهار وعقول العلماء هي النحل الذي يجمع ويطور ويأتي بالغريب والمثير مع إشراقات القرن القادم، أطال الله في أعماركم وأعمارنا.

 

محمد نبهان سويلم

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الميكروبات إنسان آلي لا تلحظه العين





ناقل حركة وترس وتزربين كلها تم إنتاجها ولا يتجاوز طولها مائة جزء من ألف جزء من الملليمتر





داخل هذه الأوعية الدموية سيتم حقن الميكروروبت لقتل الفيروسات