هل للسينما مستقبل؟ أحمد أبوزيد

هل للسينما مستقبل؟

عدد دور السينما يتراجع، ورواد السينما يتضاءلون، وفي الوقت نفسه تنتشر أجهزة الفيديو ويسود التلفزيون. فهل تستطيع السينما الصمود لتحديات المستقبل؟

من الأقوال المأثورة عن لينين أن "السينما هي أهم الفنون على الإطلاق". وهذه نظرة صائبة من مفكر سياسي له رؤية نافذة ويعرف قدر أجهزة الإعلام ووسائله في التأثير بشكل لا شعوري في حياة الناس وتوجيه أفكارهم والسيطرة على مشاعرهم والتحكم في تصرفاتهم وفي الوقت ذاته الارتفاع بأذواقهم وأساليب تفكيرهم إذا استخدمت هذه الأجهزة والوسائل بطريقة واعية هادفة.. وربما كانت السينما وسيلة الإعلام والاتصال الجماهيري الوحيدة التي بصبغة فنية وإبداعية واضحة ومميزة، أو على الأقل يتوافر لها قدر من الإبداع الفني لا يتوافر لغيرها من الوسائل، وهي بذلك تعتبر (فناً) إعلاميا وثقافيا وترفيهيا في وقت واحد، وتجمع على هذا الأساس أكثر من وظيفة وتؤدي أكثر من رسالة تجد طريقها في يسر وبطريقة لا شعورية في الأغلب إلى نفوس الجماهير وعقولهم وتلقى لدى تلك الجماهير صدى واستجابة لا تحظى بهما وسائل الإعلام الأخرى، وإن كان هناك من الكتاب من يرى عكس ذلك ويذهبون إلى أنه من السخف أن نتكلم عن الفن والثقافة بالنسبة للسينما والفيلم السينمائي لأن السينما مجردة أداة للتسلية والترفيه، وإذا كانت تحمل وتؤدي أي رسالة ثقافية فإن ذلك يأتي عن طريق الغرض فحسب وأنها لا تعكس إلا أدنى مراتب الإبداع الفني الخلاق.

وبصرف النظر عن هذا الاختلاف في الرأي والتباين في النظرة، فان المسألة التي تشغل أذهان الكثيرين في العالم العربي، بل وفي الخارج أيضاً، هي ما مستقبل السينما؟ وهل يمكن أن يكون هذا المستقبل مبشرا بالخير إزاء انتشار التلفزيون والفيديو اللذين يقومان بنفس الوظيفة وربما بكفاءة أعلى مع توفير قدر من الراحة للمشاهدين لا يتيسر مثله للسينما، إذ ينقل التلفزيون والفيديو الأفلام التي يحبها الناس ويختارونها هم بأنفسهم وفي بيوتهم دون أن يتجشموا مشقة الانتقال.

والملاحظ على العموم أن عدد دور السينما في معظم أنحاء العالم بما في ذلك الدول المتقدمة مثل بريطانيا يتضاءل ويتراجع سنة بعد أخرى. وهذا واضح في العالم العربي، أو على الأقل في مصر، وهي المجتمع الذي أعرفه في هذا المجال أكثر من غيره من المجتمعات العربية الأخرى، كما أن عدد رواد السينما على العموم يتراجع هو أيضاً وإن كان ذلك يتفاوت من دولة لأخرى. ولكن هذا لا يعني أن الفيلم السينمائي لم يعد يحتفظ بدوره الفعال كوسيلة من وسائل التواصل. فمهما يقل عن انتشار التلفزيون فأنه لم يقض، والأغلب انه لن يقضي على صناعة السينما، خاصة أن التلفزيون يعتمد إلى حد ما على الأقل على الأفلام السينمائية التي يعرضها في أوقات مختلفة، بل وتقوم برامج كاملة وراسخة في التلفزيون على هذه الأفلام مثل برنامج "نادي السينما" في أكثر من دولة عربية، أو برنامج "أوسكار" أو غير ذلك من البرامج والمسميات.. وإذا كان ظهور التلفزيون وانتشار الفيديو قد نجم عنهما إغلاق عدد من دور السينما لانصراف الناس إلى مشاهدة التلفزيون وبرامجه المتنوعة وأفلامه التي ينقلها إليهم في بيوتهم ويوفر عليهم بالتالي متاعب الانتقال إلى السينما وبخاصة في المدن الكبرى التي تعاني من كثرة السكان وشدة الزحام وصعوبة أو حتى سوء وسائل المواصلات وتدهور أخلاق الناس من رواد السينما وسوء سلوكهم وتصرفاتهم بصورة عامة، فان ذلك لا يعنى أن السينما والأفلام السينمائية في ذاتها فقدت بريقها أو أنها أصبحت أثرا من آثار الماضي، لأن إنتاج الأفلام التليفزيونية لا يشغل الا مساحة ضئيلة نسبيا من خريطة عرض الأفلام. ثم إن مشاهدة الأفلام (السينمائية) على شاشة التلفزيون برغم كل ما توفره من راحة وجهد ووقت ومال للمشاهد، فانها تحرمه من متعة الخروج والانتقال إلى ( الحفل) السينمائي على الرغم مما قد يصاحب ذلك من مضايقات.

وتتميز السينما على بقية وسائل وأساليب الإعلام والاتصال الجماهيري والتسلية بأنها تجمع بين أكثر من أداة وتخاطب أكثر من حاسة من حواس الإنسان، ولا يماثلها في ذلك سوى التلفزيون الذي هو على أية حال نسخة متطورة - والأغلب أنه نسخة مشوهة - من السينما. فالسينما فن بصري وسمعي لأنه يجمع بين الصورة والحركة والتأثيرات الموسيقية والصوتية الأخرى بل وأيضا المؤثرات البيئية التي تنقل الواقع وتجسده، وذلك فضلا عن أنها فن يخاطب عقول الناس ويستثير خيالهم ويداعب عواطفهم ومشاعرهم ومن هنا كان تأثرها الشامل العميق. وثمة من المفكرين والنقاد والمهتمين بأساليب الاتصال الجماهيري من يرون أن السينما هي (الصناعة) الإعلامية والاتصالية الوحيدة التي يمكن اعتبارها (فنا) على درجة عالية من الرقي والسمو، وذلك إذا توافرت فيها دقة الإخراج وما يتصل به من براعة التصوير وعمق النص ورقة وعذوبة الموسيقى والمؤثرات الصوتية الأخرى، أي أنها تجمع في الحقيقة بين أكثر من فن واحد من الفنون التشكيلية والسمعية والبصرية المجردة: فن الديكور وفن التصوير وفن اختيار المواقع وزوايا اللقطات وتوزيع الضوء وتوعية الموسيقى إلى جانب النص الأدبي الرفيع والحوار الراقي وذلك كله علاوة على نوع السلوك الذي يصدر عن الممثلين وأساليب الخطاب. فهذه كلها صناعات و(فنون) يحركهـا ويستغلها المخرج الذي لا بد أن يكون على درجة عالية من القدرة على الإبداع. وتاريخ السينما- حتى في وطننا العربي - لا يخلو من بعض الأفلام التي بلغت درجة عالية من الإبداع والاتقان.

كل هذه أمور معروفة ولا خلاف عليها، ولكنها تمهد السبيل لإثارة السؤال المهم: هل للسينما مستقبل ازاء التغيرات الحالية وبخاصة بعد ظهور الفيديو وانتشاره وما يقدمه من تسهيلات لا تتوافر لصناعة السينما؟

السينما فن راق

وليس من شك اذن في أن السينما تعتبر أحد الفنون الراقية إذا نحن أخذنا في الاعتبار المعايير السائغة، ولكنها تعتبر في الوقت ذاته صناعة لها سوقها التي يجري عليها ما يجري على الأسواق من رواج وكساد وتقلبات تخضع لعوامل بعضها يتعلق بالصناعة ذاتها والبعض الآخر يتعلق بالظروف المحيطة بتلك الصناعة. وحتى الآن لا تزال صناعة السينما رائجة وإن كانت هناك شكاوى مما تعرض له في الوقت الحالي من أوضاع قد تؤدي إلى البوار مما يهدد وجود هذه الصناعة ومستقبلها.

وجانب كبير من هذه الأوضاع التي تهدد صناعة السينما يرجع إلى تلك الصناعة ذاتها وإلى المشتغلين بها الذين يعتبرون مصدرا أساسياً لخطر حقيقي.

فهناك أولا مشكلة التمويل والإنتاج والتوزيع وهي عمليات مهمة ولكن كثيرا ما تقع في أيدي أشخاص لا يهتمون بالسينما كفن قدر اهتمامهم بها كمصدر للاستثمار، والكسب المادي، ولذا فإنهم ينظرون إلى الفيلم من زاوية الربح الذي سوف يعود عليهم، ويدركون أن الارتفاع بمستوى الفيلم إلى ابعد من درجة معينة قد يكون على حساب الكسب المادي ومن هنا تأتي التضحية من جانبهم بالفن في سبيل الربح. وهذا يفسر إلى حد كبير ذلك الاهتمام البالغ بأفلام العنف والجنس التي تجذب إليها فئات كثيرة وكبيرة العدد ولكنها من مستويات ثقافية واجتماعية متواضعة. ومن الصعب أن نزعم أن كل أو معظم المنتجين الذين يتولون الإنفاق على صناعة الفيلم في الوقت الحالي وبخاصة في وطننا العربي لديهم نزعة فنية جمالية سامية أو أنهم يحملون رسالة اجتماعية وثقافية يريدون توصيلها عن طريق السينما والفيلم.

يضاف إلى ذلك ارتفاع أجور الممثلين ارتفاعا فيه كثير من المغالاة والمبالغة ويتبع ذلك بالضرورة الارتفاع النسبي في أجور بقية العاملين في السينما وفي الفيلم مما يضع أعباء كثيرة على تكاليف الإنتاج، وهي أعباء يتحملها في آخر الأمر الجمهور الذي عليه أن يقابل ارتفاع إثمان التذاكر بدرجة مبالغة فيها، مما يؤدي إلى انصراف قطاعات كبيرة من المجتمع عن ارتياد دور السينما والاكتفاء بالتلفزيون والفيديو. ومما يؤسف له أن الفئات التي تنصرف عن الذهاب إلى السينما نظرا لارتفاع إثمان التذاكر هي الفئات الأكثر ثقافة والتي لها حظ أوفر من العلم ومن الرقي الفكري والسمو الذوقي والفني لأنها هي الأقل قدرة على الإنفاق. ويساعد على انصراف هذه الفئات المثقفة الواعية عن السينما هبوط مستوى الأفلام حتى تجذب إليها القطاعات العريضة من الجماهير ذوي المستوى الثقافي الشديد التواضع وذلك لتغطية تكاليف الإنتاج بما فيها أجور الممثلين وهذا هو ما كنا نقصده من قولنا أن المشتغلين بالسينما يمثلون خطرا داهما على مستقبل ذلك الفن وتلك الصناعة.

ثم هناك الدعاوى التي تطلق ضد السينما وتتناسى رسالتها الثقافية الاجتماعية وترى فيها مجرد مصدر للتسلية وبالتالي إضاعة الوقت والمال والجهد فيما يعود على المجتمع ذاته بالشر والأذى، وهو أذى يتمثل في انتشار العنف وتعاطي المخدرات وانحراف الشباب والنظرة الخاطئة إلى الجنس وكل ما يترتب عليه من تفكك الأسرة والحياة العائلية والقيم الاجتماعية والأخلاقية كنتيجة مباشرة لإقبال السينما على تناول موضوعات بعينها دون إدراك لتأثيرها المدمر. وقد يكون في هذه الدعاوي غير قليل من المبالغة، ولكنها دعاوي لا تخلو من بعض الصحة ولها ما يبررها ويسندها من واقع الحال في السينما وفي الأفلام المتداولة في السنوات الأخيرة سواء في مصر والبلاد العربية أو في الخارج وبالذات في السينما الأمريكية. وليس العيب في السينما ذاتها كفن أو حتى في صناعة الفيلم من حيث هي صناعة، فالفن نشاط (محايد) في ذاته وأن كان يحمل رسالة تتوقف طبيعتها على شخصية المرسل وتكوينه العقلي والذهني وتصوره وبالتالي لنوع الرسالة التي يريد توصيلها، ونظرته إلى نوعية الجمهور الذي سوف يستقبل تلك الرسالة ومدى فهمه لها وتقبله لمحتواها مثلما تتوقف على قدرة الجمهور الناقدة على التعمق وراء أحداث الفيلم ووراء الحوار لمعرفة المغزى الحقيقي لتلك الأفعال والحوارات. وصحيح أن السينما حين تعرض لاحداث العنف وتناول المخدرات وحالات الانحراف أو التحرر الجنسي إنما تقدم بعض الصور الواقعية المستمدة من الحياة، ولكن يبقى فوق ذلك أسلوب معالجة هذه الأمور وطريقة عرضها والهدف من تقديمها والمغزى الذي يراد الخروج به من مشاهدة هذه الأفلام، فهي كلها عناصر أساسية في تحديد رسالة السينما وبالتالي تحديد نوعية الجمهور الذي يقبل على مشاهدة تلك الأفلام.

مأساة السينما

جانب كبير من مأساة السينما يتحمل وزره النقاد السينمائيون الذين كثيرا ما يهتمون بإبراز الجوانب البراقة في الأفلام برغم ما قد تكون عليه من تفاهة وسطحية أو تستهويهم أسماء الممثلين الذين يطلقون عليهم اسم (النجوم) بغير تفرقة أو تمييز، وذلك في الوقت الذي لا يكاد هؤلاء النقاد يخضعون تلك الأفلام لمحكات نقدية موضوعية من حيث الإتقان والإبداع الفني وعمق الموضوع مع طرافته والرسالة التي يحملها الفيلم، إلى جانب المتعة الذهنية وعنصر التسلية وهو عنصر لا يمكن إغفاله بحال حتى في أشد الأفلام جدية وصرامة. وهذا معناه أن النقاد ينبغي عليهم إدراك رسالتهم الحقيقية هم أنفسهم فيما يتعلق برسالة الفيلم والتعريف بها وتقريبها إلى الأذهان بل والدعوة بطريقة مستترة إلى الارتفاع بالمستوى الثقافي من خلال الفيلم والسينما. ولن يتيسر ذلك إلا إذا كانت هناك معايير واضحة وراسخة للتقويم السينمائي يمكن في ضوئها الحكم على الفيلم من حيث هو إبداع فني ومن حيث هو(صنعة) ومن حيث هو رسالة ثقافية ومن حيث هو متعة ذهنية وأداة تسلية رفيعة، وذلك كله في ضوء القيم السائدة في المجتمع وبغير تعسف أو افتعال أو ترفع واستعلاء. وصحيح أن برامج نادى السينما في بعض التلفزيونات العربية تقوم بهذه المهمة - أو بعضها- وبخاصة حين تستضيف ليست فقط بعض النقاد المرموقين من المشتغلين بصناعة السينما ولكن أيضا بعض المثقفين أو المفكرين الذين يحملون في أذهانهم شيئا من هموم السينما والخوف على مستقبلها والإشفاق على مصيرها الذي يبدو مظلمـا في الوقت الحالي. كما قد تدعو بعض المتخصصين في مختلف فروع المعرفة ممن يتصل تخصصهم بالأحداث والوقائع التي تتناولها بعض هذه الأفلام سواء كانت أحداثا تاريخية أو حقائق علمية مما قد يساعد على خلق وعي سينمائي متطور بين المشاهدين، ولكن هذا لا يكفي نظرا لأن هذه البرامج وأمثالها لا تشغل سوى جزء بسيط من خريطة البرامج التلفزيونية.

أن تكوين ثقافة سينمائية رفيعة مسألة تتعلق في آخر الأمر ومن وجهة نظرنا بأسلوب التنشئة الاجتماعية للفرد منذ بداية حياته - على الأقل بداية حياته الواعية - بحيث تكون السينما جزءا من تكوينه الذهني ومن ثقافته الشخصية والاجتماعية. وربما تستطيع المدارس أن تلعب دورا في ذلك، فأنا اذكر أنني حين كنت تلميذا بالمدرسة الابتدائية كانت إدارة المدرسة - وهي مدرسة حكومية - تهتم بعرض أفلام سينمائية منتقاة بصفة دورية وعلى فترات متقاربة وساعد ذلك بغير شك على تكوين وعي سينمائي بين أبناء الجيل القديم الذي أنتمي إليه، وان كان هذا الوعي السينمائي الرفيع هو سبب ما نشعر به من فجيعة إزاء الوضع المتدهور للفن السينمائي في الوقت الراهن. وليس ثمة ما يمنع من أن تأخذ المدارس بهذا النظام، أو أن تعود إلى تلك الممارسة الواعية الراقية القديمة بحيث تصبح الثقافة السينمائية الفنية الرفيعة جزءا من التكوين الذهني لأعضاء المجتمع دون أن يكون في ذلك إرهاق لأذهان الطلاب وبحيث لا يعتبر تلك العروض السينمائية جزءا من المقررات الدراسية الكفيلة بقتل كل ما هو جميل وطريف في أي مشروع ثقافي عام. والطريف هنا هو أن أحد كبار المهتمين بوسائل الإعلام الجماهيري في بريطانيا وهو البرت هنت يبدي عجبه واندهاشه من النظرة العامة السائدة في بريطانيا إلى السينما ويتساءل لماذا تكون هناك اهتمامات واسعة وجدية بتقريب وتعليم ونشر الثقافة الموسيقية مثلا أو الثقافة المسرحية في المدارس بينما لا يفكر أحد في نشر الثقافة السينمائية بين الطلاب؟ ثم يذهب إلى القول إن مثل هذا العمل الذي يقدم عن وعي وحسن تخطيط وإعداد سوف يساعد على تنمية القوى الإبداعية والخيال عند الناس ويرتفع بمستوى التذوق والقدرة النقدية التي تساعد بدورها على الارتقاء بذلك الفن ما دام هناك جمهور واع مثقف وناقد موضوعي وبعيد عن المجاملات.

وبذلك وحده يمكن إنقاذ فن السينما كإحدى الصناعات وأحد الفنون التي تؤدي وظيفة اقتصادية إلى جانب الرسالة الفنية والمتعة الذهنية.

 

أحمد أبوزيد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




هل للسينما مستقبل؟