أطروحة النظام العالمي الجديد بين الاستبداد والمشاركة محمد السيد سعيد
لا تزال فكرة النظام العالمي الجديد التي يكثر الحديث عنها تملك من الأسئلة أكثر مما تملك من الإجابات وفي هذا الإطار يطرح كاتب هذا المقال من الأسئلة والملاحظات ما هو جدير بتأمل القارئ.
تلاحقت العواصف على الساحة السياسية الدولية منذ تولى ميخائيل جورباتشوف زعامة الاتحاد السوفييتي عام 1985. ففي البداية أحدث جورباتشوف تحولاً حاسما في العلاقات الدولية من تفاعلات الحرب الباردة إلى تفاعلات الوفاق، وتركزت جهوده في البداية على التعاون مع الولايات المتحدة لضبط سباق التسلح النووي وتخفيض مستويات التسلح النووي والتقليدي لدى الدولتين العظميين. ثم عرج جورباتشوف بعد ذلك إلى محاولة إخماد بؤر التوتر الإقليمي التي أقلقت استقرار العلاقات بين الشرق والغرب عمومًا.
ولم تكن عملية تسوية الصراعات الإقليمية قد قطعت شوطًا بعيدًا عندما اندلعت ثورات أوربا الشرقية في النصف الثاني من عام 1989.
وبنجاح هذه الثورات بفضل المساعدة النشطة من جانب جورباتشوف انتقلت تلك المنطقة من دائرة النفوذ السوفييتي إلى دائرة النفوذ الغربي. وفي سياق ذلك كله، كانت القوى السياسية والاجتماعية والقومية الكبرى داخل الاتحاد السوفييتي نفسه تدفع في اتجاه الارتباط التابع بالغرب، خاصة الولايات المتحدة عبر إسقاط الاشتراكية والتحول لنظام اقتصاد السوق من ناحية، وتحقيق الاستقلال القومي بتشكيل دول مستقلة من ناحية أخرى.
ولم تستطع الدولة السوفييتية مقاومة هذه الضغوط، الأمر الذي أدى إلى سقوطها، ونهاية الاشتراكية كتحد عالمي قوي للرأسمالية.
لقد ترتب على هذه العواصف تغيرات كبرى في علاقات القوة في الساحة الدولية والتعاظم السريع للضغوط الغربية من أجل ترتيبات عالمية جديدة، ليس على صعيد العلاقات بين الدول فحسب، بل وعلى صعيد السياسات والأوضاع الداخلية في عشرات من الدول الصغيرة والضعيفة أيضًا.
غير أن السؤال الذي يبرز مباشرة هو: هل تعني تلك الترتيبات العالمية الجديدة نظامًا دوليًا جديدًا؟ وإلى أي حد نستطيع أن نستبشر في العالم العربي والعالم الثالث بأطروحة النظام العالمي الجديد.
أصل المصطلح
المناداة بإنشاء نظام عالمي جديد قد صدرت أساسًا من بين صفوف العالم الثالث، وانطلقت هذه المناداة في البداية من خطاب حركة عدم الانحياز، ثم تطورت في مجال محدد هو المجال الاقتصادي بالمطالبة بإنشاء نظام اقتصادي عالمي جديد، وهو الذي صدر به إعلان شهير للجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974، ولم يترجم هذا الإعلان في الواقع العملي إلا من خلال تنازلات قانونية صرف أمام صادرات الدول النامية لأسواق الدول الصناعية المتقدمة، وهي التنازلات المعروفة باسم "النظام المعمم للتفضيلات".
إن التطبيق غير الأمين لهذه التنازلات منذ عام 1989م يفض إلى تحسين وضع الدول النامية في التجارة الدولية. وباستثناء حفنة من الدول الصناعية الجديدة، اطرد تراجع نصيب الدول النامية عمومًا من التجارة الدولية، وتآكلت مكانتها في النظام الاقتصادي العالمي القائم بسرعة شديدة، بل وتنهار اقتصاديات عشرات من الدول النامية، خاصة في إفريقيا جنوب الصحراء، وفي جنوب آسيا، مما يضاعف المعاناة الناشئة عن البؤس والفاقه فيها.
الاقتصاد والسياسة
وربما يعود السر وراء تدهور مكانة العالم الثالث في النظام الاقتصادي الدولي القائم إلى استحالة تعزيز فرص التنمية الاقتصادية والاجتماعية فيه بدون تصحيح علاقات القوة السياسية وإقامة العلاقات السياسية الدولية على أسس مبدئية وأخلاقية جديدة. ولهذا فإن الحلم الحقيقي يتمثل في بناء نظام سياسي - لا اقتصادي فحسب - عالمي جديد يقوم على فكرة توازن المصالح والمستويات المشتركة للإنسانية والحق في المشاركة الجماعية في إدارة هذا النظام ومؤسساته الفاعلة. وقد عكفت مجموعات من الشخصيات العامة والمتخصصة في مجالات شتى على الدعوة لإنشاء نظام عالمي جديد New World Order كعنوان لحركة عالمية كان الأمل أن تواصل التوسع والنمو عبر الحدود القومية بحيث يمكنها في النهاية التأثير على مجريات السياسة الدولية في اتجاه هذا الحلم الكبير.
النظام والأخلاق
وعلى النقيض من هذا الأمل، فإن الحديث من جانب الرسميين ووسائل الاتصال والإعلام الجماهيري في الدول الغربية الكبرى عن نشأة نظام عالمي جديد جاء ليقطع الطريق على تلك المبادئ الأخلاقية والسياسية الجديدة حقًا. وفيما يبدو فإن هناك نية لدى الولايات المتحدة على وجه الخصوص في الإفادة من علاقات القوة الدولية الجديدة التي تسمح لها بالهيمنة على الساحة الدولية لإنشاء نظام عالمي جديد، ليس بتطبيق مبادئ أخلاقية وقانونية أرقى، بل بفرض مبادئ سياسية أدنى مما هو قائم بالفعل في الساحة الدولية.
فإذا شئنا أن نلخص الملامح الرئيسية لمشروع الولايات المتحدة لإنشاء نظام عالمي جديد يمكننا أن نشير للقواعد الرئيسية التالية:
ملامح المشروع الجديد
أولاً: فرض الانتقال المباشر إلى اقتصاد السوق على العالم أجمع. وينطلق هذا المبدأ من اعتقاد الولايات المتحدة أن الاقتصاد الرأسمالي هو الاقتصاد الوحيد المشروع في العالم. ويتناقض هذا الاعتقاد مع الحاجة إلى التعددية في النظم الاقتصادية والاجتماعية وضرورة توافقها مع الحاجات. والظروف النوعية والثقافات القومية في كل بلد أو منطقة من مناطق العالم الكبرى. والواقع أن الإطار العام لعملية الانتقال هذه تتم بإشراف مباشر من جانب الولايات المتحدة والدول الغربية الكبرى عبر شروط المعونة الاقتصادية ومفاوضات إعادة جدولة الديون المتراكمة على العالم الثالث، هذا إضافة إلى الإشراف غير المباشر عبر ما يسمى برامج التكيف الهيكلي التي تفرضها المؤسسات الاقتصادية الدولية، خاصة صندوق النقد الدولي. وهي مؤسسات خاضعة للهيمنة الأمريكية والغربية. وتتجه برامج التكيف الهيكلي إلى نقل أعباء التحول إلى اقتصاد السوق إلى أكتاف المواطنين خاصة الفقراء منهم، وتشمل إزالة المعونات الخاصة بتثبيت أسعار السلع الأساسية، ورفع أسعار الفائدة وتخفيض الإنفاق الحكومي والسيولة النقدية عبر رفع الأسعار وتقييد الائتمان المصرفي وتخفيض أسعار صرف العملات المحلية.. إلخ. وعادة ما تزداد المعاناة الاجتماعية بسبب الإصرار على تسريع عملية الانتقال إلى اقتصاد السوق. وتطبيق وصفة جاهزة للسياسات الاقتصادية على جميع الدول دون مراعاة كافية لظروفها الخاصة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي.
والأمر المهم الذي يكمن وراء الغرض المتجانس للانتقال الجماعي إلى اقتصاد السوق، في العالم الثالث بصورة خاصة، هو رفض الولايات المتحدة والغرب عمومًا والمنظمات الاقتصادية الدولية الاعتراف بمشروعية أي سياسات بديلة أو تعددية لهذا الاقتصاد، حتى لو كان هذا الغرض تعسفيا وعنيفا.
الديمقراطية ومشكلة التلاعب
ثانيًا: إطلاق شعار الديمقراطية والليبرالية السياسية من النمط الغربي كعلامة على نمط السياسات المرغوب فيها من جانب الغرب مع فرض التحول إليه بصورة انتقائية تبعًا للمصالح والرؤى الغربية والأمريكية خاصة ويسطع هنا تناقض فادح بين إقدام الولايات المتحدة على تكثيف الضغوط على دول معينة بهدف فرض التحول إلى الديمقراطية من ناحية ورعايتها لنظم تسلطية ومساعدتها على قهر النضال الديمقراطي الشعبي، خاصة إذا كان مسلحًا في طائفة أخرى من الدول من ناحية أخرى. ويظهر هذا التناقض على نحو بالغ الشذوذ في انفراد الولايات المتحدة بالتصويت لصالح نظم تسلطية لدى مناقشة سجلها في مجال حقوق الإنسان في لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة.
دور الأمم المتحدة
ثالثا: إعادة هيكلة الإطار المؤسسي والتنظيمي للعلاقات الدولية لتركيز السلطة فيها في عدد محدود من الدول وإعادة هيكلة مجالات نشاطها وأهليتها الفعلية بما يتناسب مع السياسات والأهداف الأمريكية بصورة أساسية، والغربية بصورة ثانوية. وفي هذا السياق تبرز عملية إعادة هيكلة فعلية لمنظومة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية التابعة لها. والملامح الأساسية لهذه العملية هي تهميش دور الجمعية العامة ومحكمة العدل الدولية والأمانة العامة للمنظمة الدولية في مقابل إبراز دور مجلس الأمن، وكذا تهميش دور المنظمات الدولية، بما فيها الأمم المتحدة، في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في مقابل التركيز على دورها في مجال الأمن الدولي.
وفي إطار عملية إعادة تركيز السلطة داخل هياكل المنظمات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة تظهر نزعة قوية لتعليق دور هذه المنظمات على طبيعة مواقفها المحتملة حيال القضايا الدولية بحيث يتم تغييب هذا الدور تمامًا في مواقف إقليمية أو قضايا دولية بعينها وتوسيع هذا الدور في مواقف أو قضايا أخرى. وهنا لابد من الإشارة إلى التغييب المريب لدور الأمم المتحدة في مجال التسوية السلمية لعدد من الصراعات الدولية، وبصفة أخص الصراع العربي الإسرائيلي. وفي هذا السياق نفسه، يبرز كذلك اتجاه لتوسيع أدوار أجهزة معينة داخل المنظمات الدولية بما فيها الأمم المتحدة بها يتجاوز أو يتناقض أحيانًا مع المواثيق التأسيسية لهذه المنظمات. وربما تكون حالة قرار مجلس الأمن الخاص بإجبار ليبيا على التعاون مع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا بخصوص التحقيقات التي تجريها هذه الدول حول أعمل إرهاب دولي معينة بما ينطوي على إجبارها لتسليم مواطنين ليبيين اتهمتهما السلطات الأمريكية والبريطانية بالإرهاب الدولي نموذجًا لهذا التجاوز الذي لفت نظر عدد كبير من فقهاء القانون الدولي.
ضبط التسلح
رابعًا: التقييد الانتقائي للعنف في العلاقات الدولية بتفويض الولايات المتحدة بالرقابة المباشرة وغير المباشرة على التجارة الدولية للسلاح. وتبرز في هذا السياق مبادرة الرئيس الأمريكي بوش المعلنة في يونيو عام 1991 لضبط صادرات السلاح العالمية ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل .. وقد تمت صياغة هذه المبادرة بحيث لا تمثل في الواقع مدخلا للسلام العالمي من خلال حجب تدفق الأسلحة على مناطق التوتر في العالم بصورة متكاملة ومتوازنة. ويبدو أن هذه البادرة قد أصبحت مدخلاً لتكوين كارتل عالمي لتجارة السلاح بين الدول الثماني عشرة المصدرة للسلاح وفي قلبها الدول الخمس المصدرة الأكبر للسلاح في العالم، بحيث يتصرف هذا الكارتل بصورة تضمن تدفق السلاح على دول معينة بحكم ولائها الاستراتيجي للغرب وحجبه عن دول أخرى بحكم مجرد الشك في عمق ولائها الاستراتيجي للغرب عمومًا والولايات المتحدة على وجه الخصوص. وتصدق تلك السياسة على نحو أكبر فيما يتصل بمنطقة الشرق الأوسط حيث يتناقض التعاون الاستراتيجي والتسليحي النشط بين الولايات المتحدة وإسرائيل مع الرقابة الحديدية المفروضة من جانب الولايات المتحدة على تسليح الدول العربية المؤثرة على التوازن العسكري العربي الإسرائيلي، وتجريد هذه الدول - على خط المواجهة المحتملة مع إسرائيل - من الأسلحة المتقدمة تدريجيا.
خامسا: تقييد سيادة الدول القومية فيما يتعلق بمجالات معينة من شئونها الداخلية. وتبرز هنا الأفكار التي راجت في سياق عقد قمة مجلس الأمن بنهاية شهر يناير عام 1992 بصدد وضع أسس ما يسمى بالنظام العالمي الجديد، وتركزت تلك الأفكار على تقييد سيادة الدول فيما يتعلق بحقوق الإنسان والأقليات. ولاشك أن جانبًا من تلك الأفكار يلتقي مع التطورات الحديثة في القانون الدولي التي تسعى لوضع نوع من الضمانات والحصانات والحماية الدولية لحقوق الإنسان، بما في ذلك حقوق الأقليات، غير أن هذا الالتقاء كان يمكن بلورته عبر تكوين مؤسسات ووضع صياغات تقوم على الإجمالي العالمي ومشاركة جميع الدول. ويتناقض ذلك مع احتكار مجلس الأمن لنفسه أهلية وضع أنظمة دولية جديدة ذات طابع سياسي لا تتفق مع ميثاق المنظمة الدولية بالضرورة، فهذه المهمة هي بالتأكيد في نطاق الأهلية القانونية للجمعية العامة للأمم المتحدة، ولا ينبغي أن تحتكر من جانب مجلس الأمن أو أي طائفة أخرى من الدول، وبالتالي فإن هذا الاحتكار يفتح الباب أمام جسيم بالمبادئ القانونية الدولية.
القانون الدولي: الوحدة والازدواجية
ومن الملاحظ أن بعض هذه السمات أو الاتجاهات الجديدة للمشروع الأمريكي والغربي لتكوين نظام عالمي جديد يمكن أن تصلح أسسًا معقولة لإجماع عالمي. ولاشك أن هناك قدرًا كبيرًا من التراضي العالمي حول الضرورة الحاسمة للانتقال إلى الديمقراطية السياسية. وهناك كذلك قدر كبير من التراضي حول طائفة من السياسات الخاصة بإحياء وإنعاش المبادرات الاقتصادية الخاصة كأحد محاور التطور التنموي على صعيد العالم ككل، كما أن هناك حاجة عميقة للحد من العنف في العلاقات الدولية، وحل الصراعات الداخلية والإقليمية بصورة سلمية.
فإذا كانت بعض الاتجاهات السابقة تصلح كمرتكزات لإجماع عالمي حقًا، فلماذا لا تتم بلورتها في صياغات والتزامات قانونية محددة عبر مشاركة تفاوضية من جميع دول العالم من خلال منابر مثل الجمعية العامة للأمم المتحدة؟، الواقع أن ذلك بالتحديد هو ما تستبعده السياسة الأمريكية، والغربية عمومًا. ويبدو أن الرابطة المنهجية الوحيدة بين هذه الاتجاهات كلها هي السعي لتقنين الأمر الواقع، أي إحالة النموذج السياسي والاقتصادي الغربي، والمواقف والسياسات العالمية للولايات المتحدة تحديدًا إلى " سنة " كونية لا يسمح لأي دولة أو جماعة من الناس بالخروج عليها، أي باختصار إلى "نظام عالمي".
والواقع أن النتيجة الجوهرية لهذا المسعى هي جعل القانون الدولي رهنًا بالسياسة الأمريكية، وبالتالي إفقاد القانون الدولي أهم خصائص القانون، أي وحدة وتجانس وتحديد القاعدة القانونية بمعنى قابليتها للتطبيق بصورة واحدة على المواقف الواحدة أو المتشابهة مهما تكررت أو تعددت أماكن وقوعها، فالولايات المتحدة تطبق قاعدة قانونية ما عندما تشاء، وبوضع القانون تحت يدها دون حاجة لتكييف قانوني محايد عبر محكمة أو جهة قضائية دولية. وهذا هو بالفعل الموقف الأمريكي من تطبيق القانون الدولي. ويتفق مع الأمر نفسه أن تحجب الولايات المتحدة القاعدة القانونية الدولية نفسها عن التطبيق عندما تشاء أيضًا.
وهذا هو ما نعانيه بالضبط في العالم العربي، إذ لا تتردد الولايات المتحدة في معاقبة أي طرف عربي متهم بالعدوان أو الإرهاب بغض النظر عن ثبوت التهمة، وتترك الحبل على الغارب لإسرائيل لتمارس العدوان والإرهاب كيفما شاءت دون عقوبة، حتى لو كانت التهمة ثابتة ومؤكدة بإجماع العالم كله.
الحق في المشاركة: نظام بديل
وهكذا يبدو أن المشروع الأمريكي يتلخص ببساطة في إنشاء نظام دولي جديد له طبيعة وخصائص الاستبداد. ولاشك أن خطورة هذا المشروع في اللحظة الراهنة هي أنه يتفق مع واقع علاقات القوة على الصعيد العالمي، خاصة بعد انهيار وتفكك الاتحاد السوفييتي، فهل هناك من سبيل أمام مشروع بديل لإنشاء نظام عالمي جديد يقوم على وحدة وحيدة التطبيق لقانون دولي يعكس آمال الإنسانية كلها في التقدم والتنمية والسلام؟
الواقع أنه لاسبيل لإنشاء مثل هذا النظام الذي يقوم بالضرورة على المشاركة إلا بإنهاء أوضاع الاستبداد على الصعيد العالمي. وفي هذا السياق هناك مدرسة تجمع بين عدد كبير من فقهاء السياسة تبشرنا بحتمية انتهاء الاستبداد الأمريكي بالشئون الدولية. ووفقًا لهذه المدرسة، فإنه بفضل الصعوبات الاقتصادية الأمريكية والمشكلات والمنافسات التجارية، تتجه المنظومة الدولية إلى التبلور حول أقطاب ثلاثة وهي الولايات المتحدة، والجماعة الأوربية وعلى رأسها ألمانيا، واليابان. فإذا كانت واحدية القطبية قد حلت محل القطبية الثنائية، فإنها تنتهي بدورها لصالح منظومة متعددة الأقطاب، ولكن النقد الرئيسي الذي يجب توجيهه إلى هذه المدرسة هو أن العالم الثالث سوف يستمر مستبعدًا في كل الأحوال، ولا يبدو من مناص إذا رغبنا في المشاركة وفي تحقيق العدالة في المنظومة الدولية وبناء نظام عالمي جديد حقًا سوى حل الأزمة الشاملة التي يعانيها العالم الثالث ككل وحل معضلات بناء تحالف عالمي للتقدم والسلام.
فالواقع أن التغيير الهائل الذي حدث في علاقات القوة داخل المنظومة الدولية يعود ليس إلى انهيار الاتحاد السوفييتي فحسب، بل يعود قبل ذلك إلى انهيار حركة التحرر الوطني في العالم الثالث. ويعزى هذا الانهيار بدوره إلى فشل الدولة الوطنية في حل معضلات تطورها، ومن بينها معضلة الاندماج القومي في الداخل والاندماج الإقليمي في الخارج. وما أن حصلت معظم دول العالم الثالث على استقلالها حتى اشتبكت في صراعات مريرة إما مع الأقليات العرقية والثقافية داخل حدودها أو مع الدول المجاورة، ولهذا السبب تركزت الحروب والانقلابات العسكرية والسياسية والمظاهر الأخرى للتحلل السياسي في العالم الثالث، الأمر الذي فاقم من ضعفه وتدهور مكانته في المنظومة العالمية.
ولا يبدو من أمل في إحياء مكانة العالم الثالث، بما فيه الوطن العربي، في المنظومة الدولية وفرض حقه في المشاركة في صنع السياسات الدولية من خلال مجرد الإفادة من تناقضات وتوازنات الكتل الكبرى للقوة في الساحة العالمية فالإنجاز الداخلي فقط هو الذي يفتح الباب أمام تحقيق التطلعات المشروعة لشعوب العالم الثالث - خاصة الوطن العربي - في المنظومة الدولية، وهذا الإنجاز يعني حل معضلات إعادة البناء الاقتصادي والديمقراطية السياسية والازدهار الثقافي من خلال صياغات مبدعة تطلق الإمكانات الهائلة لدى شعوب هذا العالم.