جنوب الصين: العرب كانوا هنا

جنوب الصين: العرب كانوا هنا

عدسة: وي خاي دونغ

في رحلة طويلة وممتعة, ذهبت (العربي) لتجوب مدن وقرى الصين باحثة ومنقبة عن مآثر العرب التي تركوها خلفهم, منارات مساجد وقباب لرجال صالحين وشواهد قبور ومراصد فلك, تشهد كلها على عراقة هذه الأمة وحيويتها ودليلاً رائعاً لقرون من التواصل والصداقة مع أهل الصين, مسطّرين في كتب التاريخ أول حوار للحضارات والثقافات عرفته البشرية لتنهض شامخة مساجد العرب وقباب أوليائهم جنباً إلى جنب المعابد البوذية والطاوية المهيبة متأثرين ومؤثرين في البنى الثقافية والاقتصادية والاجتماعية, بل والسكانية في الصين.

وفي محاولة لمتابعة وتغطية حوار عربي إسلامي - صيني امتد أكثر من ألف عام تاركاً خلفه الكثير من الشواهد الأثرية والمخطوطات والوثائق التاريخية, قررت (العربي) الدخول إلى هذا العالم الغامض المعبق برائحة التاريخ وسحر الأساطير تعريفاً بعظمة العرب وتذكيراً للناس بضرورة الوعي بتاريخهم وأهمية الحفاظ عليه, وإسهاماً في تسليط الضوء على حوار الحضارات والثقافات القديمة في زمن قديم وصديق.

إذن كان العرب هناك, بل كانوا هناك قبل ظهور الإسلام, وقبله بكثير, فقد سهل موقع جزيرة العرب الفريد الذي يربط الطريق التجاري القديم بين بلاد البحر المتوسط والشرق الأقصى الاتصالات بين الشرق والغرب, كما ساعد فتح طريق الحرير القديم في حوالي القرن الثاني قبل الميلاد على زيادة الاتصالات بين الصين وبلاد العرب.

ونستدل من المصادر الصينية ككتاب تاريخ أسرة هان (206ق.م -220م) وكتاب السجلات التاريخية (91 ق.م) وكذلك المصادر العربية - لمروج الذهب لأبي الحسن المسعودي, أن هنالك اتصالات بين الصين والعرب قبل الإسلام, وإن مدنا كمدن عمان والحيرة قد ذكرت في المصادر الصينية القديمة, كما رصد وفد من بلاد العراق في البلاط الصيني في حوالي عام 120م, وقد قدم الوفد طائر ببغاء هدية للإمبراطور, وكانت المرة الأولى التي يرى فيها الصينيون هذا الطائر ولا يزالون يطلقون عليه اسم (باباغا).

وكان تجار عمان واليمن - سادة البحار في ذلك الوقت - قد أقاموا محطات للاسترشاد على طول الطريق البحري من موانئ شبه الجزيرة العربية وموانئ الصين الجنوبية, بل إن جالية عربية كانت موجودة في مدينة قوانجتشو في جنوب الصين في وقت سابق لعام 300م.

ويؤكد عدد من المصادر التاريخية الصينية والعربية مثل مروج الذهب لأبي الحسن المسعودي أن سفن العرب كانت تقوم برحلات مباشرة إلى الصين, كما يعتقد أنه بنهاية القرن الرابع وبداية القرن الخامس الميلاديين كانت سفن الصين تصل إلى مصب نهر الفرات وعدن, بل إن أعداداً كبيرة من العرب والفرس والهنود كانت تقيم في بعض المدن الصينية إبان فترة مملكة وي الشمالية 386-557م, بالإضافة إلى جالية عربية كبيرة في منطقة لويانغ المعروفة الآن بمحافظة هونان, كما كان هناك رعايا عرب ضمن رعايا أسرة تانغ (618-907م) وكانت لهم نشاطات تجارية بالإضافة إلى صناعات صغيرة حيث أقاموا مصنعاً بمدينة قوانجتشو وذلك في حوالي عام 622م أي قبل الهجرة.

دخول الإسلام

تتناقل المصادر التاريخية الصينية خصوصاً مصادر أسرة مينغ الملكية 1368-1644م ومصادر أسرة تشنغ الملكية 1643-1912م كثيراً من القصص والروايات الصينية والأساطير حول دخول الإسلام في الصين إذ تنسب هذه المصادر إلى أباطرة أسرة سوي وتانغ أحلاما موحشة يصارعون خلالها شياطين وحيوانات مفترسة عكّرت صفو القصر وأرادت شرا بالإمبراطور وبينما هم في تصدّيهم ذاك لهذه الأخطار يظهر رجل من اتجاه الغرب يلبس جلباباً أبيض وعمامة ويطارد الشيطان وينتصر للإمبراطور ثم يبتسم ويختفي عائداً باتجاه الغرب.

كما يتحدثون أيضاً عن أحلام للإمبراطور ومشاهدات مسئول الفلك لنجم مضيء في اتجاه الغرب, يفسّره فلكيو القصر للإمبراطور آنذاك بأنه بشارة بظهور رجل حكيم في بلاد العرب هو محمد (صلى الله عليه وسلم), فيرسل الإمبراطور وفداً للرسول الجديد احتراماً وتقرّباً, حيث يعود الوفد الصيني من رحلته إلى شبه الجزيرة العربية ومعه وفد عربي من صحابة الرسول وفي مقدمتهم الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص كأول دخول للإسلام في الصين, إلا أن هذه الأسطورة تشبه إلى حد كبير ما جاء في الأساطير البوذية حول دخول الديانة البوذية إلى الصين من الهند.

ونعتقد أن تجاراً عرباً مسلمين مقيمين في الصين نظموا ومهّدوا لهذه الزيارة, حيث لم تنقطع منذ ذلك التاريخ وفود العرب إلى البلاط الصيني, كما استمر سيل التجار والدعاة الذين انتشروا في مدن وموانئ الصين المهمة حيث نظموا لهم جاليات كبيرة في مدن قوانغتشو وتشواتشو وخانجو ويانجو وغيرها, وقد استمر توافد العرب والمسلمين دعاة وتجاراً وسياسيين إلى الصين حتى بداية أسرة مينغ (1368-1644م) عندما انعزلت الصين وانكفأت على نفسها.

آثارهم في مدينة قوانغتشو

مدينة قوانغتشو حاضرة مقاطعة قواندونغ وأكبر المدن والموانئ الساحلية الجنوبية في الصين القديمة والصين الجديدة. وترقد هذه المدينة التاريخية والتجارية المهمة في الجزء الشمالي من دلتا نهر اللؤلؤ. وتعرف هذه المدينة في المصادر العربية القديمة بمدينة خانفو. وأصبحت المدينة التي يبلغ عمرها أكثر من 2100 عام أهم مراكز تجمّعات العرب في العصور الوسطى, حيث استوطن هذه المدينة آلاف التجار والدعاة العرب إبان أسرتي تانغ 618-907م وسونغ 960-1279م.

وبلغ العرب من النفوذ والقوة في هذه المدينة الحد الذي قبل فيه الإمبراطور الصيني بأن يخضعوا لقوانين وأحكام الشريعة الإسلامية وليس القوانين الصينية عندما ينشب خلاف بينهم أو عند ارتكاب الجرائم, وقد تم تعيين قاض من بينهم يحكم بما أنزل الله, وكانت لهم أحياؤهم ومتاجرهم ومساجدهم لايزال مكانها معروفاً في المدينة حتى الآن.

مسجد الحنين إلى النبي

يوجد هذا المسجد حالياً في شارع قوانغتا (شارع المنارة) رقم 56 في الجزء القديم من مدينة قوانغتشو, يمتاز المصلى في المسجد بفخامة الجواسق الإمبراطورية الأنيقة. وهو مستطيل الشكل ومحدّب السقف وتظلل بوابة المصلى مظلة ممتدة على طوله يسندها عدد من الأعمدة, كما توجد على الجانب الأيمن منه عريشة على نسق العمارة الصينية تحتها لوحة حجرية تؤرخ لإعادة بناء المسجد, وقد كتب على أعلى العريشة باللغة الصينية (النور الأبدي يبقى دائماً) بالإضافة إلى بوابة خارجية على الطراز الصيني تؤدي بعد أمتار قليلة إلى المصلى والذي يحظى بتوسعة مرصوفة ببلاط ومحاطة بسياج رخامي مزخرف برسومات لطيور وحيوانات ووجوه خرافية. وينقسم المسجد إلى ثلاثة أقسام رئيسية وهي المصلى المستطيل الشكل والمسقوف بالقرميد الأحمر على طريقة العمارة الصينية, أما السقف فيستند على عمودين مزخرفين بآيات كريمة مخطوطة بالخط العربي الصيني وخطت في صدر المصلى (إن الدين عند الله الإسلام), كما يوجد منبر خشبي أصبح جزءاً أصيلاً من ملامح المساجد في الصين.

مَن بنى الحنين ومتى?

استرجعنا ونحن نتأمل هذا الأثر العربي العظيم كل ما قرأنا واطلعنا عليه في المصادر الصينية والعربية والغربية حول تاريخ هذا الصرح الأثري المهم, حيث يتفق الكثير من المؤرخين على أن المسجد قد تم بناؤه في وقت ما في أسرة تانغ, إلا إنهم يختلفون حول الباني, حيث تشير بعض الكتابات الصينية لمؤرخين مسلمين وغير مسلمين إلى أن باني المسجد هو الصحابي الجليل سعد ابن أبي وقاص الذي جاء في أول بعثة إسلامية إلى الصين إبان حياة الرسول الكريم. ولكن الكتابات المنقوشة على لوحة تجديد بناء المسجد والمنقوشة بيد قوه جيان سنة 1350م تشير إلى أن المسجد قد بُني إبان أسرة تانغ, وأن تسمية هوايشنغ تعني الحنين إلى النبي, وقد تعرض المسجد خاصة المصلى الرئيسي إلى الخراب مرات عدة إحداها ما أشارت إليه لوحة تجديد بناء المسجد إذ تقول (تم تدمير المسجد في سنة 1343م من عهد الامبراطور تشيتشنغ من أسرة يوان:

التقت (العربي) إمام مسجد الحنين إلى النبي الإمام اسماعيل وانغ قوانغ شوى في مكتبه داخل المسجد, حيث رحّب بنا بحرارة مشيداً باهتمام العرب بتفقد آثارهم وأحوال إخوانهم في العقيدة, مؤكداً أن هذا المسجد ليس قطعة أثرية فحسب, بل هو مركز ثقافي كبير لتعزيز التواصل بين العرب والصينيين, ودليل على التواصل الحضاري بين الحضارتين العربية والصينية, مشيراً إلى أن عدد المسلمين الصينيين المسجلين الآن في المدينة سبعة آلاف مسلم يعتزون بعقيدتهم الإسلامية مشيراً إلى أن الجمعية الإسلامية الصينية بالمدينة تحرص على حماية المساجد والآثار العربية, كما ترسل شباب المسلمين إلى الدول العربية لدراسة اللغة العربية والعلوم الإسلامية, وأضاف الإمام إسماعيل إن المدينة تضم عددا من المساجد أهمها بعد مسجد الحنين إلى النبي مسجد هوبان.

ويروي الإمام قصة آخر تجديد لمسجد هوبان وذلك عندما تعرض أحد أغنياء مدينة قوانغتشو لاعتداء شنيع, وترك ينزف على قارعة الطريق, فمر به إمام المسجد في ذلك الوقت فو يونغ فنغ الذي قام بحمله إلى منزله بالقرب من فناء المسجد حيث تعهّده بالرعاية الكاملة, وعندما تماثل للشفاء, أعلن إسلامه وأسرته على يد الإمام, وقام من فوره بإعادة تجديد وبناء أجزاء من المسجد على نفقته الخاصة.

روضة ابن أبي وقاص

يقع ضريح الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص أو (روضة أبي وقاص) كما تذهب المصادر الإسلامية الصينية والروايات الشفهية وسط مسلمي الصين في تل قويهوا قانغ مقابل حديقة يوى شوي في شارع حي فانغ يي حيث يرقد الضريح المشهور في أعلى قمة تل, ويقود إليه ممر ضيق طويل ومعبّد وسط المروج الخضراء ليواجهك في نهاية مدخل المدافن الإسلامية الفخمة التي يتوسطها الضريح. ومن أول وهلة, تجد نفسك أمام غابة من المروج الخضراء الجميلة التي تطل على بناء عربي إسلامي الطراز يشبه قباب الصوفيين المتناثرة في عدد من الدول العربية, والضريح (القبة) محاط بعدد كبير من القبور لمسلمين دُفنوا في عهود تاريخية مختلفة, وعند مدخل هذاالضريح المهيب, كتب بلغة عربية جيدة (روضة أبي وقاص), وتبدو غرفة الضريح من الداخل مربعة الشكل, حيث يتوسط الغرفة الضريح الغامض, المغطى بالحرير والمزخرف بالآيات القرآنية, ووضعت حوله كتب القرآن الكريم وغيرها من الكتب الإسلامية, وينتصب على جانبي الضريح نصب حجري كتب باللغة الصينية في حوالي القرن الثامن عشر في السنة السابعة من حكم الإمبراطور جاي شين من أسرة تشين, ويشير النصب إلى أن أربعين حكيماً من المدينة المنوّرة جاءوا إلى الصين في عهد أسرة تانغ, وذُبحوا أثناء تأديتهم لصلاة الجمعة على يد قطاع الطرق, وقد تم دفنهم في هذا المكان). ويشير النصب (إلى أنه من المذهل أن القتلة قد انتحروا جميعاً بعد ارتكابهم لهذه المذبحة, ويشير الذين جددوا هذه اللوحة إلى أنهم التزموا بشكل كامل بالكتابات الموجودة في اللوحة الأصلية, وتم تجديد اللوحة في السنة السابعة من حكم الإمبراطور جاتشينغ (1796-1820م) واللوحة الحجرية تتحدث عن مجازر تعرض لها المسلمون, وربما تكون المعلومات التي نقلتها اللوحة التاريخية هي صدى لتمرّد خوان تشاو في عام 875م الذي راح ضحيته الكثير من العرب المسلمين في مدينة قوانغتشو وغيرها من المدن الصينية.

ويعتقد الأهالي والسكان المحليون وبعض المصادر التاريخية أن هذا الضريح هو ضريح الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص الذي أرسله الرسول الكريم مع آخرين كأول بعثة إسلامية في عهد الإمبراطور تاي سونغ 626-649م.

المصادر العربية - كما يعرف القارئ - واضحة جداً حول هذا الموضوع, فالصحابي الجليل سعد ابن أبي وقاص - كما أشرنا - مدفون في المدينة المنورة, كما أن المراجع التاريخية العربية لم تشر لأي زيارة له للصين, إلا أن المصادر التاريخية الإسلامية وغير الإسلامية الصينية بدأت في حقيقة الأمر منذ حوالي القرن الرابع عشر وحتى السابع عشر تؤكد باستمرار أن رجلاً يدعى سعد وقاص وأحياناً وانغ قاص قد زار الصين في القرن السابع الميلادي (الأول الهجري) ودُفن في مدينة قوانغتشو.

ضريح الحكيم

لا تقتصر الآثار العربية والإسلامية في مدينة قوانجتشو فقط على مسجد الحنين إلى النبي وضريح روضة أبي وقاص. إذ إن المدينة تحتوي على ستة مساجد أثرية تعود إلى أسرة مينغ, أحدها مسجد شيان شيان قومو الذي يوجد بجانب ضريح أبي وقاص والمسجد بني على قمة تل على بعد بضعة أمتار من الضريح ومحاط بالأشجار والمروج, ومسور بحائط عال مزخفر بإفريز على الطراز الصيني, ويلاحظ أن الأجزاء العليا من سور المسجد خصوصاً جانبه المواجه للضريح طُليت باللون الأخضر وهو من الألوان الإسلامية المحببة. وبمجرد دخولك إلى فناء المسجد, يواجهك مصلى المسجد المعروش بالطريقة الصينية, كما تواجه المصلى عريشة يتجلى فيها جمال المظلات الصينية داخل المعابد والجواسق. والمصلى الصغير مزخرف بالآيات الكريمة, وقد تم تخطيط محراب صغير زخرف بآيات كريمة, كما يخلو المسجد من مبنى رؤية الهلال الذي أصبح منذ انهيار أسرة يوان جزءاً أصيلاً من عمارة المساجد الصينية.

مسجد هوبان

يقع مسجد هوبان في زقاق هوبان رقم 378 بالقرب من شارع تيان تشنغ, وقد بني هذا المسجد في عام 1465م, وقد تمت إعادة ترميمه في عام 1706م. ويعتبر مسجد هوبان من أفخم وأجمل المساجد الصينية الطراز المسقوفة بالقرميد المزخرف. وقد بذل مجهود فني كبير في رصف وتنسيق الإفريز الذي يزيّن السقف القرميدي حيث تتداخل الألوان الخضراء والبيضاء والحمراء في انسجام رائع. ويشبه المسجد المعابد الصينية الكبيرة, إلا إن المسجد يغلب عليه اللون الأخضر. ويقوم المصلى على عدد من القوائم الخشبية والمزخرفة بالآيات الكريمة وكلمة التوحيد بشكل منسق وجميل ويحتوي المصلي على محراب ومنبر منقوش عليه. (إن أكرمكم عند الله أتقاكم). وزيّن صحن المسجد بأسماء الله الحسنى, إلا أننا نلاحظ أن عددها مائة بدلاً من 99 حيث تم تكرار اسم الواحد مرتين.

التقت (العربي) إمام مسجد هوبان الإمام حسن جانغ جيان جون الذي شكر (العربي) على زيارة المسجد مشيراً إلى أن هذا المسجد ظل عبر أكثر من 500 عام يلعب دوراً مهماً في الدفاع عن الثقافة العربية في هذا الجزء من العالم. كما أن علماء عرباً وأئمة مرّوا على هذا المسجد في فترات مختلفة في عهد أسرتي مينغ وتشنغ, كما درس كثير من أئمة هذا المسجد في الوطن العربي, مشيراً إلى أن المسجد لايزال يحتفظ بشاهد قبر كتب بلغة عربية سليمة, مؤكداً أن مسجد هوبان وغيره من المساجد رغم اهتمام الدولة الشديد بها فإنها أيضاً تحتاج إلى دعم عربي لصيانتها وترميمها باعتبارها أثراً عربياً إسلامياً مهماً. كما أشار إلى ضرورة أن تقدم المعاهد الدينية وكليات اللغة العربية مساعدات للائمة لدراسة اللغة العربية.

مسجد دونغيين

يقع مسجد جونغيين في شارع يو خوا, وقد بُني هذا المسجد في السنة الرابعة من حكم الامبراطور تشن هوا لأسرة مينغ قبل أكثر من خمسمائة سنة. وواجهة المسجد مبنية على الطراز الصيني التقليدي, ومزيّنة برسومات ومسقوفة بإفريز بلون أخضر, وكتب على عتبة البوابة باللغة العربية (المسجد لله تعالى), كما كُتب باللغة الصينية كلمة مسجد (تشينغ جين سي). وتقود البوابة الرئيسية للمسجد إلى مدخل داخلي شبه دائري يقود إلى باحة المسجد. والناظر من خارج المدخل الدائري يلاحظ ذلك التلاقح الجميل بين العمارة الصينية والعربية, فالشكل الدائري للمدخل الداخلي هو من فن العمارة الصينية الذي لا تجده خارج الصين, بينما يمنحك الشكل العام للمسجد والمصلى سمات العمارة العربية مثل الأبواب والنوافذ المقوّسة. ويبدو صحن المسجد بشكل عام مربع الشكل تدعمه أربعة قوائم تحمل السقف المعروش بالقرميد وتسنده عوارض. ويتوسط القاعة محراب مجوّف كتب أعلاه (الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل), ويوجد بجانب المحراب منبر خشبي. وقد وظّف الجزء الثاني من المسجد لمراسيم وأغراض غسل الموتى على الطريقة الإسلامية.

وجود عربي وإسلامي بهذا الثقل والكثافة في مدينة قوانغتشو, كان لابد أن يترك بصماته وآثاره في المقتنيات التي ضمتها جدران متحف قوانغتشو. ففي الجزء الخاص بتاريخ أسرة تانغ, يطالعك مجسّم لسفينة صحار العمانية أحد رموز التواصل بين الصين والعرب, وعلى يسار هذا المجسم, نطالع شاهد قبر نُقش عليه بلغة عربية سليمة وجميلة آية الكرسي كاملة وتعريف بالمتوفي وعلى حسب ما جاء في شاهد القبر, فإنه رمضان علاء الدين المتوفى عام 751 هجرية (1350م).

مدينة تشوانتشو

كانت محطتنا الثانية في هذا الاستطلاع هي مدينة تشوانتشو المعروفة عند الرحّالة العرب باسم مدينة الزيتون, حيث يقال إن الرحالة المغربي المشهور ابن بطوطة أطلق عليها هذا الاسم. وتقع مدينة تشوانتشو في محافظة فوجيان على ساحل بحر الصين الشرقي, حيث ترقد المدينة على المجرى الأسفل لنهر جن جيانغ, ومدينة تشوانتشو مثلها مثل مدينة قوانغتشو ارتبطت أيضاً بالتجارة الخارجية بشكل عام, كما ارتبط ازدهارها بالوجود العربي والإسلامي.

وقد عرفت المدينة كميناء تجاري منذ عام 711م, إلا أن ازدهارها كميناء تجاري قد بدا واضحاً منذ بداية القرن السابع, ونستطيع أن نفهم من صيغة المرسوم الإمبراطوري الذي أصدره الإمبراطور - في عام 843م والذي يأمر بمعاملة التجار الأجانب في مدينتي تشوانتشو وخانجو وحماية معالمهم بأن المدينة كانت في ذلك التاريخ تعج سلفاً بالتجار الأجانب الذين نعتقد أن معظمهم كانوا عرباً ومسلمين. كما نلاحظ أن المدينة قد قامت في عام 944م ببناء امتدادات جديدة لأسوارها, وبنت المزيد من المخازن والطرق, ونظمت الأسواق مما يدل على اتساع تجارتها الخارجية والاعتراف بها كميناء دولي لا يقل عن ميناء قوانغتشو, كما تم في عام 1087م بناء مكتب للتجارة الخارجية. وقد جاء العرب والمسلمون إلى هذه المدينة منذ فترة مبكرة من القرن السابع وظلوا يتوافدون عليها حتى نهاية أسرة مينغ, حيث كانوا يتاجرون في العطور والأدوية وغيرها , واستوطن بعضهم هناك, وأقاموا المتاجر وبنوا مدارسهم ومساجدهم, وتزوّجوا من السكان المحليين وتعلموا لغتهم. وتبدو أزهى فترات الوجود العربي في هذه المدينة إبان أسرتي سونغ ويوان. وقد اهتمت سلطات أسرتي سونغ ويوان بالمدينة بعد اكتمال سيطرتهم على الصين, وقاموا بتعيين الشخصية العربية المشهورة بو شو قنغ (أبو شوقي) مسئولاً عن التجارة الخارجية في المدينة.

مسجد الأصحاب

يقع مسجد الأصحاب في قلب مدينة تشوانتشو حيث يواجه من الجنوب شارع تونغ خوا التجاري المهم ويجاور المسجد عدد من المعابد ودور العبادة المبنية في فترات لاحقة لبناء المسجد, ويشغل المسجد مساحة هكتار من الأرض, ويتكون من ثلاثة أجزاء رئيسية وهي المصلى, وقاعة الدعوة والبوابة, وفناء تفصله جدران منقوشة بالآيات الكريمة. كما توجد بئر قديمة كانت تستخدم للغسل, والمصلى الذي دمّر سقفه في زلزال في عام 1607م مبني بأحجار الجرانيت البيضاء على مساحة قدرها 600متر مربع وعلى جدرانها الأربعة نقوش من الآيات القرآنية, وتوجد على العتبة العليا لباب المصلى ثلاثة سطور من النقوش تسجل الآيات 125-127 من سورة البقرة.

التقت (العربي) الإمام عبدالله خوانغ تشيو رن الذي ظل يشرف على المسجد منذ عام 1950م, وذلك بعد مغادرة الإمام السابق تشن مين جن إلى شيا مين في عام 1952م ويرأس الإمام عبدالله لجنة المسجد وتتكون من سبعة أشخاص, وقد ابتدر الإمام عبدالله حديثه بشكر مجلة العربي التي اهتمت بزيارة المسجد, مشيراً إلى أنه سعيد بالاهتمام العربي الجديد بالآثار العربية في الصين. وأضاف أن المسجد يحتاج إلى دعم عربي لإعادة بناء سقف (المصلى) الذي يتعرض الآن للأمطار والرياح, مشيراً إلى أن بعض التجار العرب كانوا قد ساهموا في حماية هذا الأثر المهم منهم التاجر الأردني التاج هجار الرئيس التنفيذي لمجموعة (في تي جي) وذلك في عام 1984م.

القادمون من المدينة

اختار العرب والمسلمون لدفن موتاهم واحدة من أجمل المناطق في تشوانتشو, وهي تلال لينغ شان الموجودة حالياً في الضاحية الشرقية لمدينة تشوانتشو حيث يرقد واحد من أهم آثار العرب خارج بلادهم, وهو ضريح الحكيم المقدس وتحتاج للوصول إلى هذا الضريح الموجود في أعلى بقعة في التل إلى أن نشق طريقاً معبّداً وسط المروج حيث يرقد قبر الحكيمين تحت عريشة حديقة متكئة على عدد من الأعمدة, ويبدو الضريح من الوهلة الأولى أنه يأخذ شكلاً مربعاً يتجه أحد أضلاعه نحو الجنوب, بينما تحيط التلال بالأضلاع الثلاثة الباقية, وهو بشكل عام يتخذ شكلاً شبه دائري تحيط به الأعمدة, ويبدو منذ أول وهلة أن أساس القبر الأصلي لا ينتمي لا بشكله ولا زخارفه لنمط الزخارف والقبور في أسرة يوان أو سونغ, وإنما لأسرة تانغ. ويبلغ ارتفاع القبر حوالي 60سم, وتمتاز أعمدة الضريح ببساطة النقوش.

آثار السلف الصالح

وبعد جولتنا المؤثرة وسط ضرائح السلف الصالح وقبور الأجداد المتناثر هنا وهناك, والمساجد التي منحت المدينة شكلها المهيب. قفز أمامنا سؤال طبيعي وموضوعي, أين ترك العرب أحفادهم في هذه المدينة بعد أن جفّت تجارتهم وحزموا حقائبهم وغادروها في بداية أسرة مينغ.

تشير الوثائق التاريخية الصينية والتواريخ المحفوظة عن الأسر الكبيرة المنحدرة من أصل عربي مثل أسرة دينغ. أنه بعد أن قام تمرّد أسبا في حوالي عام 1357-1366م, واضطربت الأحوال في بداية أسرة مينغ, تراجع المسلمون آنذاك إلى القرى والمناطق المحيطة بمدينة تشوانتشو وكان من بينهم أسلاف دينغ (دين) من الجيل الثالث المنحدرين من أسرة سيد الدين شمس الدين العربي والذين استقروا في منطقة تشن داي في الضفة الجنوبية لخليج تشوانتشو.

إذن كان علينا التوجه إلى منطقة تشن داي بحثاً عن الوجوه العربية والمساجد القديمة وشواهد القبور الأثرية. كان الطريق صعباً إلى تشن داي لكنه كان ممتعاً, وصلنا إلى تشن داي المكان الذي اختاره أحفاد العرب متمسكين بالأرض وبوطنهم الجديد كصينيين مسلمين, ركبت السيارة مع صديقي قوه يو شنغ, الذي حدّثني في الطريق عن أسلافه العرب, وكيف جاءوا وأين توجد مقابر أجداده, ولما وصلنا إلى تشن داي تجمع حولنا الأطفال الذين تبدو الملامح العربية عند بعضهم واضحة وقد ضاعت الملامح في وجوه أخرى.

التقينا الإمام الجليل حبيب ما جونغ يي إمام مسجد تشن داي الذي بادرنا بالقول إن كل سكان هذه المنطقة من أصل عربي ومن أسلاف الرسول الكريم, لكنهم الآن وثنيون وبوذيون ولا دينيون, وأضاف الإمام بحزن شديد وبلغة عربية سليمة أنه يحاول منذ زمن استعادة هؤلاء الناس إلى رحاب الثقافة العربية الإسلامية, وقال إنه من الأهمية بمكان أن تستعيد عشيرة دينغ هويتها الإسلامية مؤكداً أنه وبعد سياسات الانفتاح والحريات التي يتمتع بها المسلمون الصينيون اليوم ودعم الدولة المستمر لأعمال صيانة المساجد يبدو العمل مع عشيرة دينغ أمرا حيويا ومهما. وقال ايضا إن الحكومة الصينية قد عيّنته إماما في هذه الناحية وهي تدرك أن هنالك عملاً كبيراً ينتظر الخيّرين من عشيرة دينغ وينتظره شخصياً لفعل شيء من أجل هؤلاء الناس. وأضاف إنه من أصل أكثر من 20 ألف شخص من عشيرة دينغ التي كانت كلها مسلمة, يوجد فقط ما بين 20-30 مسلماً, بعضهم من صغار السن الذين لايزال آباؤهم وثنيين.

ويعلق دينغ ون جي المشرف الإداري للمعبدعلى هذا الوضع قائلاً: إن أجدادنا كانوا من العرب المسلمين, إلا أنه لأسباب انقطاع الصلة بالعالم العربي والأسلاف, بدأنا نفقد الكثير من ملامح الثقافة القديمة إلا أننا نعمل حالياً على تجميع تراث الأجداد وتاريخهم لتعريف الأجيال الحالية بماضيها, وقد أقمنا لهذا الغرض متحفاً صغيراً لتاريخ أسرة دين.

إلى جانب الضريح الغامض ومقابر أسرة دين العربية ومسجد الأصحاب بمجموعته الصغيرة من شواهد القبور يحتفظ متحف المواصلات البحرية بالمدينة بأهم مجموعة أثرية حول تاريخ التبادل الثقافي بين الصين وبلاد العرب. حيث يحتفظ هذا المتحف منذ تأسيسه في عام 1959م بحوالي 200 قطعة من الآثار العربية والإسلامية محفوظة في الجناح رقم 1 الخاص بالنقوش الحجرية العربية والإسلامية والتي تعود إلى أسر صينية مختلفة ابتداء من أسرة سونغ وهي لاتزال تحتاج إلى مزيد من الدراسة والفحص ومعظمها مكتوب باللغة العربية, كما توجد بعض الشواهد تحتفظ بكتابات عربية وفارسية وقليل جداً من الشواهد مكتوب باللغة التركية. إلا أن اللغة العربية هي السائدة في كتابة النقوش والشواهد في المتحف.

ومن الشواهد التي نعتقد أن أصحابها قد يكونون عرباً قبر (محمود بن محمد بن أبو البصل الجيلاني المتوفى في الثامن من جماد الآخر سنة اثنين وخمسين وسبعمائة (الموافق 1351م) وهو شاهد مكتمل ويسهل قراءته, وقد نقشت عليه الآية 255 من سورة البقرة (آية الكرسي). كما يوجد شاهد آخر قد يكون له علاقة برجل الخير اليمني نينا عمر الذي بنى باب وحائط مسجد في تشوانتشو في وقت غير معروف.

الدعم العربي المالي والفني

بعد أن أنهت العربي جولتها داخل متحف المواصلات البحرية, التقت البروفيسور وانغ ليانماو نائب رئيس المتحف , فأشار إلى أن المتحف أنشئ قبل أربعين عاماً بعد أن جمع بعض الباحثين الصينيين كميات كبيرة من شواهد القبور واللوحات الحجرية, وكما تلاحظون أن معظم الموجودات في المتحف عربية وإسلامية, إلا أن المتحف الحالي بدأ يضيق بالآثار التي تزايدت بعد الاكتشافات الجديدة في العقود الأخيرة. وكما رأيتم بأنفسكم أن الفناء حول المتحف ممتلئ بالكثير من القطع الأثرية العربية والإسلامية المهمة مثل أغطية القبور والشواهد وغيرها. وأضاف البروفيسور إن هذه القطع تتعرض كما كانت منذ مئات السنين إلى عوامل التعرية, ولإنقاذ هذه القطع النادرة قررنا إنشاء المتحف الثقافي الإسلامي في شرق المتحف الحالي.

وحول متحف الثقافة الإسلامية المقترح التقت العربي الباحث قو يو شنغ وهو من أسرة مسلمة من أصول عربية, وقد شرح السيد قو المشروع الجديد, وقال إنه سوف يقام شرقي المتحف الحالي وسوف يراعي في التصميم البعد العربي والإسلامي حتى يتماشى مع المعروضات العربية والإسلامية في المتحف, ويتكون المتحف المقترح من خمسة طوابق تعلوها مئذنة. وسيضم المتحف تمثالا للرحّالة المغربي ابن بطوطة حتى يكون ضيفاً دائماً في مدينتنا, وأضاف في تقديرنا أن تكاليف هذا البناء تصل إلى مليوني دولار أمريكي.

وكانت مدنية شيامن آخر محطاتنا في جنوب شرق الصين, حيث كانت العربي على موعد مع الأستاذ قو جي تشاو من متحف الأنثروبولوجيا بجامعة شيامن, الذي قام مشكوراً بفتح متحف الجامعة للعربي للتصوير والتحقيق رغم أن الجامعة في إجازتها بمناسبة أعياد الربيع في الصين. وقد أفاد الأستاذ قو وهو أيضاً مسلم من أصول عربية أن المتحف يضم حوالي 62 قطعة من الآثار العربية والإسلامية تبرع بها عالم الآثار الصيني المعروف لن هوى شيانغ للمتحف, وقد عثر عليها في مواقع مختلفة داخل وخارج مدينة تشوانتشو.

وهكذا أنهت (العربي) مهمتها الصعبة لاستقصاء تاريخ العرب والمسلمين في الصين مسلطة الضوء على ذلك الحوار الرائع بين الحضارتين العربية والصينية الذي كان جنوب الصين أحد ميادينه, وبقي أن تشد العربي على يد الرجال الصادقين في اللجان المشتركة المنوط بها العناية بمسألة الآثار العربية في الصين وعلى يد كل الذين جعلوا هذا الاستطلاع ممكناً.

 

 

جعفر كرار أحمد

 
 




صورة الغلاف





 





 





مسلمون صينيون أمام ضريح أبي وقاص





مسجد في تشنداي هكذا يبدو على شكل المعابد الصينية





شارع المنارة في مدينة قوانغشو كان يعج قديما بالتجار العرب وبضائعهم العربية





بوابة مسجد الاصحاب وكتب عليها عبارة "الله اكبر"





منظر عام لضريح قبة أبي وقاص





أعضاء الجمعية الإسلامية الصينية وفي الوسط إمام مسجد هوبان في قوانغشو





مسلمة صينية تحمل الماء في حقلها بمنطقة باي تشي





اطفال من اصول عربية في منطقة باي تشي





شاهد قبر فاطمة بنت نينا أحمد. يقال إن أصولها يمنية وتوفيت عام 1301م





شاهد قبر والدة السيد البرتمي بن السيد الهمداني اليمني





مدينة تشوانتشو التي ضمت أعدادا كبيرة من العرب والمسلمين





المصلى الحالي وصحن المسجد في مسجد الأصحاب





العمارة العربية الإسلامية انعكست على البيئة المعمارية





الإمام عبدالله إمام مسجد الأصحاب في تشوانتشو





إمام مسجد (الحنين الى النبي)





منظر عام لضريح الحكمين في تل لينغاشان