المجتمع العربي بين النمو الحضري والتحديث مصطفى عمر التير

المجتمع العربي بين النمو الحضري والتحديث

ظاهرتان تلازمتا في التاريخ العربي المعاصر أولاهما النمو الحضري بمعنى تزايد ساكني المدن، وثانيتهما هي التحديث وهو ذلك النوع من التغير الاجتماعي الذي يمكن رصده وقياسه، فما هو الرابط بين الظاهرتين، وهل إحداهما السبب والأخرى هي النتيجة؟!.

المجتمع العربي هو واحـد من أقدم المجتمعات، يمتد تاريخه إلى آلاف السنين، مرت عليه تجارب وتقلبات كثيرة ومتنوعة. تجارب طالت مختلف الأنشطة الرئيسية كالعمل، والاقتصاد، والسيـاسة، ومختلف العلاقات الاجتماعيـة. تجارب تمخضت عنها أشكـال متنـوعـة من الأنظمة السيـاسيـة شملت المدينـة المستقلة، والإمـارة، والدولـة المتحـدة، وانتهـاء بالإمبراطورية التى بسطت نفوذها على رقعة هائلة من الأرض في قارات آسيا، وأوربا، وإفريقيا.

عرف هذا المجتمع فترات تغير اجتماعي متعددة، تميز بعضها بالبطء الشديد، بينما أخذ بعضها الآخر شكل ثورة عارمة قلبت الأوضاع رأسا على عقب. لم يتجاوز تأثير بعضها حدود المظاهر الخارجية للبنى، وللنظم، والمؤسسات الاجتماعية، بينما طال التغير خلال فترات أخـرى، أسس وقـواعـد البنى، والنظم، والمؤسسات الرئيسية. كـما مرت عليه فترات تغير اجتماعي، اقتصرت مظاهرها على المراكز أي المدن ولم تصل إلى الأطراف. ومن بين أهم فترات التغير الاجتماعي تلك التي بـدأت مع نهاية الحرب الكونية الثانية. تميزت هذه الفترة بظهور الأقطار العربيـة المستقلة، والاهتمام ببناء مظاهر الدولة، وتفجـر النفط بكميات كبيرة في اجزاء مختلفـة من الأرض العربية، وتحوله إلى أهم مصادر الثروة.

هذه أهم ثلاثة عوامل تسببت في إحـداث سلسلة طويلة من التغييرات أخذت في النهاية صورة ما يمكن أن يطلق عليه بالتحديث المادي. فالتحديث المادي نوع من أنواع التغير على مستـوى المحيط يمكن رصـده، ومشاهدته، وقياسه كميا.

التحديث ظاهرة عالمية

ومع أن التحديـث بهذا المعنى ظاهرة عـالمية، فإن تحديث المجتمع العربي ليس صورة طبق الأصل لتجارب مجتمعات أخرى. تبدو بعض مظاهره المادية وكأنها تقليد لما جرى ويجري في المجتمعات الغربيـة المعاصرة. إلا أن أهم ما يميز التجربة العربية هو الدور المميز الذي لعبته الدولة الوطنية. وهذا ما لم يحدث في المجتمعات الغربية حيث ساهمت مؤسسات المجتمع المدني في مسيرة تحديثه.

اهتمت الإدارة الوطنية في كل قطـر عربي بوضع، وتنفيذ مجموعة من الـبرامج بهدف تغيير خصائص البيئة المحلية. توجهت هذه البرامج نحو نشر التعليم، والعناية الصحية، ووسائل الاتصال، وبناء المباني الحديثة للسكن ومكـاتب الإدارة الحكوميـة، والأسواق، وغير ذلك... ومع أن الإمكـانات المادية التي بدأت بها بعض الدول كـانت متواضعة إلا أن كل دولة حـرصت على العناية بالمجالات المذكورة آنفا بالقدر الممكن.

لقـد تركز الكثير من هذه الإمكـانات الحديثة أول الأمر في المدينة وخصوصا أن كل قطر حرص فور حصوله على الاستقلال على تحسين أو بناء العاصمة، وإظهارها بالمظهر المشابه لبقية عواصم العالم. وقد أدى الاهتمام الـزائد على الحد بتحسين العـاصمـة إلى أن تصبح المكان الأفضل من حيث توافر ظروف المعيشة الحديثة. وأدى هذا بدوره إلى تكاثر السكان في العـاصمة. كـما أن العـاصمة بإيوائها لغـالبيـة الإمكـانات من تعليـم، وصحة، وأسواق تتيح خيـارات متنوعة، وترفيه، أصبحت المكـان الأكثر جاذبية في القطر فقصدها السكان من بقية أطرافه وخصوصا من الريف. وأخذ حجم سكان العاصمة يرتفع بمعدل أعلى بكثير من معدلات الزيادة في بقية القطر. وبمرور الزمن بلغ نصيب العاصمة ربع أو ثلث وحتى أكثر من هذا من مجموع سكان القطر.

لا شك أن للنفط أهمية خـاصة في عملية التحول هـذه. بدأت عمليات البحث عنه خلال القرن التـاسع عشر، إلا أن الإنتاج للتصدير لم يبـدأ إلا في الثلاثينيات من القرن العشرين. ساهمت أنشطة التنقيب ثم التصـدير كنفط خـام في تحريك النشاط الاقتصادي، لكن دخله ظل لفترة طويلـة ومع بداية الخمسينيات أخـذ الدخل من النفط في الارتفاع. لكن الوفرة الماليـة لم تتحقق إلا في مطلع السبعينيـات واستمـرت خـلال النصف الأول من الثمانينيات بفضل تعديل الأسعار، وارتفاع حصص المشـاركة. لقد توافـرت للأقطار العربية المصدرة للنفط مبالغ مالية ضخمة. ووجهت جميع هذه الأقطار عناية خاصة لإحـداث تغييرات جـذريـة في المحيط الفيزيقي، فقد اتبعت هذه الأقطار سياسة وضع وتنفيذ مخططات للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.

وتجدر الإشـارة إلى أن مخططات التنميـة سياسـة اتبعتهـا جميع الأقطـار العـربيـة بغض النظـر عن الإمكـانات المالية المتوافـرة. ثم إنه يمكن القول إن الجميع استفاد من ارتفاع مداخيل النفط. فقد حصلت الأقطار غير النفطية على نصيب من هذا الدخل على شكل توظيف الآلاف من أبنـائها في الأقطار النفطية، ومساعدات مالية مباشرة.

لقد تمكنت مختلف الأقطار العربية من تنفيذ برامج تتصل بتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين، ومع تباين المبالغ التي صرفت في حالة كل قطر فقد حققت جميع الأقطار العربية نجاحات تؤكدها تلك المؤشرات الكمية التي يمكن قيـاسهـا. وتعكس الأرقـام التي تنشرهـا الأجهزة الرسمية تقدما كبيرا أحرزته أغلـب الأقطار العربية وخصوصـا في مجالات التعليم والصحة ووسائل الاتصال خلال فترة من الزمن تعتبر نسبيا قصيرة.

تغيرات في ظروف الفرد

غيرت هذه الإنجازات من صفات المحيط - أي من طبيعة الظروف المحيطـة بالفرد. كـما أن الارتفاع المستمر في معـدلات الدخـل بالنسبـة لقطاع كبير من العرب أدى إلى تحسن واضح في كميـة ونوعية المقتنيات، وفي مستويات الصرف وتعدد مجالاته فانتشرت منتجات التكنولـوجيا على نطاق واسع، وانتشرت العـادات والأسـاليب المتعلقة بهذه المنتجـات والمرتبطة بنمط الحيـاة العصرية. وقـد أدى كل هـذا إلى انتشار عدد من الظواهر الجديدة يتعلق بعضها بـالتركيب الاجتماعـي، وبعضهـا بعناصر الثقافـة، والبعض الآخـر بـالفرد وبمكـونـات شخصيتـه، والتحضر واحـدة من هذه الظواهر. والتحضر بمعنى الإقامة في مدن ظاهرة ليست جـديدة على المجتمع العربي. بل إننا نقـول مع الـذين سبقـونـا إن أول أشكـال التجمع البشري الذي يمكن أن يطلق عليه مدينة ظهر في أنحاء مختلفة من الأرض العربية. وعليه نزعم أن المدينة هي إحدى مساهمات المجتمع العربي في الحضارة الإنسـانيـة. فـالمدينة العربية ظهرت إلى الـوجـود، وازدهرت، وتـوسعت قبل أن تظهر المدينة الأوربية بحقب تـاريخية طويلـة. كـما عرف التاريخ العالمي أسماء مدن عربية بلغت شهرتها مختلف الآفاق. وعدد من المدن العربية الكبيرة اليوم هي مدن قديمة يصل عمر بعضها إلى مئات بل آلاف السنين، لكن ومـع هذا ظلت الغالبيـة العظمى من سكان المجتمع العربي تعيش طوال أغلب مـراحل التاريخ العربي خارج حدود المدينـة. بل مر على الوطن العربي زمن تدهورت فيه أحوال غالبية المدن بـما في ذلك العريقة منها.

وكـانت لبعض الأقطار العـربية حـاضرة متعـارف عليها منذ زمن طويل. وحتى عنـدما استعمرت حافظ المستعمر على المدينة العاصمة، وأدخل عليها تعديلات وإضافات، ووفر فيها الخدمات والتي خصص معظمها لمصلحـة الجالية الغربية. وبعـد أن حصل القطر على استقلاله، أو انحسر شكل الـوجود الأجنبي ظلت المدينـة العاصمة نفسها مثل القاهرة وبغداد وتونس والجزائر. وعواصم أخـرى بنيت فيما بعد حـول مواقع للاستيطان صغيرة قد لا تتعدى مستوى القرية، أو عدد من القرى المتجاورة مثل الرياض والدوحة وأبو ظبي.

حظيت العاصمة بعناية خـاصـة أخذت شكل بناء العمارات المكتبية والمبـاني الخاصة بـالمؤسسـات على اختلاف أنواعها، والعمارات السكنية، ومراكز السفارات والشركـات والقصور، والفنادق، والطرق، والمسـارح، والساحات وغيرها... وفرت العاصمة الكثير من فرص العمل الجديدة وبذلك اتجه نحوها الباحثون عن العمل من المدن الصغيرة ومن القـرى. كـما استقر فيهـا أغلب القادمين من بلـدان أخرى بحثا عن العمل، أو مروجين لسلع أو لخدمات. لذلك أخـذت العاصمة في الاتساع المكـاني فـزحفت على الأراضي المحيطـة بما في ذلك الزراعية، وتكاثر عدد سكانها بسرعة.

عوامل نمو المدن

لقد نمت جميع المدن العربية القـديمة منها والجديدة نتيجة عدد من العوامل تأتي الهجرة الداخلية في مقدمتها. ترك آلاف الريفيين وآلاف السكان البدو الرحل، وشبه الرحل مقار سكناهم واتجهوا نحو المدن ليستقروا فيها. ولو لم توفـر لهم هذه المدن فرص حياة أفضل لما فضلوها على الموطن الأصلي. ثـم إن بعض المدن التي لم تكـن في السابق مدنا كبيرة نمت هي الأخرى، ليس بسبب الهجرة الداخلية ولكن على حساب مناطق تقع خـارج الحدود السياسيـة. إذ أخذ، خـلال العقود الثلاثة الأخـيرة عدد هائل من سكـان بعض المناطق يغادرونها بسبب صعوبة الحياة ويتوجهون نحو مدن عربيـة تتوافـر فيها فرص عيش أفضل. إن المدن العربية الأخيرة لا تضم القاهرة، أو دمشق، أو تونس، أو الـدار البيضـاء، ولا الخرطوم، وإنما تضم طرابلس وبنغازي والريـاض وجدة، والدمام، والكـويت، ودبي، والـدوحـة. جميعهـا لم تكن في الماضى القريـب أماكن استقطاب. بـل إن بعض سكانها كـان قد قصد القاهرة، أو دمشق، أو تـونس، وأقـام فيها فترة كطالب علم، أو تاجر، أو عامل. فما الذي تسبب في قلب معادلة قـديمة؟ إن النفط بدون شك هـو المتغير المستقل الرئيسي، ولكن لـو لم توظف عائداته في بـرامج لتحديث المجتمع لما كـان للنفط هـذه الأهميـة. ومن العجيب أن يتدفق النفط، باستثناء حالة العراق والجزائر، في المناطق العربية الأقل حظا من حيث الإمكانات الطبيعية، وتوافر مظاهر الحياة العصرية. لذلك، فإن نسبة كبيرة من الأموال التي صرفت في الأقطار العربية خلال العقود الثلاثة الأخيرة كانت في مجال البناء والتشييد - أي كانت لتحديث المحيط الفيزيقي.

تجربة الدول النفطية

نفذت الدول النفطية، خلال فترة وجيزة من الزمن برامج تحول كـبرى احتاج تنفيذها إلى أيد عاملة كثيرة، وقد ساهمت الـدول غير النفطية بنصيب كبير في هـذا المجـال. وبذلك حصلت هذه الدول هي الأخرى على نصيب من الثـروة النفطيـة. كـما سـاهمت تحويـلات المهاجرين للعمل في الخارج، والمساعدات العينيـة التي قدمتها الدول النفطية في تنفيذ بعض مشروعات تحديث البيئة في الأقطار غير النفطية. ومع أن الكثيرين من أبناء الريف اشتركوا في حـركة الهجرة إلى النفط، إلا أن الحضر استفاد من أموال النفط أكثر مما استفاد الريف. فلا توجد أدلة مثلا على أن المصريين الذين تركوا ريف مصر ليعملوا في الخارج عادوا إلى منـاطقهم مطـورين لوسائلها الزراعية. بل تـوجـد أدلـة على أن أغلب هـؤلاء إما استقر فيما بعد في أحد المراكـز الحضريـة المصرية أو صرف جل مدخراته في شراء السلع الاستهلاكية.

كان معدل التحضر في عام 1991 بالنسبة لسكـان العالم 45%، وكان المعدل بالنسبة للبلدان الصناعيـة 73%. لقد فاقت المعدلات العربية باستثناء الخاصة بالصومال، واليمن، وعمان، والسودان المعدل المتـوسط الخاص بالبلدان الصناعية. وباستثناء الأردن ولبنان فإن الأقطار العربية ذات المعدلات الحضرية العاليـة بلدان نفطية، وأن سرعة تحول سكـانها إلى المدن يمكن أن تعـزى إلى ظـاهـرة التحديث التي عرفتها خلال العشرين أو الثلاثين سنة الأخـيرة. إلا أن حالة الأردن ولبنان لا شك قـد تأثرت كثيرا بما جرته الحروب العربية الإسرائيلية، إذ تسببت هذه الحروب في أضخم حالة تهجير في الوطن العربي في العصر الحديث. وبالطبع كـان الأردن ولبنان هما اللذين تأثرا أكثر من غيرهما بالنسبة لإقامة المهجرين، وهي إقامة ارتبطت بالمدينة. عندما تذكر عوامل النمو الحضري العربي خـلال العقود الأخيرة يأتي ذكر الزيادة الطبيعية التي حـدثت بسبب تحسن مستوى المعيشة مع المحافظـة على القيم التي لا تشجع على تنظيم الأسرة، والهجـرة من الـريف. لكن تجدر الإشـارة إلى أن هـذه العـوامل لم ترتبط بحركـة تصنيع نشطة أدت إلى توافر كمية كبيرة من فرص العمل، كـما لم تتسبب كوارث طبيعية ضخمة في عملية طرد هـائلة من الـريف باتجاه المدينـة، وإنما ترتبط بظاهرة عامة عرفتها المنطقة العربية خلال العقود الأخيرة وهـي تحديـث المجتمع العربي وخصوصا في مظـاهره الماديـة. ولأن التحديث على المستـوى المادي، في رأينا، يسبق التحديث،على مستوى القيم وخصائص الشخصية، لذلك ارتبطت التجربة العربية المعاصرة للتحضر بمظاهر قد لا يجد لها المرء مثيـلا في تجارب مجتمعات أخرى. من بينهـا مـؤشرات الترييف أو البدونة، والأسرة الكـبيرة، وسيطرة عـلاقات الأسرة الممتدة. ونفترض أن جميعهـا سيتغير مع مرور الزمن. فسكنى المدن والذي نظرنا إليه كمؤشر للتحضر سيقود في النهايـة إلى الحضرية التي ترتبط أسـاسا بالسلوك. وإذا كان التحـديث المادي قـد أدى إلى النمو الحضري فإن هـذا بدوره سيقـود إلى التحـديث على مستوى الشخصية.

وهذا الجدول يوضح تطور نسبة السكان الحضر في الأقطار العربية.

- النسبة المئوية للسكان الحضر:

القطر

السـنـة

1950

1975

1991

الكويت
قطر
لبنان
البحرين
الإمارات
السعودية
العراق
ليبيا
الأردن
تونس
الجزائر
سوريا
المغرب
مصر
موريتانيا
الصومال
اليمن
عمان
السودان
العالم
الدول الصناعية

51
50
40
71
25
9
35
22
25
31
25
20
23
32
2
3
2
3
6

88
77
65
76
65
32
63
30
43
46
52
35
38
44
22
16
5
10
13

96
89
84
83
78
77
71
70
68
54
52
50
48
47
47
36
29
28
22
45
73

المصدر: برنامج الأمم تلمتحدة الإنمائي، تقرير التنمية البشرية لعام 1993، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1993، ص178- 181 - إسحاق يعقوب القطب، "نحو استراتيجية للتحضر في البلاد العربية"، مجلة الفكر العربي، العدد 30،1982، ص26.

 

مصطفى عمر التير

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات