الحرب العالمية الثالثة.. أين تبدأ؟ محمد الرميحي

حديث الشهر

قبل سنوات كنا نتحدث عن "الشتاء النووي" وكنا في ذلك نسير خلف تدفق هائل من المعلومات حول أخطار الحرب النووية، وظهرت روايات وأفلام ُتجسّم ذاك الخطر المؤكد على الإنسان وحضارته بل توجهت بعض الدول (مثل سويسرا) إلى تضمين قوانينها بنودا تفرض أن يبني المواطن (ملجأ) نوويا في منزله تحسبًا لذاك المستقبل المتوقع. وفجأة أصبح هذا الخطر يبتعد عن الإنسان وعن تفكير العالم بسبب ما حدث من تفكك للإمبراطورية السوفييتية بسرعة، وابتعاد شبح الحرب العالمية بين قوتين عظميين، لنبدأ بالحديث عن خطر آخر، حيث إن هذا المارد (القنبلة النووية) لم يدخل في قمقمه بعد، وأصبح الخطر مضاعفًا ولكنه غير ظاهر، أصبح هذا الخطر يتمثل في هجرة علماء سوفييت (سابقًا) إلى بلدان أخرى ومعهم أسرار هذا السلاح المدمر، وتفاعلت القضية بوصولها إلى الرأي العام والصحافة الدولية. ومن خلال مجموعة من التقارير التي ُنشرت في الصحافة الغربية حاولت رسم صورة لهذا الموضوع الشائك المعقد، ليس من حيث بعده العلمي، ولكن من خلال بعده السياسي، وتأثير ذلك على القوى الإقليمية، خاصة فيما يحيط بنا من تفاعلات ما زالت نتائجها قيد الظهور.

لقد أظهرت الاكتشافات الجديدة التي توصلت لها مراكز التتبع والاستقصاء الدولية حول تطور الأبحاث النووية والتصنيع الذري في دول العالم الثالث - ومنها ما توصلت إليه "الوكالة الدولية للطاقة الذرية"، وهي منظمة دولية مقرها فيينا عاصمة النمسا - أن كل الوسائل السابقة في المتابعة والمراقبة قاصرة عن رصد ما تقوم به الدول - حتى وإن كانت موقعة على معاهدات دولية - من نشاطات في هذا المجال، إن هي قررت السير في برنامج نووي خاص بها، كما أن (المواد) و(العقول) بالإمكان الحصول عليها إذا حاولت ذلك وتوافرت الإمكانات المالية لها.

من هنا فإن تفكك الاتحاد السوفييتي ووضعه الاقتصادي المتدهور مع وجود الإمكانات البشرية والعقول الخبيرة فائضة ومتعطلة ومحتاجة، يضيف مشكلات جديدة وغير مسبوقة أمام العالم.

عقول أم إمكانات؟

وردًا على السؤال الطبيعي: "ماذا يمكن أن يمثل خطرًا أكبر من صانع قنبلة روسي؟" تأتي إجابة لا تخلو من الغرابة ولا السخرية هي: "صانع قنبلة روسي بلا عمل!".

لقد كان للعلماء النوويين في الاتحاد السوفييتي "السابق" وضع اجتماعي متميز، ولكنهم لم يفقدوا تلك الامتيازات الرسمية فحسب، بل هم يشكون الآن عناء شديدًا في كسب عيشهم! وهذا هو ما يُثير مخاوف الكثيرين من أن يرمي بهم شظف العيش فريسة سهلة لإغراءات الأنظمة الطامعة في استغلال قدراتهم العلمية لتحقيق طموحاتها النووية الخاصة.

والصورة الواضحة لهذه الحالة المقلقة ترسمها حياة عالم روسي تصلح كمثال مباشر لتوضيح ما نتحدث عنه:

في مطلع الخمسينيات كان (ألكسندر تشيرنيشيف) صبيًا يافعًا تستهويه سحب الدخان المتصاعدة فوق سهول كازاخستان الممتدة. وكان كلما صحب والده المهندس العسكري إلى موقع الاختبار النووي في (سميبلاتينسك) وباقي الأسرة يأسره الحديث الذي كان يتردد على مسامعه عن "الدرع الواقي للوطن الأم" كما كان رئيس الاتحاد السوفييتي الأسبق (جوزيف ستالين) يطلق على سلاح الردع النووي السوفييتي. لم تبارح الصبي اليافع تلك الذكريات بل تركت فيه أثرًا بليغًا لم يمحه الزمن. وبينما كان أقرانه يحتضنون أحلامًا غضة بارتياد الفضاء كان حلم (ألكسندر) أن يصبح واحدًا من المصممين النوويين الذين يُشار إليهم بالبنان.

ترك ألكسندر كازاخستان لدراسة الفيزياء في جامعة (لينينجراد) التي أعيد تسميتها اليوم (بطرسبرج)، وكان طوال سني دراسته طالبًا مثابرًا ومتفوقًا على أقرانه. ثم - كغيره من العلماء السوفييت البارزين - اختفى عن أعين الأهل والأصدقاء والمعارف. ولم يكن أصدقاؤه القريبون يعرفون عنه سوى أنه يعمل في مكان ما يرمز إليه "بشفرة بريدية" لا يدركون كنهها، بينما تقتصر معرفتها على أصحاب الحل والربط في دوائر الاستخبارات النووية المركزية في موسكو. باختصار كانت حرفة ألكسندر الهندسية في السلك النووي قد بدأت!.

أسرارنا.. سبب مأساتنا..!

اليوم يحتل الدكتور ألكسندر تشيرنيشيف منصب مدير الفيزياء في مركز (أرزاماس - 16) للتصميم النووي، الذي يقع على مسافة 200 ميل شرقي موسكو. ومن تحت ركام الحرب الباردة يطل المركز على العالم الخارجي لأول مرة، بعد أن ظل سرًا مدفونًا طوال السنوات السابقة. وللمرة الأولى أيضًا تساور الدكتور تشيرنيشيف أفكار جديدة يكشف عنها للصحافة الغربية بقوله: "لم يكن بمقدوري في السابق أن أذكر شيئًا عن عملي، أما الآن فأنا حر فيما أقول لكنني أخشى الاعتراف بصناعتي لأسلحة نووية!".

فعالم (تشيرنيشيف) الخاص وعالم والده من قبله وعشرات الألوف غيرهما من العلماء السوفييت خدموا في بناء قنبلة الاتحاد السوفييتي الأولى، وفي اختبارها عام 1949. هذا العالم بكل ما حوى من الجهود والمفاخر والإنجاز يهوي على عروشه في لمح البصر ..!! ويغالب ألكسندر الأسى وهو يندب الظروف السيئة: "أرى في عيني زوجتي كيف تبدلت الأيام ... هي متعبة كل الوقت من الركض خلف الطعام!".

أما (أرزاماس - 16) ذاتها - المدينة المحظية المغلقة سابقًا ليس على الأجانب فحسب، بل وعلى معظم مواطني الاتحاد السوفييتي - فقد تناستها موسكو الآن وأقفرت شوارعها، بينما خلت حوانيتها من المعروضات. ولّما تصل إليها "الأسواق المفتوحة" التي بشر بها الغرب ففتحها. بعد أن عجز عن اقتحام أسلاكها الشائكة! وفي رنة أسف يمتزج بالمنطق والتماسك قال تشيرنيشيف: "ما كتمناه من الأسرار يصبح سبب مأساتنا"...

ولم يكن (ألكسندر تشيرنيشيف) وغيره من العلماء سوى تروس صغيرة مجهولة في دولاب النظام الدولي القديم ... النظام الذي كان واقفًا على قطبين متخاصمين، والمستند على نظرية حمقاء ومجنونة هي "الدمار المتبادل الشامل والمؤكد" وليس لهذا البناء من وجود الآن في عالم السياسة، كما أصبحت النظرية ذاتها في حالة من التجميد أو التعليق بينما يحول الإستراتيجيون الغربيون أنظارهم نحو دول تتطلع إلى قدرات نووية في العالم الثالث ويتخوفون من (بطالة علماء الذرة) كما تسميهم الصحافة السيارة في الغرب.

ومن سخريات النظام الدولي الجديد أن ما يثير مخاوف واشنطن (والعواصم الغربية) أكثر من الخبير الروسي الذي كان يصنع القنابل النووية، هو الخبير نفسه، العاطل عن العمل!:

طاقات الإبداع المعطلة

واقتصاد السوق الحرة الذي تُبشر به هذه العواصم الغربية وقادتها السياسيون هو الذي يُجسم السؤال المروّع ويبرزه إلى صدارة الاهتمام الدولي. ألا يمكن أن يدفع قانون العرض والطلب هؤلاء العلماء والفنيين المعدمين والمحبطين للبحث عمن يشتري قدراتهم إذا ظلت موسكو عاجزة عن الدفع لهم؟!

إن طاقات الإبداع والابتكار لدى هؤلاء العلماء ضخمة وهائلة. واستنادًا لإحصاءات وزارة الطاقة النووية في روسيا هناك أكثر من مائة ألف عامل في صناعات السلاح النووي، ومنهم ثلاثة آلاف من المتمرسين في ميادينها السرية العليا المعقدة. وتُقدّر الوكالة المركزية للاستخبارات في الولايات المتحدة عدد العاملين في برامج الأسلحة النووية السوفييتية بحوالي المليون! فيما تتفق مع إحصاءات وزارة الطاقة النووية الروسية بصدد العليمين منهم بتصميمات القنبلة النووية.

ولا تزال القوانين السوفييتية التي تحظر هجرة العلماء العاملين في البرامج العسكرية ذات الصفة السرية، سارية المفعول. وتفرض هذه القوانين الرادعة تأخيرًا في الزمن للراغب في الهجرة قد يطول لفترة تتراوح بين الخمس والعشر سنوات قبل الإذن الرسمي له بالسفر إلى الخارج. غير أن تطبيق وفرض هذه القيود في الوقت الراهن صعب إلى حد بعيد، خاصة بعد أن تهاوت السلطة المركزية وأصبحت الإغراءات النقدية هي جواز المرور لقضاء الحاجات وتخطي حواجز القوانين مهما كانت!، فببضعة آلاف من الدولارات يستطيع الراغب في الهجرة أن يحصل على (إذن خروج) دون معارض.

السؤال هو: هل يذهبون؟

وينتظر هذا العرض من الكم الهائل والمؤهل من الخبراء السوفييت احتياج متلهف من الأنظمة الطامعة في التسلح النووي في بلدان كثيرة، جزء كبير منها في منطقتنا وفي غيرها من المناطق صاحبة التطلعات النووية في العالم الثالث. ولاشك أن هذه الحكومات لن تتردد في إغواء العلماء الروس والادعاء بإنقاذهم من مشقة العيش أو التلّهي بما تغرس أيديهم من البطاطس!!.. ولكن... هل يذهبون؟!

ويعتقد بعض الخبراء الروس أن العلماء (السوفييت) لن يلبوا رغبة هذه الدول ... في الوقت الحاضر على الأقل، وأن ما هو مُثار في الغرب حول الموضوع ما هو إلا مبالغة وتهويل الظروف المحبطة والشخصية للعلماء والخبراء، وأن ليس هناك من مثال واحد لإثبات الرغبة في النزوح من جانب الخبراء النووين المعروفين.

ويراهن هذا البعض على تماسك هؤلاء العلماء الخلقي وانتمائهم الوطني المخلص إضافة لتقديرهم الواعي لما ينطوي عليه بيع خبراتهم لآخرين من خطر وشر عظيم على البشرية وعلى أنفسهم في الوقت نفسه.

على أن البعض يعترف بأن الضائقة الاقتصادية وشظف العيش اللذين ينتشران بسرعة في كل القطاعات الصناعية والاقتصادية فيما كان يسمى "بالاتحاد السوفييتي" قد يغيران مواقف الإنسان والمبادئ أيضًا.

ومما هو معروف حاليًا ومنشور فإن هجرة العقول من روسيا قد بدأت بالفعل ولكنها تعكس حتى الآن صورة ما حدث في ألمانيا وبريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية، والجهة المقصودة لهجرة العلماء هي أمريكا وليست دول العالم الثالث. واستنادًا على الإحصاءات المتوافرة من الصحافة الروسية فقد هاجر حوالي السبعين ألفًا من العلماء السوفييت في السنتين الأخيرتين (أي منذ 1990)، كثيرون منهم يهود في الأصل، هاجروا إلى إسرائيل والآخرون إلى الولايات المتحدة ودول أوربا الغربية، وقلة لا تُذكر هي التي اختارت جهات أخرى.

وذكر البروفسور "غليب شكليزوف" في معهد (ليبديف) لدراسات الفيزياء في موسكو أنهم خسروا من المعهد ثلاثة باحثين خلال العام الماضي حيث توجهوا إلى ألمانيا واستراليا، ويشكو معهد (كورشاتوف) للطاقة النووية من المشاكل ذاتها، والأخير هو أكبر مراكز البحوث النووية في موسكو، وكان يعرف خلال الأربعينيات (بالمعمل رقم 2) مقر الرئاسة الخاصة لمشروع ستالين النووي. وقد أثار هذا المعهد الشكوك والقلق بعلاقاته العسكرية الوثيقة مع كوبا وبعض الدول الأخرى في الشرق الأوسط أخيراً، على الرغم من أنه يهتم بالجوانب المدنية الصرفة أساسًا في استخدامات الطاقة النووية. وتواجه المعهد - كما هو الحال في مؤسسات روسية أخرى - أزمة مالية حادة وصعوبات متكررة في مقابلة الالتزام المادي حيال العاملين الذين يبلغون أحد عشر ألف شخص. ولهذا كثيرًا ما تبقى برامجهم وتجاربهم حبراً على ورق بسبب ضيق ذات اليد للقيام بالتنفيذ. ولا غرابة في أن تساور خبراءه ومحاضريه وفنييه أحلام الهجرة أو المغامرة التجارية في الأسواق المفتوحة أو الانضمام للمؤسسات الخاصة القادرة على الدفع.

قنابل للبيع!

أحد الذين يقتحمون اقتصاد الأسواق المفتوحة بكل جرأة وتفاؤل هو الدكتور (فياكسلاف روزانوف)، أحد الأمناء السابقين لفرع من فروع الحزب الشيوعي في موسكو وخبير في تصميمات المفاعلات النووية. ويتاجر (روزانوف) اليوم في أجهزة الكمبيوتر اليابانية والأدوات الكهربائية والإلكترونية. واعتمادًا على خبراته العريضة في المعامل وقدراته الفيزيائية والرياضية العقلية استطاع (روزانوف) وضع برنامج نظري مدهش لقراءة أسعار السوق وتحولاتها المنتظرة في دائرة تجارته الخاصة (التصميمات النووية)!! لكنها مع الأسف لم تصب نجاحًا، مما عاد به لأرض الواقع العلمي اقتناعًا بأن علماء السوفييت أهل للاختراع والتصميم والحسابات العلمية ولكنهم بعيدون عن شطارة قوى السوق وهي البيع والشراء، والمبادرات النافذة لتحقيق الأرباح!! ولكن بديلاً مناسبًا يبرق أمام (روزانوف) وأقرانه في الهجرة إلى أمريكا أو غيرها... لو جاء منها العرض المرغوب!

وفي واشنطن توصلت وكالة الاستخبارات المركزية للنتيجة ذاتها وهي أن معظم العلماء السوفييت الراغبين في الهجرة من بلادهم ربما يفضلون الإقامة في الغرب. لكن الغرب عاجز عن استيعابهم جميعًا في الظروف الحاضرة. هذا ما ذكره مدير الوكالة (روبرت جيتس) نفسه أمام لجنة الكونجرس للشئون الخارجية. غير أن واشنطن - حرصًا منها على وقف الاستنزاف المتوقع لصالح تلك "الأنظمة المشكوك في نواياها" بين الدول النامية - لجأت لدعم معاهد البحوث العلمية والفنية القائمة في روسيا، وكان هذا الحل هو الخطوة الأولى في برنامج إبقاء الخبرات "النووية" الروسية في بلادها. وتساهم ألمانيا كذلك في تشجيع العلماء السوفييت على البقاء في بلادهم بتوفير المال اللازم للوظائف والمراكز الدراسية التي يعملون فيها. وقد رصدت الولايات المتحدة حوالي 400 مليون دولار لخدمات النقل والتخزين للأسلحة النووية قبل القيام بتدميرها لاحقًا لأن عبء التدمير ووسائله لا يستطيع أن يقوم به الاقتصاد الروسي الضعيف. ويوضح المسئول الأمريكي عن هذا المشروع (روبرت غالوشي) أنهم لا يريدون زيادة الأمر سوءا فيما يختص بهجرة العقول والخبرات من الاتحاد السوفييتي، ولكنهم هم حريصون بالفعل على بقائها داخل حدودها وبكامل الرضا والاقتناع. لكن المعلقين يسخرون من ضآلة المساعدات المالية التي رصدت حيث يبلغ الخطر الحالي - والمتوقع في حالة الوضع النووي الراهن أضعاف ما كانت تخشى أمريكا والغرب من "الاتحاد السوفييتي" القديم. وإذا كان الغرب قادرًا على رصد عشرات المليارات سابقًا لكبح الخطر السوفييتي النووي الذي كان، فلماذا لا يتمسك بالدرجة نفسها من الحرص والالتزام لدرء الخطر الأكبر نتيجة تفتت الاتحاد المركزي وتشتت الأيدي والعقول الخبيرة واحتمال وقوعها فريسة لإغراءات الطامعين في الخارج؟!

العقول وحدها لا تصنع القنابل

بيد أن بعض العلماء السوفييت يرفضون في أنفة وكبرياء أن تقدم لهم المنح والعطايا كأنهم أيتام أو أرامل كما يقولون! ولكنهم يطلبون الشراكة المجزية مع دول الغرب وعلى قدم المساواة في خلق وتطوير البرامج العلمية والصناعية لمصلحة الطرفين والبشرية جمعاء، أي استخدام هذه العقول ومراكز البحث لتطوير وسائل جديدة تخدم البشرية!.

ومن بين هذه المشروعات المقترحة مشروع يربط معهد (كورشاتوف) الروسي بوزارة الطاقة الأمريكية. ويمكن بهذا للولايات المتحدة أن تتلقى خدمات أكثر من مائة خبير سوفييتي كل عام مقابل تسعين ألف دولار فقط !! (وهو ما يساوي الراتب السنوي لأستاذ واحد في أمريكا!). والفكرة في حد ذاتها غاية في البساطة كما يقول (يفجيني فلهيكوف) وهو المستشار الخاص بالعلوم للرئيس بوريس يلتسين: "نحن لدينا المعدات والموارد البشرية وهم يملكون المال".

غير أن العقول وحدها لا تصنع القنابل. ويخشى المراقبون أن تغيب حقيقة مأساة العلماء الرئيسية تحت ضباب الخوف الدولي من تشتت المعلومات النووية. وهناك من المسئولين والعلماء الغربيين من يعتقد أن مأساة العلماء السوفييت هي أمر يخصهم ولا يهدد سواهم، حيث إن الحاجز الأكبر أمام الطموحات النووية للدول النامية ليس في قصور الإمكانات الفنية أو غيابها بل هو الصعوبات الجمة في الحصول على المواد المصنعة والمعدات الإلكترونية المصاحبة لمثل هذه المشروعات. ويتفق مدير المركز الروسي للرقابة على السلاح (أناتولي دياكوف) مع هذا التحليل مشير إلى أن المطلعين على أسرار التصنيع النووي كثيرون، وهم ينتشرون في مناطق الاتحاد السوفييتي كلها تقريبًا: " وربما يغادر بعضهم إلى أماكن أخرى ... من يدري؟ ". لكن السؤال الباقي هو: "هل حصر وجود العلماء وحده هو الحل؟ "، حيث إن أسرار التصنيع النووي يمكن تدريسها في أي مكان.

ربما تقود هذه التساؤلات إلى الخيار المنطقي والأفضل وهو أن يشتري الراغب من الدول قنبلة نووية جاهزة بدلاً من ملاحقة التصنيع ومشاكله المعقدة!! على أنه يجب ألا ننسى أن خمسة كيلوجرامات فقط من البلوتونيوم أو اثني عشر كيلوجراما من اليورانيوم المخصّب بدرجة عالية - كما يقول العلماء - تكفي لصناعة قنبلة أشد من تلك التي ألقيت على "هيروشيما". وفي كل الحالات بالطبع تبقى المعادلة مرتبطة بقانون العرض والطلب.

دول نووية إسلامية

اليوم أصبحت كازاخستان ملء السمع والبصر، وهي التي لم يكن الكثيرون يعرفون مكانها على الخريطة قبل سنة على الأكثر. هي الآن منطقة جذب للسياسيين الغربيين الذين يخطبون ود هذه الدولة النووية الرابعة في العالم. جاءها وزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر ثم تلاه وزير الخارجية البريطاني دوجلاس هيرد حتى قصدها الوزير الفرنسي رولان دوما للقاء رئيس الجمهورية نور سلطان نزار باييف في عاصمته (ألما - أتا) على مسيرة ألف ميل من موسكو!، كما زارها وزراء من دول عديدة.

ولاشك أن كازاخستان تعلم أسباب هذه الزيارات. وضح شيئًا من ذلك المتحدث الرسمي لها (سيتكازي ماتاييف) بقوله: " لو لم يكن عندنا ما عندنا من السلاح النووي لما أزعج هؤلاء السياسيون أنفسهم بزيارتنا!". كازاخستان جمهورية تقطنها غالبية مسلمة ولها دور تاريخي مشهود في الربط بين أوربا وآسيا على طريق الحرير التجاري القديم. وهناك مخاوف غربية شتى من احتمالات التقرب الإيراني أو الباكستاني لها والسعي لإقامة حلف نووي مشترك!!

وتقول الصحافة الأمريكية إن السوق النووية في كازاخستان فتحت أبوابها فعلاً للزبائن، فبعض التقارير تشير إلى رءوس نووية وجدت طريقها إلى إيران وغيرها. لكن الدلائل الدامغة على ذلك غير متوافرة حتى الآن، فالمعتقد أن كازاخستان لا تستطيع بيع الرءوس النووية لأنها - وعلى الرغم من سيادتها المستقلة - لابد أن تخضع لإشراف موسكو المركزي القائم حتى الآن على هذه الأسلحة. كما أن الرءوس النووية تُحفظ في صوامع نائية في قلب الصحراء أو بين المرتفعات ومن العسير جدًا الوصول إليها، دعك من تفكيكها وحملها على ما في ذلك من مخاطر جمة. ويستدرك ماتاييف نفسه قائلاً: " صحيح أن الرءوس النووية هي ورقتنا الرابحة ... ولكن موسكو هي التي تتولى اللعب بها!".

رءوس نووية ضائعة!

منذ شهرين أكد بوريس يلتسين للعالم أن أوكرانيا قد وافقت - بعد تردد - على مواصلة إعادتها للأسلحة التكتيكية المنتشرة على أراضيها إلى روسيا. إلا أنه بعد أيام قليلة فقط من ذلك التصريح أدلى الرئيس الأوكراني "ليونيد كرافتشوك" برواية مغايرة تمامًا حيث قال إن الأسلحة النووية باقية حيث هي الآن... على أن وزير دفاعه، العقيد (كونستانتين موروزوف) أفاد بعد ذلك أن تلك الأسلحة سيجري سحبها فقط في حالة ضمان متابعة أوكرانيا لتدميرها - آخر الأمر - في روسيا.

وقد يكون كل واحد من هؤلاء الرسميين قد صدق القول وفق ما يرى، وقد يكونون جميعهم غير دقيقين، على أنهم يبدون جميعًا وقد اختلط عليهم الأمر: فالفوضى ضاربة أطنابها في أحشاء النظام الذي خلّف سقوط الإمبراطورية السوفييتية. ويقول مدير السلامة النووية في "شيليابينسك"، "جينادي نوفيكوف" في حديثه لإحدى صحف موسكو (ونشر في الغرب) إن الأسلحة النووية في بلادنا تتبع إدارات مختلفة: فالعبوة النووية مثلاً تنتجها وكالة بعينها، فيما تُنتج وكالة ثانية الصواريخ النووية، أما السفن والغواصات فتتبع لوكالة أخرى، وتلك الوكالات كيانات مستقلة عن بعضها البعض وتميل إلى إخفاء بياناتها!. ولعل الخلاف العلني الذي جرى أمام أعين العالم على السلاح البحري السوفييتي السابق هو أحد الأدلة على الفوضى السائدة الآن.

وهكذا فإن حجم الترسانة النووية السوفييتية ومداها وسرّيتها تطرح أكثر الأسئلة مدعاة للذعر: "أهناك من يعلم ماذا يدور تحديدًا؟ ".

خطر الإرهاب أو السرقة

ويتبرع (أوليح بوخارين) - خبير الرقابة على الأسلحة في موسكو - بالقول إن الاضطراب السياسي والوتيرة المتسارعة للتغيير في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق يمثلان خطرًا حقيقيًا يصعب على الدوائر العسكرية الروسية تلافيه ويتمثل الخطر في الإرهاب من جهة والسرقة من جهة أخرى. الإرهاب هو شيء جديد على الحياة السياسية السوفييتية، إلا أن ساعده ربما يشتد يومًا بعد يوم خاصة أن الرءوس النوية تمثل هدفًا بالغ الإغراء للسياسيين والتجار من محترفي المغامرات. ويمثل نقل الأسلحة الشاملة الدمار وتخزينها عبئًا ماليًا وفنيًا كبيرًا، فالاتحاد السوفييتي يعتمد على الوسائل البرية في ترحيلها بينما تستغل الولايات المتحدة الطائرات في هذا الصدد. ولابد من تفكيك الرءوس النووية قبل نقلها، بجانب تفريغها مما تحتوي من اليورانيوم المخّصب والبلوتونيوم، وهذا يقتضي التخزين المنفصل لهذه المواد.

وبناءً على الاتفاقات الأخيرة بين واشنطن وموسكو حول نزع السلاح، ينبغي على الاتحاد السوفييتي تدمير حوالي خمسة عشر ألف رأس نووي هي نصف ترسانته الكلية منها، وسيترك هذا التدمير كميات هائلة من المواد النووية التي تحتفظ بفاعليتها الإشعاعية لآلاف السنين. ويبلغ المخزون بعد هذه التخفيضات حوالي مائة طن من البلوتونيوم وخمسمائة طن من اليورانيوم العالي التخصيب. ومن المراكز النووية المستهدفة - بجانب هذا المخزون الكبير - عدة مفاعلات للأبحاث تنتشر في ربوع الاتحاد السوفييتي السابق وبلا حراسة عسكرية كافية وبعيدًا عن رقابة العاصمة موسكو.

إن العبء الذي فرضه تقهقر موسكو السريع وغير المنّظم من الإمبراطورية إلى الجمهوريات بدأت وطأته في البروز: فالصحف الموسكوفية تتحدث عن رءوس نووية تطل عبر نوافذ مرافق التخزين المكتظة أو عن قاطرات منهكة تنوء بحمل قنابل نووية عبر مدن بلا حماية وعن وسائل معيبة لضبط الموجودات والمجرودات وعن مكونات نووية مفقودة. أما "جينادي نوفيكوف" فيقول: "إن الأمن الفني قد ظل على درجته السابقة ... أما الأمن بمعناه الأوسع - بما في ذلك الموقف السياسي والنفساني - فقد انحدر على نحو حاد، بكل تأكيد".

حلقات الأزمة تتكامل

على أن ما يدعو إلى انزعاج الغرب حقًا هو آثار ذلك التغيير الذي طالما رحّب الغرب به والمتمثل في حرية المبادلة التجارية الخاصة: فالرأسمالية تؤدي إلى تآكل الانضباط، والمواد النووية مثلها في ذلك مثل العلماء النوويين هي سلعة لا غنى عنها. ويتمثل أحد نذر الأيام المقبلة في شركة شبه خاصة اسمها " شيتيك" جرى تأسيسها في موسكو لتسويق التفجيرات النووية للأغراض السلمية: فها هي الدولة الأحادية النووية على زمن الحرب الباردة، تُنذر بأن تصبح سوقًا نووية مفتوحة لمن يدفع الثمن.

ففي "شيتيك" هذه تتكامل حلقات الأزمة التي شهدنا بوادرها في (أرزاماس - 16)، فلقد تحّول المعمل الذي يعوزه التمويل - وبمباركة من وزارة الطاقة النووية - إلى شركة "شيتيك" لتسويق خبراته علنًا وعلى نحو مكشوف. ويُروّج كُتيب مصقول للشركة لتشكيلة واسعة من التفجيرات النووية تحت الأرضية واصفًا إياها بأنها مأمونة العواقب تمامًا كوسيلة للتخلص من النفايات الكيماوية والبيولوجية والنووية ذاتها ... وهكذا فإن منطق السوق الحر قد ترسخ: فالمعرفة النووية ما هي إلا سلعة أخرى يتحدد تدفقها وفقًا للأسعار وحدها. ويقول " توماس نيف " خبير علوم الطبيعة بمعهد (ماساتشوسيتس للتقنية) في هذا الصدد: "لديهم قنابل، لذلك يتوقون إلى استعمالها، وإذا كان لديك مطرقة فكل مشكلة تبدو كمسمار".

وتجمع شركة "شيتيك" الأسوأ في النظامين الروسيين قديمه وحديثه: فهي تهدف إلى تحقيق الربح إلا أنها تفعل ذلك من المواقع الاحتكارية للدولة.

وكان المسئولون الأمريكيون إلى ثلاثة أشهر مضت، لا يزالون على تفاؤلهم حيال فرص فرض الانضباط على المؤسسة النووية السوفييتية: فسحب الأسلحة التكتيكية من الجمهوريات كان يمضي على قدم وساق ... ولم تبلغ علمهم أية حادثة أو حالة من حالات السرقة حيالها، وكانت روسيا في طريقها لأن تصبح الوريث الوحيد للترسانة النووية السوفييتية. وعلى حد إفادة وكيل وزارة الخارجية الأمريكية للشئون الدولية "ريجينالد بارثلوميو" أمام مجلس الشيوخ، فإن ذلك "كان قد بدا وكأنه هو التوجه الذي كانت تحث عليه الولايات المتحدة".

أما النتائج فهي في واقع الآمر أكثر اضطرابًا، فلقد نكصت أوكرانيا بتعهدها بإرجاع الأسلحة التكتيكية إلى روسيا، أما كازاخستان فقد أظهرت بجلاء أنها تنوي الاحتفاظ بالأسلحة النووية الاستراتيجية، إن لم يكن إلى الأبد فعلى الأقل إلى حين تحقيق أقصى ضغط سياسي ودبلوماسي ممكن.

ولقد بدأت القيادة المركزية للدول المستقلة في التحلل، وجرت إجازة قانون بتأسيس لجنة جديدة لضبط الصادرات برئاسة وزير المالية إلا أن القانون مازال في انتظار تصديق بوريس يلتسين، أما وزارة الخارجية وهي القناة الرئيسية للتواصل مع الغرب فهي تفقد سلطاتها بانتظام.

النصابون.. والبضاعة المزيفة

بيد أن النصّابين يجدون في الأمر مرتعًا خصبًا لهم، فلقد اعتقلت الشرطة الإيطالية عددًا من رجال الأعمال يحاولون بيع "الزئبق الأسود" وهو مادة يقال إن لها تطبيقات عسكرية على الرغم من أن الخبراء الروس والأمريكيين يقولون إنه لا فائدة تُرجى منها. وكذلك فلقد جرى اعتقال ألمانيين اثنين من أصل روسي فيما كانا يحاولان بيع 1.2 كيلوجرام من اليورانيوم كانا يخفيانها في حقيبة للمتاع الرياضي. وكانا يطلبان ثمنًا لذلك 650 ألف جنيه إسترليني، وهو مبلغ يساوي ثمنها ألف مرة باعتبارها شحنة من اليورانيوم المخصب ذي الدرجة الدنيئة الذي لا نفع منه في مجال صنع القنابل.

ويتكهن (روبرت جيتس) بوقوع حالات نصب عديدة مماثلة وذلك بسبب "الطلب المتزايد على تلك المواد وصعوبة التحقق من طبيعتها وبسبب التوافر الشائع للمقادير المحدودة من اليورانيوم والبلوتونيوم في مراكز البحوث".

وهؤلاء النصابون ليسوا بذوي ضرر - من زاوية انتشار أسلحة الدمار - على أقل تقدير، على أن وجودهم يُسّلط الأضواء على جسامة المشكلة: فهناك سوق متلهفة للمواد النووية مثلما هناك سوق رائجة للعلماء النوويين. وحتى الآن فإن البضاعة مزيفة... أما الجشع فهو حقيقي ...

ولدى سؤاله عما يحمله المستقبل في هذا المضمار أجاب الدكتور "أفرورين" قائلاً: "من اليسير تماما وضع الخطط للسنوات العشر المقبلة... والأمر يصبح أكثر صعوبة إن كانت الخطط للسنوات الخمس المقبلة ... أما بالنسبة للأسبوع المقبل، فذلك أمر مستحيل".

وهذه العبارة تكشف حقيقة هذه المأساة. لقد انفك العالم السوفييتي بسرعة شديدة، وترك خلفه إرثا معقدا وعقولا تحمل السر النووي، ومستعدة للبيع لمن يشتري في سوق العرض والطلب.

وهذه مشكلة تواجه المسيرة الإنسانية، وتدخل بها في منعطف جديد. ويرى بعض المعلقين، أن هذه المعضلة يمكن حلها وقائيًا، إذا قامت هيئة الأمم المتحدة مثلاً بتدبير برنامج لاستخدام هؤلاء العلماء، ليس لإنتاج أسلحة نووية، ولكن للعمل على استخدام العلوم النووية في مقاومة الأمراض والمجاعات، وحالة التصحّر التي تزحف على العالم، خصوصًا في البلدان النامية.