أزمة الفكر الاقتصادي عامر ذياب التميمي

هذه إطلالة على القيم المدنية المعاصرة: الصحة، الأمن، والرفاهية.. كيف تمت صياغة هذه القيم، وهل حافظت على بُعدها الأخلاقي أم أنها نمت نموا سرطانيا على حساب أصولها وغاياتها؟.

في شهر (كانون الأول) يناير 1984 أدى تسرب أحد الغازات السامة في مصنع بشركة كيميائية تعمل في الهند إلى مقتل وإصابة الآلاف، ولقد اتهمت تلك الشركة بأنها لم تتقيد بشروط الأمن الصناعي. وأمثال تلك الحادثة الأقل والأكثر خطورة لا تنتهي، من تسرب للشعاعات النووية في مفاعل "تشرنوبيل"، إلى التفجير الهمجي لآبار البترول في الكويت وآثار هذا التدمير، في خسائر مادية معنوية بيئية وحضارية، وانطلاقا من هذا "الأمن" الذي هو قيمة عصرية سنحاول الإطلالة على القيم المدنية المعاصرة الثلاث: الصحة، الأمن، الرفاهية، أو بلغة رائد التحليل النفسي "سيغموند فرويد": النظافة، النظام، الجمال، وإذ لا نحاول في هذه الإطلالة رؤية قيم مطلقة بنظرة مطلقة، فلأن قيم المدنية المعاصرة محددة وواضحة المعنى والبعد وليست مطلقات.

الرفاهية هدف أعلى

إن المدنية الراهنة التي حلت محل الحضارة مع مطلع القرن التاسع عشر، بدأت تتحدد طلائع قيمها ابتداء من المرحلة البشرية المتأخرة، أي بين القرون 1500 و1800 م، هذه المدنية التي تتبع " شبنغلر" أحد كبار فلاسفة الحضارة سيرورتها الحضارية في مؤلفه "تدهور الحضارة الغربية" والذي هو أشبه ما يكون ببطاقة نعي للحضارة الغربية وللمدنية التي تشكل عند "شبنغلر" انعطافا حاسما نحو الحياة:

" كواقعة تعالج على ضوء العلاقات البيولوجية والسببية العلية، الأمر الذي يتجلى بصورة خاصة في العاطفة والخيال اللذين يندفع بهما الناس نحو فلسفات الهضم والتغذية والصحة".

كذلك يضع "هيجل" الرفاهية كهدف أعلى:

"وللذات الحق في أن تنشد رفاهيتها وهذا الحق هو جانبها الأخلاقي".

يتجاهل كل من "شبنغلر" المتشائم و "هيجل" المتفائل أثر ديكارت في نظم القيم المدنية الحديثة والمعاصرة، بل معنى القيم لأن كلا منهما يتجه إلى مشروع ميتافيزيقي مطلق. وإذا كان "شبنغلر" يتوقف عند وصف القيم المدنية ويدينها باسم الروح الفاوستية، فإن " هيجل " يعتبر هذه القيم المدنية أدنى في القيم المطلقة التي يرسمها مشروعه في تجسيد الفكرة المطلقة.

إذ لا نتوقف عند هذه الآراء بفضل الرجوع إلى "ديكارت" لأنه تاريخيا رائد الفكر الحديث ولأننا إذا شئنا أصول هذه القيم، استطعنا ذلك دون معرفة كيفية تشكلها. لذا فإننا نعيد قراءة "مقالة الطريقة" لاستخلاص هذه القيم التي ظهرت لأول مرة بهذا الشكل المنتقى والمصفى في تاريخ الفكر الإنساني.

يتجلى اعتقاد "ديكارت" بقدرة العلم على وقاية الإنسان من المرض ومن الخوف والبؤس في "مقالة المنهج" أو "مقالة الطريقة". وهذا الاعتقاد الديكارتي بالقدرة العلمية هو الذي تفتح فيما بعد ليولد تفتحًا للقيم العملية المدنية الراهنة والتي هي الصحة، الأمن، الرفاهية. وفي الصفحة (196) في "مقالة المنهج" وبعد نقده لمعضلات الفلسفة النظرية وتقديم مبادئه الرياضية كمدخل لفلسفة عملية، يقول:

"وليس الغرض في ذلك اختراع عدد لا نهاية له من الصنائع، التي تجعل المرء يتمتع من دون أي جهد بثمرات الأرض، وبجميع ما فيها من أسباب الراحة، ولكن الغرض الرئيسي منه أيضًا حفظ الصحة التي هي بلا ريب الخير الأول وأساس جميع الخيرات الأخرى في الحياة. لأن النفس ذاتها تتعلق تعلقًا قويًا بالمزاج وبترتيب أعضاء البدن، فإذا كان من الممكن إيجاد وسيلة تجعل الناس عامة أكثر حكمة ومهارة مما هم عليه الآن، فإني أعتقد أنه يجب البحث عنها في علم الطب".

من عسر الحضارة إلى يسرها

أما "فرويد" ففي كتابه "عسر الحضارة" فإنه يعالج القيم المدنية الثلاث كما يحددها: النظافة، الجمال، النظام، وكلها تندرج في دائرة السعادة، يقول عن هذه القيم مجتمعة:

" نعترف بمستوى الحضارة الرفيعة لبلد من البلدان عندما نشاهد أن كل شيء فيه يستثمر بعناية وينظم تنظيما ناجعًا من أجل أن يستغل الإنسان الأرض، ومن أجل ضمان حمايته من قوى الطبيعة، وبكلمة واحدة، عندما نشاهد أن كل ما في ذاك البلد منظم ابتغاء نفع الإنسان ".

ويضيف قائلاً:

"فنحن في الواقع لا نتردد في الترحيب بقرينة أخرى تدل على الحضارة وكما لو أننا كنا نود الآن التنكر لرأينا الأول، وهو الاهتمام الذي يبديه الناس حيال أشياء خالية من أية منفعة، بل بالحري أشياء غير نافعة في الظاهر، وذلك مثلاً عندما نرى في مدينة من المدن الحدائق العامة، هذه الأمكنة الضرورية للإنسان باعتبارها مستودعًا للهواء وأرضًا للعب تزينها فوق ذلك أرجاء فسيحة ذوات أزهار أو نرى أيضًا آنية للزهور تزين نوافذ الدور. إن "اللانافع" هذا، الذي نطلب من الحضارة أن تعترف بأهميته ليس سوى الجمال كما هو بين".

"إننا نطلب من الإنسان المتمدين إجلال الجمال حيثما يجده في الطبيعة ونطالب بأن تبذل أيادي الصناع كل ما تملك لتزيين الأشياء".

أما عن "النظافة" فيقول:

"إننا نشعر بجرح يمس شعورنا ونتحدث عن الهمجية، أي عن نقيض الحضارة عندما نرى طرف (فينفالد) (غابات في ضواحي فيينا) وقد انتثرت فيها الأوراق المبعثرة. إن كل اتساخ يبدو لنا مما لا يمكن أن يتفق مع حال التمدين".

ويجمع "فرويد" القيم الثلاث في تعبير واحد قائلاً: "إن مثل الجمال الذي لا نستطيع أن نرضى بطرده من بين مشاغل الحضارة مثل كامن سلفا لإظهار مدى أن الحضارة لا تقتصر على العناية بالنافع وحسب، وأن فائدة النظام فائدة جلية للعيان. أما النظافة فينبغي اعتبار أنها مما يقتضيه أيضا حفظ الصحة ".

حتى أنه يؤكد:

"إن أحدا لا يتطوع لخفض منزلة الجمال والنظافة والنظام إلى منزلة ملحقات ثانوية".

يبقى أن نلاحظ أن هذه القيم المدنية الثلاث ليست شيئًا آخر منفصلاً عن الحق، الخير، الجمال، أي عن القيم المطلقة، بل هي تحققها وتجسدها العملي والعيني، فالقيم المطلقة هي غايات عليا تهدف إليها البشرية مازالت وستبقى هدفاً أعلى للبشرية. فإذا كانت قيمة الجمال تعني أن أعرف وأحيا الجمال، فما هي الدرب الموصلة إلى الجمال إن لم تكن تدرجًا يوميًا في معرفة جمالات صغرى تترابط في سياق يكتمل عبره معنى الجمال، فالجمال، والحقيقة، والخير قيم تكتسب بالخبرة وتتكامل عبر الخبرة، فما القيم المطلقة إلا مثل عليا تكون عبر القيم المدنية اليومية، وهذه القيم المدنية الثلاث: النظافة، الجمال، النظام، أو بتعبير آخر الصحة، الرفاهية، الأمن هي قيم جديرة بأن يتابعها الإنسان المعاصر وهي التي تتحقق عبرها القيم المطلقة. وليس على الإنسان المعاصر أن يبقى منتظرًا انفتاح القيم المطلقة فوق الكوكب الأرضي مثل انفتاح "مغارة علي بابا" أو مرورها مصادفة على قارعة الطريق مثل مرور غادة حسناء بين جمع دميم.

يقول الفيلسوف الكبير "جون ديوي":

" لا يوجد شيء يكشف به المرء عن ذاته بصورة كاملة مثل الأشياء التي يحكم بأنها جديرة بأنه يرغب فيها أو يستمتع بها".

ويضيف:

(إن تكوين حكم أو ذوق جيد مثقف وعامل بصورة فعالة بشأن ما يمكن أن يدهش جماليًا، ويقبل فكرتا ويستحسن أخلاقيا، هو المهمة السامية التي تلقيها وقائع الخبرة على عاتق الكائنات البشرية".

إن الخير والحقيقة والجمال هي المثل العليا التي تهدف إليها البشرية لكن هذه المطلقات تبقى مطلقات وتبقى مندرجة في الأفق الشمسي للأحلام البشرية العليا، فالخير والحقيقة والجمال قيم لا تكون إلا بتحقيق قيم وقتية زمنية هي النظافة، الجمال، النظام، أي الصحة، الرفاهية، الأمن. لذا فإن السعي للصحة، للأمن، للرفاهية هو في حد ذاته سعي للخير، للحقيقة، للجمال. بل إن تلك الكلمات المطلقات تفقد معناها ودلالتها بل وتصبح جوفاء قاحلة إن لم تكن متعينة، فالعصور الحديثة التي تتميز بالفعالية والدقة والجدوى تبتعد كثيرًا عن فضفضة الكلام وهلامية الأحلام.

وما يصيب البشرية من كوارث وما يقع منها من آثام وشرار لا يرجع إلى قيم عصرنا الحديث بقدر ما يرجع إلى عدم إدراك هذه القيم، ويرجع إلى الرواسب السديمية لما قبل الحداثة ولما قبل الحضارة. وأي بحث عن تعزيز قيم الصحة، الأمن، الرفاهية هو التحقيق الفعلي للمدنية، عبر تحقيق قيمها. وإذا تساءلنا عن المعنى الضمني لهذه القيم لوجدنا أنه "الاحترام" ففي هذه القيم يتجلى احترام الإنسان لنفسه وللآخرين. فالصحة هي احترام الجسد، والأمن هو احترام الوجود، والرفاهية هي احترام النفس. وهل المدنية هي غير صقل الإنسان من وحشيته ووحشته وغير احترام لوجوده ولوجود الآخرين، لبقائه وارتقائه ولبقاء الآخرين وارتقائهم، لسعادته ولسعادة الآخرين، وفي القيم المدنية المعاصرة يتجلى أعظم احترام للإنسان، والمظاهر والظواهر السلبية في عصرنا الراهن ليس سببها هذا العصر "التقني" بل جهل وإغفال وإهمال قيم هذا العصر.