الدكتور عبدالسلام المسدي وجهاد فاضل

الدكتور عبدالسلام المسدي وجهاد فاضل

  • كلما أوغلت البشرية في التخصص الضيق، برز احتياجها إلى تكامل المعرفة
  • المناهج الحديثة في النقد ساعدت على إعادة استنطاق النصوص القديمة يتعرض

هذا الحوار مع المفكر والناقد التونسي الدكتور عبدالسلام المسدي لقضيتين رئيسيتين: قضية النقد وقضية الحداثة. ومن الواضح أن القضيتين استأثرنا وتستأثران الآن باهتمام النُخَب العربية المثقفة التي لا تدري بالضبط وجه الصواب في التعامل معهما. هل النقد الحديث السائد الآن بمدارسه المعروفة هو النقد الذي يؤمل منه الخير لأدبنا العربي والذي بإمكانه ان يضطلع بمهام النقد المختلفة؟ هل النقد الحديث الذي أوغل في الإحصاءات والبيانات هو النقد الحقيقي، أم ان النقد شيء آخر بإمكانه ان ينتفع فقط بهذه الإحصاءات والبيانات؟ وهل الحداثة هي القطيعة مع التراث والجذور واستنساخ تجارب الآخرين في الحداثة، أو تشويه هذه التجارب كليا على الأصح، أما أنها شيء آخر تماما لا يمكنه في خاتمه المطاف إلا ان يكون وليد الحاجات الموضوعية العربية المختلفة؟. هذه الأسئلة وسواها مما يرتبط بها يناقشها في هذا الحوار الدكتور عبدالسلام المسدي الأستاذ في الجامعة التونسية منذ عام 1972 والمتخصص في مجال الدراسات اللغوية الحديثة وتطبيقها على الأدب وقد أصدر في هذا المجال أثنى عشر كتابا منها الأسلوبية والأسلوب، التفكير اللساني في الحضارة العربية، النقد والحداثة، قضية البنيوية، اللسانيات وأسسها المعرفية. كما أنه عمل وزيرا للتعليم العالي والبحث العلمي في تونس، كما عمل سفيرا لها لدى الجامعة العربية ولدى المملكة العربية السعودية. وقد أجرى الحوار الصحفي اللبناني جهاد فاضل المشرف على القسم الأدبي بمجلة الحوادث والذي أجرى الكثير من الحوارات مع الشخصيات الفكرية والعربية وأصدر العديد من الدراسات النقدية.

  • نود أن نسألك في مستهل حوارنا عن رأيك في حاضر النقد الأدبي عند العرب، وبخاصة مناهج النقد الحديث؟

في البدء يجب أن نذكرّ بأن كل شيء في عصرنا قد تطورنا وتغير تغيرا سريعا. وفي البدء أيضا يتعين التنبه إلى أن المعرفة البشرية بقدر ما أوغلت في التخصص الضيق احياناً، آمن روادها من جديد بضرورة تكامل المعرفة وتكامل أفنان شجرة العلم بصفة عامة.

فمن المسلم به إذن ان كل حقول المعرفة تتأثر بهذا التطور الحديث، ومن باب أولى وأحرى ما يخص دراسات العلوم الإنسانية، والأدب واللغة على رأسها. والذي تجسمت به عملية التطور في هذا الإنجاز التغييري هو ان وظيفة الناقد قد تحولت من إطار تيسير المنال لدى القارئ. أعني على وجه التحديد ان الناقد الأدبي من قبل كانت وظيفته ان يبلغ إبداعية النص الأدبي إلى القارئ بحيث يبصره بالسمات المميزة للنص الأدبي في شاعريته وإبداعيته. فبذلك كانت مهمة الناقد تندرج ضمن إطار يمكن تسميته بالإطار التربوي العام، أو الإطار البيداغوجي العام أي إطار التيسير ورسم مسالك المنال الأسهل.

وبحكم التغيير الذي طرأ على مستوى المعارف الإنسانية عامة وعلى طرق تناول النص الاالأدبيتجة للتأثر بالعلوم الإنسانية الأخرى سواء منها علم النفس أو علم الاجتماع أو علم اللغة الحديث فإن مهمة الناقد قد تطورت أيضا بدورها، وأوكلت هذه المهمة التعليمية إلى مستوى آخر من مستويات التعامل مع النص الأدبي. أن يتعمق الظاهرة الأدبية في النص، وأن يجلو نواميسها الخفية بحيث يبرزها على السطح ويعطي التفسير الموضوعي العلمي الذي به تحوت اللغة من أداة تواصل عادي إلى أداة إبداع فني.

ولذلك فإن الناقد اليوم أصبح يكتب بلغة ليس من البديهي أن تُفهم لأول وهلة، وليس هذا من باب التعمية أو الألغاز، ولكنه ينطلق من أدوات معرفية إذا كان قارئ الخطاب النقدي لم يتسلح بثقافته بما يكفي ان يتيسّر له الفهم، ظنّ ان هذا الخطاب هو خطاب ملغز أو موغل في التعمية. ولذلك فإن ترتيب بيت العمل النقدي قد تغيّر وأعيد بناؤه من جديد هو صورة من صور تجاوز النص الأدبي الأول نحو نص إبداعي جديد عن طريق النقد.

وتباعا لهذا أصبح متعينا ان يتناول القارئ العادي النص، الأدبي تناولا تربويا أو تعليميا على سبيل غير سبيل الناقد المتخصص اليوم. ولذلك يمكن ان نقول ان الذين يساهمون اليوم في بناء النص النقدي هم أطراف مختلفون دون ان يكونوا متباينين: فعالم الأسلوب، وعالم اللغة، والباحث في بناء النص، أو الباحث في أبعاده السينمائية والعالمية، كل أولئك أطراف مساعدون لتشخيص ظواهر النص، وكلهم يقدم ثمره عمله للناقد الأدبي بالمعنى العام الذي يمكنه ان يُصدر حكمه النقدي انطلاقاً من تشخصيات موضوعية على مستوى اللغة وعلى مستوى بناء العلامات وعلى مستوى الأداء الوظيفي للنص الأدبي.

الممارسات النقدية

  • وعلى مستوى الممارسة النقدية الراهنة في الوطن العربي هل ترى ان محصول هذه النظريات كان جيداً؟

- ان هذه النظريات قد ساهمت قبل كل شيء في ترسيخ الوعي الجديد بالعملية النقدية. ولو لم يكن لهذه المناهج إلا فضل تنبيه الناس إلى الأدب قد دخل في مختبر كبير من المعارف الحديثة مختبر معرفي موضوعي، لكان هذا كافيا لها من حيث الفضل والرسالة.

ولكنه إلى جانب هذه الميزة، نشهد بأن النقد العرب يقد أفاد من هذه الطرائق بمستوى التعامل مع نمط معين من النصوص الإبداعية فالقصيدة الحديثة، ولغة بناء الشعر بشكل حديث، لا يمكن إطلاقا التوسل إلى فهمها والى تقويمها إلا عن طريق المعرفة النقدية الحديثة.

وجانب آخر من جوانب فضل هذه النماذج، يمثل في رأينا في أن هذه التوسلات المنهجية قد أمكن تطبيقها على مواريث الأدب العربي وقدمت عطاء إضافيا فيما يخص استنطاق النص الأدبي القديم. ذلك ان النص الأدبي القديم الذي كرسّه التاريخ وظل قائما في مخزوننا الحضاري باعتباره نصا مكرسا لا جدال حول قيمته الإبداعية يقدم اليوم إلى الناقد وهو مادة خام، فيتجاوز الناقد كل ما تراكم على هذا النص الإبداعي من تيارات نقدية كلاسيكية، ويعيد أحياءه بمنظور جديد، فكأن النقد الأدبي الحديث اليوم يتمتع بآليات هي بمثابة عدسات المجهر المكبر، أو عدسات المجهر الإلكتروني بعد ان كان السائد هو التوسل بالعين المجردة الكاشفة.

كل هذه مقومات إيجابية في تطعيم المعرفة العربية النقدية بالمقومات النقدية الحديثة. ولكن من الأمانة ان نذكر ان بعض المجازفات قد حصلت في تطبيق هذه المناهج النقدية. وقد تم ذلك على يد صنفين من جيل النقاد المعاصرين: الصنف الأول هم النقاد المنبهرون بالتيارات النقدية المستوردة والذين لهم قدم تأصيل في تراثهم النقدي والبلاغي عامة. وهؤلاء، وعلى حسن نية، راحوا يطبقون بشكل مباشر واختزال آلي، فأضعفوا بذلك من مصداقية هذه المناهج لدى غير المستأنسين بها. والصنف الثاني، ودون ان نلقي تهمة مبدئية، كأنما تعمدوا تطبيق هذه المناهج بشكل متعسف، ربما لتثبيت موقف من التاريخ لديهم يتمثل في ضرورة القطع مع الماضي بفصم حاسم.

وفي رأينا ان هؤلاء وأولئك معاً قد اضرّوا أولا بالمناهج الحديثة إذ شوّهوا سمعتها، اضّروا ثانيا بالأدب العربي عندما طبقوا ذلك عليه بتعسف.

التعامل مع النص

  • ثمة طرق مختلفة للاقتراب من نص ما: الإعجاب، الكشف، وما إلى ذلك.. كيف تقتربون أنتم من النص؟

- ربما بحكم تشبعنا بمنطلق منهجي، وهو التمييز بين لحظتين من لحظات التعامل مع النص، ما نسميه بلحظة القراءة من الدرجة الأولى ولحظة القراءة من الدرجة الثانية، أعني ان مستهلك الأدب، أي قارئه يتعاطى النص وهو مندفع نحو استهلاكه لا بالمعنى المادي الشائن، وإنما بمعنى الاستفادة أو بمعنى الانتعاشة برحيق النص، وذلك عن طريق التعامل الوجداني بين وعي ادبي مخزون ولغة ابداعية تشع بشاعريتها.هذه اللحظة هي لحظة تجاذب. فالنص يجذبك إليه، وأنت في سعيك إليه تجذبه نحوك. وربما هذه اللحظة هي التي تقرر أو تحددّ نية الانتقال إلى الدرجة الثانية حيث يعمدك الإنسان إلى الاستفسار في الدرجة الثانية عما وجد في النص بحيث شدّه إليه وحصل بفضله التجاذب. ولم يتوافر بأجزائه أو بكليته لانطفأ بريق النص أمام صاحب القراءة.

في هذه المرحلة الثانية يقوم الإنسان بتصنّع منهجي التعبير إلى نمط آخر، بصفة عملية، عندما أقرأ الجملة النثرية أو البيت، الشعري، أشعر بهذا الجذب المغناطيسي أحاول بصفة ذاتية ان أعيد بناء النص بطريقة مشوّهة فأقول لو عُبّر عن هذا بلغةٍ ما كأن يكون في الجملة هذه أو تلك، لفقدت طاقة الجذب في النص، فأعود من جديد لأتحسس الفارق لي وأتبين المسافة التي خرجت من اللغة التي لا تجذب إلى اللغة التي أشعث بإبداعيتها. وعندئذ أحاول ان اتمرس من الناحية اللغوية بما قد طرأ على النص أحيانا بحصول كلمة ما كان ينتظرها القارئ في ذلك السياق بالذات، وأحيانا بحصول ترتيب في أجزاء الكلام ما كان يهتدي إليه الإنسان لو تكلم باللغة على شيء عادي، وأحيانا بتوليد مجازات لا تخطر على البال من الوهلة الأولى. ويتدرج العمل من الجزء الصغير، وهو الجملة، إلى الجزء الأكبر، إلى السياق بأكمله. ويحاول الإنسان إذ ذاك أن يراوح بين لحظتين: التلذذ والاستمتاع ولحظة البحث عن الأسباب الموضوعية التي ولدت هذا التلذذ أو هذا الاستمتاع.

ولذلك فإن العملية النقدية تبدأ في نوع من المختبر، المختبر اللغوي مع النص. ويتدرج الإنسان شيئا فشيئا إلى ان يكون خطابا نقديا حول النص يراعي فيه تواصلا جديدا مع القارئ. وكثيرا ما نميل إلى أن نبني خطابنا النقدي على نمط لا يخلو من الإبداعية في حد ذاته بحيث يتوازى في شاعريته النص الأصلي، ويصبح القارئ للخطاب النقدي متعاملا مع اللغة الشعرية انطلاقا من النص الأدبي الواحد وصولا إلى النص النقدي الثاني.

التكامل المعرفي

  • وهل تنتهون إلى أحكام قيمة في النهاية، أم تتركون الأمور على سجيتها؟

- ترك الأمور على سجيتها لا يعني تعمد الالتباس. ولكننا في نطاق مصادرة منهجية، نؤمن بموجبها، اولاًن بحرمة الاختصاصات، ثانيا، بتكامل المعارف وتمازجها في نفس الوقت.

أنا شخصيا اتّحري دوما التعامل مع النص الادبي من موقع انني متخصص في اللغويات. فعالم اللسان إذا ما تقيد بسمته الأساسية تحتم عليه ان يعامل النص الأدبي من موقع تشخيص ظواهره اللغوية ليقدم وصفة التحليل إلى الناقد الأدبي الأصلي حتى يستفيد من هذه المقومات اللغوية، ويبني بعد ذلك حكمه في سلّم القيم. قد يصل التجاذب إلى ان يفضي الإنسان بما يقترب من أحكام قيمة ولكن الاحتراز الدقيق والذي نصّر على احترامه هو التشخيص مثلما يعمد فاحص الأعراض البدنية إلى البحث عن كشوفات بالأشعة أو بالتحاليل المخبرية لتتجمع لديه مقومات الحكم وإصدار القيمة. ولذلك فأنني أعتبر ان المحلل الأسلوبي والمستكشف البنائي والواصف السينمائي. كل أولئك يقدمون مادة بحثهم للناقد الأدبي الذي بوسعه ان يستفيد من عملياتهم الاستكشافية الأولى، وأن يّحصل مبدأ العملية النقدية في مستوى سلّم القيم.

أصالة الشابي

  • اعرف أنك درست الشابي الشاعر الذي يقول بعض الباحثين أنه أول من اسكن الشعر في تونس والمغرب، على أساس ان المغرب-المعاصر على الأقل، - لم يعرف قبله شاعرا بهذا المستوى. ولكن أصالة الشابي موضع جدل احياناً،. فمقابل من يتحدث عن أصالته، هناك من يعتبره مجرد صدى لأدب المهجرين شعرهم..

مما أصبح شائعا لدى الجميع ان ضربا من الفصام كان قائما بين جناحي الوطن العربي مشرقه ومغربه، وأن هذه الفترة التي طالت قلت فيها الجسور الرابطة بين الجناحين. وكان ان برز أبوالقاسم الشابي لا من حيث هو شاعر مبدع فقط، بل من حيث أنه رمز لهذا الجسر للوصل بين جناحي الوطن العربي في زمن افتقدت فيه قنوات الاتصال بين الطرفين. وقد كان هذا الجسر الرابط ذا اتجاهين: الشابي قد أفاد مباشرة من اطلاعه على حركة الإبداع في المشرق العربي سواء من حيث المكان أو من حيث الأصل لان مدرسة المهجر هي مدرسة المشرق العربي التي تحولت في طرف العالم الآخر، أو من حيث العطاء لان الشابي قد عُرف في المشرق العربي لأنه مدّ جسور الاتصال ونشر مجلة "ابوللو" وقُرئ.

هذا على مستوى القنوات الثقافية وما يتصل ببنية النسيج الفكري في وطننا العربي. ونتج عن هذا ان اقتصار حكم أخوتنا المشارقة على النهـضة الأدبية والفكرية في تونس من خلال نموذج الشابي فقط، قد ولد إجحافا ثقافيا وتولد عنه حيف فكري.

أما من حيث المضمون، فان أبا القاسم الشابي في رأينا قد مثل مشروعاً للإبداع الشعري لم يكتب له ان يتمّ. لا ننسى ان أبا القاسم الشابي قد مات في زهرة العمر، وأنه توفي ولما يتم عقده الثالث. فقد عاش ربع قرن في عمره بأكمله وعمره الشعري بين أول قصيدة قالها وآخر قصيدة نعرفها عنه يتحدد بتسع سنوات تقريبا. فضلا عما أصابه من الناحية الاجتماعية والصحية في تلك الفترة. كل هذا يدفعنا للقول بأنه قد كان مشروعا. ربما كان مشروعا عملاقا، لكنه لم ينجز، فالذي أنجز من هذا المشروع وهو بمثابة القواعد التأسيسية للعمارة الشامخة يمثل وعدا كبيرا، فهو شعر واعد بشكل بارز، ولا شك ان عوامل عديدة قد تضافرت على هذا التكوين وعلى هذا المشروع من بينها لا شك لا اقول التأثر المباشر ببعض المدارس الشعرية دون أخرى، وإنما أقول ان الميزة في كل ذلك، ان للشابي قابلية التمثل والاستساغة بما يخص الإبداع الشعري. وهذه سمة بارزة للموهبة الشعرية والإبداعية. فهو قد كان ذا طواعية طبيعية في أن يطوّر تجربته عن طريق التمثل الخارجي. ولذلك فإنه في تأثره فيما ما نسمّيه بالتأثر بالمدرسة الشعرية القائمة إذ ذاك يُعد شيئا طبيعيا حسب رأينا، بل يُعد إنجازا فاعلا في مستوى التواصل الشعري على الساحة العربية بالذات.

المشرق والمغرب

  • على صعيد توزيع الحظوظ الثقافية عبر التاريخ بين المشرق والمغرب يلاحظ بعض الباحثين ان المغرب أخذ حصته النقد والفقه والتنظير، في حين وهب للمشرق الشعر والإبداع بصورة عامة، كأن ذلك يشكل نوعا من الثوابت. فكيف تفسّر هذه الظاهرة؟

- الحقيقة أنه يصعب عليّ أن أقر ما تذهبون إليه لان فيه تجريدا للظواهر الثقافية، ولان فيه نوعا من الاختزال الذي لا يحق لنا ان نؤكد دون روائز اختبارية في البحث.

لكن الذي أسلم به هو ان المشرق العربي قد مثّل عبر تاريخنا المعين الأصل وقد تعامل المشرق العربي مع المغرب العربي علي هذا الأساس. وفى المقابل، وعبر التاريخ، نشهد أن المغرب العربي من حيث الريادة الفكرية قد كان دائما يطمح إلى التماثل مع المشرق العربي، ولعل البحث في بعض المسميات قد يؤكد هذا الجانب فكان إذا برز قطب في المغرب العربي على مستوى الإبداع جسّم تكريسه في الوعي الثقافي بتسمية ثانية تناظر بينه وبين رفيق له في المشرق.

ومن حيث الظواهر الثقافية، ظل المشرق العربي يعيش عقدة التبني للمغرب العربي. بعض ذوي النوايا المتشنجة يسمون هذا عقدة استعلاء. واكتفي آنا بالقول أنه مركّب التبني، فابن خلدون كأنما تختزل حياته في الفترة الوجيزة التي قضاها في المشرق، وبالتالي يدعي المشرق أنه ابن المشرق أكثر مما هو ابن المغرب. وابن منظور القفصى كأنما هو بالأساس برز بفضل وجوده لفترة ما في المشرق العربي. والأمثلة في هذا الباب عديدة. واعتبر شخصيا من موقع الاستكشاف الثقافي الواسع ان هذا التنافس حول ضبط انتماء الإعلام في حضارتنا، هو ظاهرة صحية وليست ظاهرة مرضية، لأنه إقرار غير مباشر بحكم القيمة المطلقة. ولأنه في نفسه الوقت يدل من خلال هذا التجارب على ان النسبة الحضارية هي نسبة واحدة بين الطرفين، وأن هذه فوارق خصوصية داخلية لا تضّر قيمة البعد الحضاري للامه العربية - في بعدها الإسلامي أحيانا- شيئاً.

ولذلك فنحن اليوم في منعطف تاريخي جديد ربما يتأكد على أنظمتنا في هرمها السياسي وفي أهرامها الثقافية والأكاديمية ان تعمل على تجاوز هذه العقد بحساسيتها المختلفة، وأن تتسامى إلى ما هو كون أوسع للامه العربية، ولاستشراف مستقبل سيكون الصراع فيه بعد اختفاء الصراع العسكري صراعا اقتصاديا من ناحية، وثقافيا من ناحية ثانية، وكأني بالمثقف ورجل الفكر والعالم سيتحتم عليهم ان يتجندوا في نضال حضاري جديد لن يكون بالضرورة صراعا دمويا على مستوى الفكر، وإنما سيكون صراع المساهمة في الحلبة العالمية الواسعة.

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




دكتور عبدالسلام المسدي





جهاد فاضل