معرض العربي
معرض العربي
الصحافية سيلفيا فون هاردن شهد فن الرسم غداة الحرب العالمية الأولى ردود فعل حادة ضد التعبيريين ورومنسيتهم, وأبرزها جاء على أيدي عدد من الفنانين الألمان الذين شكّلوا مجموعة عُرفت باسم (الموضوعية الجديدة). فقد ارتأى هؤلاء أن الالتفات إلى الحقائق والوقائع التي يعيشونها - على ضوء الإفرازات الهائلة للحرب - أمر يستحق الاهتمام, أكثر من التعبير عن المشاعر الذاتية والتطلعات المثالية. وكان أوتو ديكس أحد أبرز هؤلاء (الموضوعيون الجدد). كان ديكس يدرك مثل زملائه في المجموعة أهمية (البورتريه) في التقاليد الفنية الجرمانية. ولذا فإنه رسم عدداً كبيراً من صور شخصيات زمانه, ولعل صورة الصحافية سيلفيا فون هاردن أفضلها وأشهرها على الإطلاق. تعبّر هذه اللوحة بوضوح عن نهاية عصر الأناقة والرفاهية التقليدية. فالحرب الكبرى قضت على ملايين الرجال, وشكّلت المناسبة التاريخية التي دفعت بالمرأة إلى ميدان العمل مثلها مثل الرجال تماماً. وهنا نجد أنفسنا أمام صورة امرأة تكاد تكون سجلاً مختصراً للمتغيرات الاجتماعية في ذلك العصر. فالصحافية فون هاردن تجلس هنا في مقهى عادي, وحولها كل المستلزمات العادية لأي مقهى. كرسي من دون وسادة, طاولة رخامية دون غطاء, علبة سجائر وعلبة كبريت وكأس (سبريتزر)... (المشروب الأكثر رواجاً في برلين آنذاك). ومجرد وجود هذه المرأة في المقهى, يكشف لنا أننا أمام شخصية ابتعدت طوعاً أم كراهية عن العالم التقليدي الأنثوي حسبما كانت تحدده المفاهيم الاجتماعية السابقة. ويزيد تدخينها للسجائر من إبراز هذا التحوّل. حتى الثوب الذي ترتديه, فإنه كان يشكّل آنذاك جزءاً من الثورة التي شهدها تصميم الأزياء غداة الحرب العالمية الأولى, إذ بات يعطي الاعتبار الأول لراحة المرأة العاملة وحرية حركتها على حساب مقاييس الأناقة التقليدية. أما الشخصية المهنية لهذه الصحافية, فإنها تظهر في النظارة على عينها اليمنى, وبشكل خاص في أصابعها الأفعوانية الطويلة التي تحتل مقدمة اللوحة, وتنفصل لونياً بشكل واضح عن الاحمرار الصارخ الذي يغرق الثوب والجدران. وبقليل من التأمل, يمكن للمشاهد أن يشعر أنه أمام صورة امرأة قوية الشخصية, واثقة من نفسها في جلسة نقاش أو حديث شبه عدائي. لقد رسم ديكس لوحات عدة يظهر فيها أهوال الحرب ووحشيتها بشكل مباشر. ولكنه في فن البورتريه ابتعد عن كل أشكال النقد المباشر, وإن لم يتمكن من إخفاء سخريته الغامضة. قد يقول المشاهد إن هذه اللوحة لا تتضمن ما يثير عداء السلطات السياسية في بلد ما. ولكننا عندما نضعها إلى جانب مئات الصور الشخصية التي رسمها (الموضوعيون الجدد), يصبح بإمكاننا القول إن هؤلاء قدموا (بورتريه) جماعيا واحدا لمجتمعهم بأسره. وهذه القدرة على سبر الأعماق الاجتماعية وانتقادها بمكر, لم يتحمّلها النازيون الذين وصلوا إلى السلطة في السنوات اللاحقة. فتوقف ديكس عن الرسم, ولم يعد إلى مزاولة فنّه إلا بعد الحرب العالمية الثانية.
|
|