بينالي القاهرة الدولي الثامن
الروح في النفس.. الروح في البدن.. الروح في الآلة...ثلاثة محاور رئيسية شكلت بيان بينالي القاهرة الدولي الثامن الذي افتتح صباح الخميس 15 مارس 2001. واستمر لمدة شهرين, وهذه الدورة تأتي كأول مبادرة دولية لحوار الفن والثقافة في الشهور الأولى لبداية القرن الواحد والعشرين, وتقام في ظل متغيرات جوهرية ونوعية وربما أيضاً انقلابية في مجال علوم الاتصال والتكنولوجيا, وبالتالي في الفن وفي الثقافة.
وكانت مصر قد شهدت قبل يومين من افتتاح البينالي حدثا فنيا عالميا آخر في جنوب مصر وهو ختام (سمبوزيم) النحت الدولي السادس في أسوان لإحياء فن النحت على الأحجار الصلبة وتسلم خلاله سبعة عشر فناناً يمثلون ثماني دول شهادات تقديرية.
كما تم تكريم شيخ المثالين العرب الفنان الكبير محمود موسى. وأيضاً شهدت القاهرة في التوقيت نفسه حدثاً فنياً مهماً يقام للعام الثاني على التوالي تحت عنوان (مهرجان النطاق للفنون) نظمته مجموعة قاعات عرض خاصة بالفن المعاصر, وأقيم في وسط القاهرة ما بين جاليريهات الفن والمقاهي والمحلات العامة والمراكز الثقافية.
إن هذا النشاط الفني والثقافي يطرح القاهرة كعاصمة من عواصم العالم المليئة بالمعارف والحضارات الإنسانية, فعلى أرضها بزغت شمس الحضارة المصرية منذ الأهرام, وعلى أرضها بنيت أقدم كنيسة, وأقدم مسجد, وتضافرت على أرضها الثقافات الإغريقية, والرومانية, والقبطية, والإسلامية, وتفاعلت روحها مع روح العالم, ورغم مشاكلها اليومية المزمنة, كعاصمة كبرى, فمازالت القاهرة قادرة على البهجة وعلى احتضان المبدعين من كل أنحاء العالم.
51 دولة
شهدت الدورة الثامنة من بينالي القاهرة الدولي, أعمالاً فنية لـ(230) فناناً من أنحاء العالم, قدموا إبداعاتهم في شتى مجالات الفنون المرئية, التقليدية, والحداثية, في تقنيات جديدة تتميز باستخدام تكنولوجيا العصر للأعمال الفنية, بدءاً من الصور المرسومة باليد مباشرة, إلى اللوحات المتحركة مع أشعة الليزر والمؤثرات الصوتية والضوئية, بجانب اللوحات المطبوعة والأعمال النحتية والمركّبة بخامات مختلفة, والتي تتسم بها العمارة الحديثة, وقد قيّم رئيس بينالي القاهرة الفنان د. أحمد نوار هذه الدورة من خلال نموها المطرد الملحوظ, بأنها ترفع بينالي القاهرة إلى درجات عليها تضعه في الصف الأول من بيناليات العالم, وخاصة بينالي فينسيا الإيطالي, وذلك رغم الموارد المحدودة لقطاع الفنون التشكيلية المشرف على تنظيم بينالي القاهرة.
وتعد هذه الدورة من أكبر الدورات في عدد الدول المشاركة, وعدد الفنانين, وعدد الأعمال الفنية, فقد شاركت فيها معظم الدول العربية.
وجاءت المشاركة الإفريقية ضعيفة للغاية, ومن آسيا, شاركت إيران لأول مرة, وباكستان بفنانة واحدة حصلت على جائزة البينالي, كما شاركت الهند وروسيا وكازاخستان. ومن أمريكا الجنوبية كانت المشاركة فعّالة وقوية.
أما المشاركة الأوربية فهي التي أكسبت بينالي القاهرة هويته المعاصرة, ووضعت أعمال الدول العربية, والعالم الثالث في تناقض رهيب إزاء تقنيات فناني أوربا التي تتسم بالحداثة والمستقبلية.
حيث خرج العمل الفني عن إطاره التقليدي الذي مازال يمارس في عالمنا العربي.
أما الجناح الأمريكي فقد جاء كالعادة في مثل هذه المحافل الدولية كالصاعقة, مثلته الفنانة جوريت باري بإنشاء صالة خاصة في حديقة مجمع الفنون مزودة بأحدث التقنيات المعمارية الحديثة وتكنولوجيا العروض المرئية, وتتوسط هذه الصالة شاشة عرض عملاقة من الناحيتين لعروض الفيديو في الفراغ الذي هو مجال أعمال هذه الفنانة الأمريكية, وقد تكلف هذا المبنى نصف مليون جنيه مصري, بدعم من جهات ومؤسسات رسمية وغير رسمية أمريكية, في الوقت الذي رفض فيه الفنان الفرنسي العالمي أرمان المشاركة في البينالي لأنه ليس راغباً في شحن أعماله على نفقة الجهات الرسمية الفرنسية, لأن ذلك مناهض لسياسته ولاستقلاله الفني.
وهكذا أدرك الفنان أحمد فؤاد سليم قومسير عالم البينالي والمنشط لكل فعالياته وواضع فلسفته, أدرك أن الفن والاقتصاد والسياسة هي الثلاثية التي سنصطدم بها على الدوام في قرننا الواحد والعشرين.
لجنة التحكيم
تشكلت لجنة التحكيم الدولية من ستة أفراد: اثنان من إسبانيا - رافائيل سيرا وروزا مارتينيز - واثنان من إيطاليا - جيوا موري ومارتينا كورنياني - ومن باكستان ساليما هاشمي - ومن مصر الفنان أحمد مرسي والذي يعيش في نيويورك بأمريكا منذ أكثر من ثلاثين عاماً - ورأس هذه اللجنة الفرنسي دانييل جورج. جاء تشكيل هذه اللجنة مخيباً لكل الآمال, خاصة لفناني العالم العربي. فقراراتها انحازت للحداثة والتقنيات الغربية وللإبهار الشكلي بعيدة كل البعد عن الطرح الأساس للبينالي وهو الروح في كل شيء, فمنحت الجوائز للأعمال التي احتفت بالشكل في كل شيء.
وكان من الممكن الاكتفاء بعضو واحد لكل من إيطاليا وإسبانيا, وضم أعضاء من الدول العربية, حيث بدأ هذا البينالي منذ مولده (بينالي) عربي الطابع والأصول, ثم تحول في آخر دوراته إلى بينالي أوربي غربي التوجهات والنتائج, وخرجت منه الدول العربية خروجاً مهيناً. وقد كنت أود شخصياً أن يتم تكريم الفنان أحمد مرسي بعرض أعماله في التصوير الزيتي, عن اختياره عضواً بلجنة التحكيم, فهو بحكم واجوده في أمريكا سنوات طويلة, وبعده عن التيارات الإبداعية لفناني مصر والعالم العربي, صبغ اللجنة بصبغة غربية كاملة, حتى ولو كان بها عضو باكستاني نجح في خطف جائزة للفنانة الوحيدة التي عرضت لها أعمال متواضعة من بلده.
جوائز البينالي
وهكذا يحصل عضوا لجنة التحكيم الأسبانيان على جائزتين من جوائز البينالي (مقدار الجائزة عشرون ألف جنيه مصري - خمسة آلاف دولار أمريكي تقريباً) حصل عليها الفنان خوزيه لويس والفنانة مارينا نوينز, أما الجوائز الثلاث الأخرى من جوائز البينالي, فمنحت إلى الفنان مدحت شفيق وهو فنان مصري مقيم في إيطاليا بصفة دائمة, وإلى الفنانة منصورة حسن من باكستان, وإلى الفنان نانيد سوهيلا من هولندا.
أما جوائز لجنة التحكيم ومقدارها سبعة آلاف جنيه مصري أي أقل من ألفي دولار أمريكي, وهي الجائزة التي يمنحها عضو لجنة التحكيم لمن يختاره من الفنانين, فقد ذهبت إلى فاطمة اسماعيل من مصر عن فيلم فيديو بعنوان (نوافذ) وهي أيضاً مقررة اللجنة الدولية للبينالي ومديرة مجمع الفنون الذي ضم أقوى العروض الأوربية لبينالي القاهرة.
وأخذ الجائزة أيضاً الفنان تراس أمين من بريطانيا وجيفري هاينز من أمريكا, وماين تافمان من تركيا, وريكاردو لونجيني من الأرجنتين, وحليم كريم وبوستو مارمكو من هولندا.
أما جائزة النيل الكبرى (تي) وقيمتها أربعون ألف جنيه مصري - حوالي عشرة آلاف دولار أمريكي - فقد حصل عليها الشاب المصري الفنان معتز نصر (40 سنة) على عمل فني مركب بعنوان (ودن من طين وودن من عجين) عبارة عن حائط كبير علقت عليه آذان بشرية من الصلصال وأمامها شاشة عرض فيديو معبراً عن السلبية المطلقة التي يعاني منها إنسان اليوم. كما منحت إحدى الشركات الخاصة ثلاث جوائز قيمة كل منها عشرة آلاف جنيه (أقل من ثلاثة آلاف دولار) إلى كل من إليكس شيلليو من شيلي, وريم حسن من مصر, والفنان يوسف عبدلكي من سوريا, وهو العربي الوحيد الذي حصل على جائزة خارج جوائز البينالي الرسمية, ويوسف عبد لكي يعيش منذ سنوات طويلة في أوربا.
وهكذا نالت مصر نصيب الأسد من جوائز البينالي ثم هولندا, ولم تحصل بقية الدول العربية إلا على جائزة خاصة من إحدى الشركات منحت لفنان مغترب, كما أن معظم الجوائز ذهبت إلى الأعمال الحداثية أو إلى أعمال نقلدها.
ويفقد بذلك بينالي القاهرة هويته العربية الإفريقية تماماً, ويتفوق بحق على بينالي فينسيا كما قال د. أحمد نوار رئيس البينالي ورئيس قطاع الفنون التشكيلية بوزارة الثقافة المصرية المنظمة لهذا البينالي.
وهكذا نظل في حاجة إلى بينالي عربي يؤكد هويتنا في ظل الاكتساح الفاحش للعولمة, الذي أصبحنا غارقين في محيطه الغامض الذي أوشك أن يبتلعنا تماماً, إن لم يكن قد ابتلعنا فعلاً.
230 فنانا وفنانة
جاءت الدورة الثامنة من بينالي القاهرة كحدث فني عالمي بالغ الأهمية, يحمل رسالة إلينا مضمونها الأساسي يتمركز في ضرورة أن نلحق بالمتغيرات الكونية, شكلاً, ومضموناً, ولا نكتفي بتقليدها, أو بتبعيتنا لها, أو البقاء في أماكننا ساكنين, وقد انقسم فنانو البينالي إلى ثلاثة مجالات إبداعية, المجال الأول يمثل الابداعات المبتكرة بالتكنولوجيا الحديثة المتطلعة إلى المستقبل. والمجال الثاني يمثل إنجازات تقلد وتتبع خالية من فعاليات إبداعية حقيقية, والمجال الثالث مازال يحتفي بالروحانيات والتقاليد التراثية والمورثات ويأمل في أن تنعكس قيمها ومفاهيمها الحضارية في إطار الاتساع المعارفي العالمي الحادث الآن بسرعة كبيرة والذي لم يعد ينظر إلى الخلف.
لقد استضافت هذه الدورة مجموعة من كبار فناني العالم, من مصر الفنان الكبير صالح رضا (70 عاما) الذي عرض لوحاته الرائعة عن الحارة والبيئة المصرية التي يعشقها, وكنت أتمنى استضافة فنان من إحدى الدول العربية ليثري هذه الاستضافة العالمية التي ضمت الفنان فابريزيو بليس (60 عاما) من إيطاليا, والفنان كارل بيدرس (88 عاما) من الدانمارك, والفنان بيتروكونسجرا (80 عاما) من إيطاليا, وقد انتشرت منحوتاته الضخمة المصنعة من الحديد في حديقة الأوبرا.
لقد انقسمت دعوة الفنانين المشاركين إلى دعوة رسمية توجه للدول لترشح من تراه من فنانيها, وإلى دعوة خاصة توجه من إدارة البينالي إلى أسماء محددة من الفنانين في أنحاء العالم, والدعوتان كانتا محل التسابق على جوائز البينالي الذي انتشرت أعماله وفاعلياته في العديد من المواقع المهمة بمدينة القاهرة التابعة لوزارة الثقافة في جهد تنظيمي كبير برؤية ثاقبة ومستنيرة لتداعيات الحركة الفنية في العالم, فانعزلت دون إرادته الأعمال التقليدية في عرض فقد الإبهار والتشوّق مثلما حدث في متحف الفن الحديث الذي ضمن معظم المشاركات العربية وكأنها دخيلة على هذا الحدث الفني, في حين تجمعت الأعمال الحداثية بتقنياتها الباهرة في مجمع الفنون, ثم توزعت بقية الأعمال وضيوف الشرف في قصر الفنون وقاعة الهناجر وقاعة الأوبرا ومركز الجزيرة للفنون في توزيع افتقد مفهوم أن تخصص لكل دولة جناح خاص بها, لا أن تتوزع أعمال فنانيها هنا وهناك, هذا من ناحية, ومن ناحية أخرى كان يمكن تجميع كل العروض في قاعات الأوبرا وقصر الفنون ومتحف الفن الحديث, دون الضرورة لهذا التشتت الذي يرهق زائر البينالي في زحام وفوضى مدينة القاهرة العريقة.
فاعليات مصاحبة
تأتي الفعاليات المصاحبة هزيلة ولا تليق بهذا البينالي الكبير, واقتصرت فقط على مجموعة حوارات تقام في أجنحة الدول أو بقاعة المؤتمرات, يقصد الفنون وهي عبارة عن لقاء ما بين الفنان أو الناقد وجمهور البينالي, وهو أساساً جمهور ضعيف ومعظمه من المشتغلين بالإبداع الفني, فمازالت مثل هذه المعارض التشكيلية سواء كانت محلية أو دولية في معزل عن الجماهير العريضة التي تراها فوق مجال إدراكها, وبالتالي يأخذ الإعلام وجهة نظر هذه الجماهير فلا يعطي مثل هذه المهرجانات الفنية حقها من الدعاية والتواصل إعلامياً بينها وبين الناس.
وقد شهد حفل الافتتاح عروضا للرقص والغناء الشعبي المصري, وكان يمكن أن يصاحب الافتتاح عروض شعبية لمختلف الدول المشاركة في فعاليات مصاحبة بقاعات العروض المسرحية بأوبرا القاهرة. إن بينالي القاهرة الدولي يجب أن يتحول من مجرد ظاهرة تشكيلية إلى حركة فنية وثقافية شاملة تتجاوز قاعات العروض المحددة وتنتشر في أنحاء المدينة, كما يحدث في بينالي فينسيا وغيره.وأخيراً, وبعد أن تحوّل بينالي القاهرة إلى حدث دولي, مازلنا في حاجة إلى بينالي عربي مائة في المائة تشارك فيه كل الدول العربية وسيكون رائعاً لو انتقل هذا المعرض العربي الكبير إلى كل العواصم العربية بالتوالي وأن تفتتح دوراته في عاصمة عربية كل مرة. إن مثل هذا الاقتراح البسيط والممكن التنفيذ, سيظل أملا محبطا مثل كثير من آمالنا المحبطة, فما أكثر المعارض في الدول العربية, ولكن دون صدى حقيقي يؤثر في الرؤية الشمولية وفي الحضور العربي المتكامل.