قضية البيروقراطية.. إلى أين؟ أحمد جمال الدين موسى

قضية البيروقراطية.. إلى أين؟

البيروقراطية قديمة قدم الدولة المركزية. فالبرديات والنقوش الأثرية تحتوي على الكثير من قواعد السلوك البيروقراطي. ولكن التعبير نفسه حديث يعود للقرن الثامن عشر. فهل يمكن أن تواصل البيروقراطية حياتها وسط عوامل التغيير التي تمس كل شيء؟

للبيروقراطية أكثر من تعريف، سياسي، سوسيولوجي وشعبي. فمن الناحية السياسية تعرف البيروقراطية بأنها الحكم من خلال المكاتب أو من خلال الموظفين. ويقصد بذلك أن السلطة السياسية تكون بيد جهاز الدولة المؤلف من المسئولين الذين يهيمنون على الجهاز الإداري وليست بيد ممثلي الشعب المنتخبين، فالبيروقراطيون هنا هم المسئولون والعاملون في جهاز الدولة. أما من الناحية السوسيولوجية فالبيروقراطية هي تنظيم ذكي ورشيد للأجهزة والمنظمات- سواء كانت خاصة أو عامة- قائم على مبادئ أساسية أهمها: التدرج في السلطات وعدم التحيز والخضوع للرقابة. فالبيروقراطية هنا تعتبر خطوة للأمام في سبيل تمكين المجتمعات من التعامل فنيا مع مشكلة تضخم حجم المؤسسات وتعقدها في العصور الحديثة. وعلى العكس من المفهوم السابق فإن النظرة الشائعة لدى الجمهور هي أن البيروقراطية تعني: البطء في التصرف، وثقل رد الفعل، وتعقيد الإجراءات، وعدم ملاءمة التنظيمات لحاجات المتعاملين، تغلب الروتين، وعدم اكتراث البيروقراطيين بمصالح المجتمع والمواطنين. نتبين من التعريفات السابقة مدى التفاوت في النظرة إلى البيروقراطية، الأمر الذي يجعل الاتفاق على مفهوم موضوعي محدد لهذا المصطلح هدفا بعيد المنال.

ويُنظر إلى الألماني ماكس فيبر MAX WEBER على أنه رائد التحليل السوسيولوجي للظاهرة البيروقراطية. والبيروقراطية تشكل عند "فيبر" أسلوبا تنظيميا بالمقارنة بغيره، حيث إنه يقود إلى الدقة والسرعة والوضوح وتجنب الغموض والاستمرار والسرية والوحدة وتقليل النزاعات وخفض النفقات واحترام التدرج الرئاسي. وكل ذلك يعني تحسينا في الأداء الحكومي والإداري لصالح المواطنين.

والواقع أن ماكس فيبر كان متأثرا بنجاح الدولة البروسية مما دفعه إلى محاولة صياغة نظام مثالي للدولة يقوم على مبدأ الخضوع الرئاسي.فالنظام، البيروقراطي مثالي بالنسبة إليه، لأنه ينطوي على مزيج من احترام القانون والرقابة الاجتماعية الرشيدة والتدرج في السلطات. وهذا النظام صالح أيضا - في رأى فيبر للمؤسسات والمنظمات الكبيرة سواء كانت عامة أو خاصة.

البيروقراطية وتخصيص الموارد

ويأتي اهتمام الاقتصاديين بدراسة البيروقراطية من انشغالهم بقضية تخصيص الموارد. فمعظم الموارد قدا أصبحت في الوقت الحالي تخصص وتوزع من خلال القرارات التي تتخذها البيروقراطية في المؤسسات العامة والخاصة. ومع تزايد المهام التي تقوم بها البيروقراطية كبر حجمها وتعزز نفوذها وأصبحت تشكل واحدة من قوى الضغط السياسي الأكثر تأثيرا في المجتمعات الحديثة. غير أن اهتمام الاقتصاديين بتحليل البيروقراطية لم يبدأ إلا منذ فترة قصيرة نسبيا لا تتجاوز عشرين عاما.

حقا لقد سبق لبعض الاقتصاديين الأوائل الإشارة العارضة للظاهرة البيروقراطية على المستوى الكلي ومن ذلك قول آدم سميث في " ثروة الأمم": (إذا تركنا للموظف حرية الاختيار بين عدد كبير من المشروعات فإنه بكل تأكيد سوف يختار أكبرها وأفخمها، أي المشروعات التي تعطيه أهمية أكبر وتجعله محل إعجاب المواطنين، وذلك بدلا من المشروعات الأصغر التي ليس لها من مزايا سوى منفعتها الكبرى". وكذلك فإن الإنجليزي نورثكوت باركينسون تد صاغ في منتصف القرن الحالي قانونه المشهور Law parkinson الذي يقوم على تأكيد مسلمتين أساسيتين هما أن الموظف يحرص دائما على مضاعفة أعداد مرءوسيه وليس منافسيه، وأن الموظفين يتعاونون على إنشاء وإضافة المزيد من الأعمال والاختصاصات. فكلما كان لدى الموظف وقت لأداء عمل معين فإن هذا العمل سوف يأخذ كل هذا الوقت، أو بتعبير آخر فإن العمل يكون أكثر استغراقا بقدر ما نخصص له وقتا أطول. فالعمل يزيد ويتضخم من حيث الأهمية والتعقيد بسبب. الوقت الذي - نخصصه له. ومن ثم فإن زيادة عدد الموظفين لا ترجع إلى حاجة العمل الحقيقية بقدر ما ترجع إلى قانون باركينسون فحاجة العمل الحقيقية بعيدة كل البعد عن التأثير في حجم الموظفين.

ولكن تحليل نيسكانن كان أول تحليل اقتصادي شامل للسلوك البيروقراطي. وهو يقوم على فرضيات رئيسية أبرزها أن البيروقراطي ليس مجرد شخص يعمل طريقة روتينتة آلية (أوتوماتون ) كما أنه لا يستهدف دائما تحقيق الصالح العام، وحده، ولكنه مثل أي شخص آخر يسعى لتعظيم منفعته الخاصة. ويكون ذلك أساسا من خلال العمل على زيادة حجم ميزانية المكتب أو الإدارة آلت يديرها. كذلك يفترض نيسكانن أن البيروقراطي يحوز سلطة احتكارية وتقديرية مهمة - بفضل انفراده بحيازة المعلومات والتحكم فيها - في مواجهة المواطنين وممثليهم المنتخبين. وفي ضوء ما سبق ينتهي نيسكانن بعد عرض رياضي وبياني مطول إلى أن الناتج البيروقراطي أكبر بمراحل من الناتج الأمثل ومن ثم فإن النفقة الإجمالية للبيروقراطية أعلى مما يجب. وهذه الزيادة في الإنتاج البيروقراطي تفيد أساسا البيروقراطيين ومرءوسيهم وموردي العناصر التي تستخدم في هذا السلطات. الإنتاج، ولكنها تشكل عبئا وخسارة صافية يتحملها المجتمع. فالخاصية الأساسية التي تميز الإدارة البيروقراطية عن غيرها هي زيادة النفقات وليست زيادة الإنتاج. وترجع هذه الزيادة في النفقات في جانب كبير منها إلى سعي البيروقراطيين للاستئثار بريع من وراء عملهم الوظيفي على حساب المواطنين، كما ترجع في جانب آخر إلى ارتفاع أهمية عنصر العمل في الإنتاج البيروقراطي مقارنة بعنصر رأس المال وذلك على خلاف الوضع في الإنتاج السلعي الذي تقوم به المؤسسات الساعية للربح.

الرقابة على السلوك البيروقراطي

ويعترض اقتصاديون آخرون على تعلية نيسكانن من شأن مركز البيروقراطي في مواجهة السلطة السياسية صاحبة الوصاية عليه وافتراضه سلبية هذه السلطة وافتقادها الرغبة أو القدرة على ممارسة الرقابة على السلوك البيروقراطي. فتحديد حجم الإنتاج البيروقراطي وشروط هذا الإنتاج هي مسئولية السلطات السياسية المنتخبة وهي لا تتخلى طواعية عن هذه المسئولية وإن كانت تتأثر دون شك بسلوك البيروقراطيين ورغبتهم في تعظيم منافعهم الشخصية. ولهذا ينفي "البيرت بريتون " مثلا صفة المحتكر التي يضفيها نيسكانن على البيروقراطي، فقوة البيروقراطيين تكمن ليس في تمتعهم بوضع احتكاري عند تقديم الخدمات العامة، ولكن في تمكنهم من التلاعب بالمعلومات وتشويهها أو حجبها بغرض دفع السلطة السياسية لتقدير المزايا المترتبة على النشاط البيروقراطي بأكبر كما حقيقتها وتقدير نفقات هذا النشاط بأقل من حقيقتها. ويستخدم البيروقراطيون قدرتهم على التلاعب في المعلومات أيضا لتغطية تفضيلهم المستمر للجمود الإداري والتقني بدلا من التطوير، وللتحويلات العينية دون التحويلات النقدية، وللتكنولوجيا الثقيلة بدلا من التكنولوجيا الخفيفة، لأن ذلك يؤدي جميعه إلى تشغيل المزيد من الموظفين وزيادة حجم النشاط البيروقراطي في المجتمع. ويتمكن البيروقراطي من التلاعب في المعلومات لأن دوره المفترض هو تسهيل انتقال المعلومات الآتية من مرءوسيه لتصل في إلى متخذي القرار في المؤسسات السياسية المنتخبة.

السياسة والبيروقراطية

وفي النهاية تجدر الإشارة إلى وجهة نظر مختلفة عما سبق للعلاقة بين السياسي والبيروقراطي.

فهذه العلاقة في رأي البعض أقرب إلى علاقة التآمر ضد مصلحة المواطنين. فالمشرع (السياسي) بالإضافة إلى دوره التقليدي في المشاركة في سن القوانين وتوجيه، السياسات العامة يقدم خدماته للمواطنين في دائرته الانتخابية بصورة تجعله شبيهـا بمحتكر توريد " تسهيلات خدمية" دون ثمن. وتأخذ هذه التسهيلات صورا عديدة من بينها: التدخل في العمليات البيروقراطية لمساعدة المواطنين - الناخبين الواقعين في شرك الموظفين، توفير المعلومات للمواطنين الذين يرغبون في معرفه كيف وأين - ينفذون إلى البيروقراطية، وأن يحصلوا لناخبيهم عن نصيب في الأنشطة التوزيعية التي تقوم بها الدولة. ويمكن للبيروقراطي أن يساعد المشرع في وضع هذه التسهيلات موضع التنفيذ عن طريق تسليمه المعلومات عن بعض المرافق والخدمات، أو الإسراع في إصدار بعض القرارات، أو اقتراح وتبرير الأنشطة التوزيعية التي تفيد المواطنين الواقعين في دائرته. ولا شك في أن البيروقراطي الرشيد سوف يستخدم هذه التسهـيلات ليخدم أغراض المكتب، وذلك عن طريق مكافأة المشرعين الذين يدعمون برامج هذا المكتب وفرصه في الازدهار والتوسع. وتؤدي مساهمة البيروقراطيين في تقديم التسهيلات إلى جعل المشرعين أكثر شعبية عند مواطنيهم المحليين، كما يقود تنفيذ هذه التسهيلات إلى خفض النفقات الخارجية External Costs للبيروقراطية، ورفع نصيب هؤلاء المواطنين في الاستفادة من الخدمات التوزيعية الحكومية. وهذه الفائدة التي تعود على المشرعين والبيروقراطيين والمواطنين المحليين ( في نطاق الدائرة الانتخابية) تبدو أكثر جاذبية مادمت الضرائب التي سوف تفرض لتغطية النفقات المترتبة عليها سوف يتحملها جميع الممولين وعلى مستوى الدولة، فالمغانم مركزة على سكان بعض الدوائر في حين أن المغارم عامة تقع على عبء كل المواطنين.

وإذا كان الاقتصاديون يتفقون أيا كانت مدارسهـم أو اتجاهاتهم على أن السلوك البيروقراطي يرتب آثارا سلبية على الكفاءة الاقتصادية، فإنهم مع ذلك يختلفون فيما بينهبم في تحديد مفهوم الكفاءة الاقتصادية وفي تحديد مدى الأضرار التي تنجم عن السلوك البيروقراطي.

فالبيروقراطية بوصفها عند التقليد بين الجدد (النيوكلاسيك) محتكرة لتقديم السلع والخدمات العامة تؤثر سلبيا على الكفاءة التخصيصية التي تعني أساسا قيام أسواق تنافسية لجميع عناصر الإنتاج والمنتجات. ومن المعروف أن التوازن الاقتصادي الأمثل في النظرية الاقتصادية التقليدية يقتضي توافر شروط المنافسة التامة خاصة شرط تعدد المنتجين والمستهلكين. فإذا لم يكن هناك سوى منتج وحيد فإنه يسلك عادة سلوكا احتكاريا يتسبب في انهيار التوازن التنافسي الكلي ويدفع المجتمع نحو عدم الكفاءة في تخصيص الموارد. ومرد ذلك أن الأثمان تساوي النفقات الحدية في حالة وجود الأسواق التنافسية، في حين أنها تساوي الدخل الحدي لدى المحتكر الذي يرغب في تعظيم أرباحه. ففي ظل الاحتكار يكون الناتج أقل والأثمان أعلى مقارنة بوضع المنافسة التامة، ومن ثم يخسر المستهلكون ما يجنيه المحتكر من أرباح زائدة. ولهذا السبب يعد الاحتكار أقل كفاءة من الناحية التخصيصية بالمقارنة بسوق المنافسة التامة.

الخدمات العامة

ويخلص الاقتصاديون مما سبق إلى أن البيروقراطية باعتبارها احتكاراً في مجال تقديم الخدمات العامة وباعتبار ما يتمتع به المسئولون والعاملون فيها من سلطة تقديرية واسعة فإنها تفتقد المبادرة لتخفيض النفقات وتقليل الفاقد وتحسين مستوى أداء الخدمة وتطوير أساليب العمل وتطبيق التقنيات والمعارف الحديث وتوخي الصالح العام وحده دون المصالح الشخصية. ومن ثم لا يكون من الصعب اكتشاف مظاهر عديدة لنقص الكفاءة الداخلية والخارجية، الأمر الذي يتسبب في آثار سلبية على مختلف الأصعدة.

فعلى الصعيد الإداري تدفع غزيزة حب البقاء المنظمات البيروقراطية للاحتفاظ بوسائل وجودها وزيادتها. ومن أبرز هذه الوسائل: السلطات وأعداد العاملين والاعتمادات المالية. وهي تحاول في سبيل تحقيق ذلك إقناع الجميع بأن ذلك ضروري لحسن قيامها بتنفيذ مهامها الأصلية. وتزيد مشاعر الانتماء للوظيفة أو المؤسسة الإدارية من دوافع الرغبة في البقاء والاستمرار والتوسع والتميز داخل إطار المجتمع ورفض أي تقييد أو تدخل خارجي يمكن أن يمس أو يهدد الكيان أو الامتيازات البيروقراطية. وينجم عن الدوافع السابقة سلوك بيروقراطي داخلي يسعى إلى السيطرة على جهاز الدولة والمؤسسات العامة بحيث تصبح الغايات العليا للمجتمع تحت سيطرة البيروقراطية التي تنفرد وحدها بتحديد مفهوم الصالح العام والوسائل الكفيلة بتحقيقه. وهكذا بدلا من أن تخضع البيروقراطية للغايات والأهداف العليا للمجتمع، فإنها تجعل من نفسها المفسر الوحيد. والرقيب الوحيد لهذه الغايات والأهداف. ويقود هذا الوضع الشاذ إلى فساد وتزييف التوازن الإداري في المجتمع، فالروابط المنطقية بين مراحل الدورة الإدارية (التنبؤ- الاختيار- التنفيذ - الرقابة) تتسع وتترهل ومن ثم تفقد مدلولها ومغزاها، ويعني ذلك من حيث الكفاءة أن الموارد المستخدمة لا توجه دائما إلى الاستخدام الذي يحقق أفضل منفعة اجتماعية من ورائها.

وعلى المستوى الاقتصادي يرى البعض أن الخاصية الأساسية التي تميز الاقتصاد البيروقراطي عن الاقتصاد السوقي هي أنه اقتصاد ريعي. فالبيروقراطية تتحكم في حصيلة الضرائب وتوجه جانبا كبيرا منها نحو أغراض تحقق مصالحها الذاتية بدلا من أن توجه نحو تحقيق الصالح العام. وهو ما يعني أن البيروقراطيين يستحوذون على الريوع على حساب المكلفين بالضريبة الذين يفتقدون القدرة على مقاومة الهيمنة البيروقراطية. ويعكس انتشار الظاهرة الريعية في الاقتصاد البيروقراطي عدم كفاءته وانتشار الفساد فيه. فالواقع أن البيروقراطيين في سبيل الاحتفاظ بأكبر قدر من الريع العام يتجهون لتوزيع قدر من الريوع والمنافع - التي يتحصلون عليهـا من خلال هيمنتهم على جهاز الدولة - على جماعات النفوذ وبعض طوائف المستهلكين أو الناخبين أو العاملين الأعلى صوتا والأكثر تأثيرا في المجتمع. ومن ثم تنشأ مصلحة لهذه الجماعات والطوائف في مساندة ودعم السلوك البيروقراطي في سعيه للحصول على مزايا وريوع جديدة.

ولمواجهة الآثار السلبية للانحراف البيروقراطي ينادي العديد من الاقتصاديين بضرورة العمل على إدخال المنافسة إلى المجال البيروقراطي. فيلاحظ جوردون تولوك، G.TULLOCK بأسف أن معظم الدراسات حول كفاءة الحكومة " قد نحت نحو إلغاء المنافسة بحجة تجنب الازدواجية والتكرار. لكننا إذا كنا نسلم بأن نشاط جنرال موتورز مماثل لنشاط فورد وكريزلر وأمريكان موتورز فضلا عن عشرات شركات السيارات الأجنبية، وأن ذلك يؤدي إلى تحسين نوعية الإنتاج ورفع مستوى الكفاءة لهذه المنشآت جميعا، فلماذا لا نفكر في أن نسمع بذات المنافسة بين المكاتب الإدارية لرفع كفاءتها وتحسين مستوى خدماتها؟".

ويقترح وليم نيسكانن من "جانبه تحفيز البيروقراطيين لزيادة مستوى الكفاءة عن طريق ثلاث وسائل متدرجة تنازليا في الفاعلية: تقوم الوسيلة الأولى على إنشاء نظام يسمح للمسئولين الكبار في المكتب أو الهيئة البيروقراطية بأن يحصلوا - كدخل شخصي - على نسبة من الفارق بين الميزانية المصدق عليها والنفقات الفعلية التي يتكبدها المكتب في إنتاج المستوى المقرر من الخدمات. وهذا النظام لا يصلح بالطبع إلا في حالة تولي المكاتب لمرافق يكون من السهل قياس ناتجها، ويستوجب لنجاحه إقرار مبدأ المنافسة بين المكاتب.

ومقتضى الوسيلة الثانية هو منح كبار المسئولين مكافآت مالية كبيرة نظير إدارتهم للمكتب أو المرفق بكفاءة متميزة. ويرى نيسكانن أن منح المكافأة يجب أن يتم في مرحلة لاحقة على ترك المسئول البيروقراطي لمنصبه وبعد تقييم من لجنة خاصة يشارك فيها المواطنون والسياسيون وقدامى البيروقراطيين.

وتسمح الوسيلة الثالثة للبيروقراطيين بأن ينفقوا نسبة معينه من الفارق بين الميزانية المصدق عليها والنفقات الفعلية الحالية في أنشطة محددة مسموع بها، ولكن ذلك لا يتضمن بأي حال الحصول على زيادة في الدخل النقدي الشخصي. فالميزة الأساسية التي يحصل عليها المسئول البيروقراطي في هذه الحالة هي حرية إعادة تخصيص هذه النسبة من الوفر في النفقات البنود المختلفة دون تقيد بالقواعد التقليدية الواجب اتباعها.

وينادي فريق آخر من الاقتصاديين بضرورة تدعيم الرقابة السياسية والشعبية على السلوك البيروقراطي كمطلب ملح لتحسين الأداء في الحكومة والجهاز الإداري. غير أن الرقابة السياسية تثير أيضا العديد من الصعوبات والمشاكل، فرجال السياسة ليسوا دائما قادرين على ممارسة تلك الرقابة، لأن لدى العديد منهم مصلحة للدخول في تحالفات مع بعض كبار البيروقراطيين سواء للحصول على منافع شخصية أو لتعزيز أوضاعهم الانتخابية.

أيا ما كان التشخيص أو أسلوب العلاج الجدير بالتطبيق فإن هذا الاهتمام، من جانب الاقتصاديين وغيرهم من المتخصصين في العلوم الاجتماعية بقضية البيروقراطية إنما يعكس اقتناعا متزايدا لدى الجميع بأن من الضروري بذل المزيد من الاهتمام بالمظالم والشكاوى الفردية وإزالة الضيم الواقع على المتعاملين مع الجهاز الإداري ومداواة القصور في أدائه وخفض نفقاته.

 

أحمد جمال الدين موسى

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات