مرفأ الذاكرة
مرفأ الذاكرة
أمام مرآة عرضها سبعون عاماً من عمره, وقفت أبحث عن ذاته من خلال السنين, فلم أجد أصدق من الكتب والدراسات والمحاضرات التي حملت عبء أفكاره في مجال الفن والعمارة وفي موضوع الإبداع والتراث وعلم الجمال. إنني لأشهد أن هذا الإنسان الذي تنعكس صورة حياته في مرآة عطائه, هو إنسان بسيط واضح, ولكن طموحه أكبر حجماً من عمره, فالزمن الذي يعيشه لا يمكن أن يحسبه تقويم الأيام والسنين, وإنما يحسب بتقويم ما أنجزه. وإذا ذكرت شيئاً عن الطموح, فلا أعني به طموح المكاسب, بل هو طموح العطاء, أتراني سأنصف هذا الكائن الذي أحتار الآن من أي موقع سأستوقفه لأحاوره وأحاسبه. أتراني سأراه من خلال مرآة محدّبة أدخل من خلالها إلى عقله وإلى روحه, لا, يكفيني أن أقف أمام مرآة عطائه المسطحة, لأستشف دونما مبالغة أو شفاعة, هوية الإنسان الذي آمن بالحب أولاً وبالعمل ثانياً وبالوجدان ثالثاً. طريق طويل شائك صعب, ولكنه مستقيم ينتهي بهدف كبير, أسير فيه وأنا أتابع سيرته, منذ أن ولد في دمشق عام 1928 إلى أن وقفت اليوم أمام مرآة زمانه العريضة. في بيئة ثقافية تنتمي إلى أجداد من الفقهاء والشعراء والمؤرخين, نشأ ترافق حياته صعوبات العيش في ظروف الانتداب والثورة, وفي ظروف الحرب العالمية الثانية, وكانت هذه الظروف سبباً في انخراطه مع أقرانه من طلاب المدارس الإبتدائية والثانوية, بالعمل القومي مشاركاً في المظاهرات والندوات المعارضة, ولقد شهد عام 1945 سقوط زميله قتيلاً برصاص الفرنسيين, فعرف بعد ذلك أن الحرية لا تعطى بل تؤخذ بالتضحية والفداء, وكان طموحه أن ينتسب إلى الكلية العسكرية, فهي الطريق لترسيخ الحرية وتحقيق الوحدة العربية التي لايزال يراها مصيراً محتماً لابد من تعجيل إنجازه. ولم يتحقق أمله في أن يكون عسكرياً ممتهناً, ولكنه دخل الجندية من باب الخدمة الإلزامية التي امتدت سنوات, وكانت مشاركته في حرب أكتوبر من أجلّ لحظات حياته, ومن الجبهة كان يراسل جريدة الثورة يومياً, ومازالت العناوين الكبرى تتصدّر صفحات الجريدة المحفوظة في مركز الوثائق, تتحدث عن انطباعات مباشرة للانتصارات التي حققها المقاتل العربي في معركة الكرامة, التي قضت على أسطورة التفوّق الإسرائيلي. على حافة الموت لست أدري لماذا توقفت صورة هذا الرجل, الماثل أمامي في مرآة حياته, وهو يرتدي بزّة عسكرية, أكان ذلك بوحاً صريحاً برغبته بامتهان العسكرية, أم كان إثباتاً لقوله (ثمن الحرية الشهادة). ولعل الجواب تعبّر عنه لحظة انفجار صاروخ على مقربة منه تجمّعت شظاياه حوله, وحال دون اختراقها جسمه كيس من الرمل. كانت هذه اللحظة تعادل الشهادة فعلاً, ومازالت شظية تذكارية أقامها على قاعدة خشبية, أصبحت كتمثال من الفن التجريدي, تزيّن مكتبه, تذكّره أبداً بالشهادة التي لم يمن بها. هكذا إذن لم يكن جندياً ممتهناً, بل آثر دراسة الحقوق وحصل بعدها على شهادة الاختصاص, وكان شعاره أن الحق مفتاح الحضارة, وأن التعمّق بمفهوم الحق ثقافة مهمة ضرورية لمباشرة الحياة والنجاح فيها, ولكنه وقد مارس التصوير منذ طفولته, كانت هوايته الدافع الأقوى للتعمّق بالفن ممارسة ودراسة, ولم يكن أمامه إلا طريق باريس حيث الأكاديميات الفنية والمتاحف, فدرس التصوير في أكاديمية أندره لوت الفنان الفرنسي والمؤرخ, وتعلم منه أن مصدر الفنون هو الشرق, فلقد قرأ لأستاذه مؤلفاته عن الفن المصري, وعندما انتسب إلى جامعة السوربون عام 1952 كان موضوع رسالة الدكتوراه (الاستشراق والفن الحديث). هكذا حدد طريقه الفني في اتجاه واضح, أن يدرس ما استطاع تاريخ الفن العربي الإسلامي وأن يتعمق في جمالياته, سعياً وراء تأصيل الفن الحديث. كانت الوحدة العربية التي كثيراً ما هتف إليها وسعى, قد تحققت عام 1958 بين مصر وسوريا بقيادة جمال عبدالناصر الذي جعل القومية العربية هدف المصريين وجميع الشعوب التي تتكلم العربية, ولم تكن تعي هويتها بوضوح. ولأول مرة تنشأ في سوريا (وهي الإقليم الشمالي من الجمهورية العربية المتحدة) وزارة للثقافة, وعلى حداثته دعي للمشاركة في تكوين هذه الوزارة مع لفيف من كبار المثقفين من أمثال إبراهيم الكيلاني وعبدالله عبدالدايم وصباح قباني, وعهد إليه بمنصب مدير الفنون الجميلة. من منبر هذا المنصب استطاع أن يتابع نشاطه الفني الذي ابتدأه منذ أن أسس جمعية أصدقاء الفن مع لفيف من الفنانين الروّاد, مثل محمود حماد وأدهم إسماعيل, وكان أول عمل قام به, تأسيس مراكز للفنون التشكيلية وللفنون التطبيقية في أنحاء بلاده لصقل المواهب الفنية بشكل حرّ, ولكن الإنجاز الأهم كان في إنشائه معهد الفنون الجميلة عام 1959 الذي أصبح كلية تضم العمارة, وابتدأ منذ ذلك الوقت بتدريس مادة تاريخ الفن والعمارة فيها حتى اليوم, وكان كتابه تاريخ الفن والعمارة في العالم, مرجعاً لطلابه ولجميع الطلاب في كليات الفنون العربية. في نطاق عمله وتدريسه, تحمّل مسئولية تشجيع الفنانين وتوسيع نشاطهم عن طريق المعارض الجماعية والفردية وعن طريق الاقتناء والتكليف, فعزّز متحف الفن الحديث ووزّع أعمال الفنانين في الدوائر والسفارات, وعرّف بها بكتب ومنشورات وبرامج إذاعية وتلفزيونية. وعندما شعر بتضخم مسئولياته, دعا إلى إنشاء تجمّع للفنانين, وانتخب أول نقيب للفنون الجميلة. وكان هدفه تحقيق ديمقراطية النشاط الفني موازياً للدعم الرسمي. كانت دراساته في الفن قد وجدت معيناً خصباً لها في التراث الفني الإسلامي. فانكبّ على دراسته من زاوية تحديد جمالية هذا التراث, فكان مشروع رسالته الثانية دكتوراه الدولة في جامعة السوربون - باريس 1978. وتتالت الدراسات تصدر في كتب مرجعيّة عن دور النشر العربية, موضوعها الفن والعمارة الجمالية, وكان همّه أن يسدّ نقص المكتبة العربية بمراجع تتحدث في تاريخ الفن وفي مصطلحاته وفي فلسفته. ومازالت المعاجم التي صدرت له عن مجمع اللغة العربية بدمشق أو عن مكتبة لبنان عماد الباحثين والدارسين. بين الإبداع والوظيفة وإذا كانت مؤلفاته الخمسين شاهدة على فكره, متاحة للقارئ في جميع المكتبات, من مكتبة الكونجرس إلى مكتبة الأسد, فإن ما أنجزه في نطاق عمله الوظيفي كمسئول عن الفنون أولاً, ثم كمسئول عن الآثار والمتاحف أخيراً. مازال ماثلاً يحمل أثره في المتاحف التي أنشأها وفي المكتشفات التي تحققت, وفي أعمال حماية الآثار وترميمها والتعريف بها عن طريق المعارض الأثرية الضخمة, التي جابت أنحاء العالم من اليابان إلى الولايات المتحدة مروراً بأوربا, ولأول مرة أصبحت حضارة سوريا واضحة أمام ملايين المشاهدين, مقروءة من خلال الكتب التي نشرت بلغات مختلفة, يعترف بعراقتها وأهميتها علماء الجامعات العالمية والباحثون. ومن أبرز النشاطات التي كان وراءها, الكشف عن آثار حاضرة إيبلا وعن مكتبة الوثائق التي ضمت خمسة عشر ألف رقيم فخاري مكتوب بأقدم لهجة عربية. ولقد هزّ هذا الكشف العالم بعد أن حاول الصهاينة استغلاله. وكانت معركة خاضها على المستوى العلمي, انتهت بكشف المؤامرة وإظهار التاريخ التوراني على حقيقته كتاريخ أسطوري يقوم على الادّعاء والتضليل. لقد جرّه العمل الأثري إلى دائرة البحث عن حقيقة التاريخ القديم, واستطاع من خلال المكتشفات التي حققها عدد كبير من البعثات الأجنبية العاملة في بلاده وتحت إدارته, أن يوظف هذه المكتشفات لتصحيح تاريخ العهد القديم, بالاعتماد على الوثيقة المكتشفة مكتوبة أو مرسومة, دون العودة إلى أحداث ليس لها قيمة تاريخية أو أخلاقية أو حضارية, وردّت متناقضة بأقلام الأحبار اليهود, ولم تكن كتاباً منزّلاً. ويجب أن نكشف هذا الغطاء عن المؤامرات الصهيونية التي تعرض لها ممثلة في الكتابين اللذين نشرا في أوربا عن إيبلا, كردّ فعل لمحاضرته في جامعة روما عام 1976, والتي تحدث فيها بالتفصيل عن مؤامرة جماعة (بناي بريث) الصهيونية, لتشويه مضمون الوثائق وتأويلها لمصلحة الصهيونية, مما دفعه بعد ذلك لتشكيل لجنة واسعة من علماء اللغات القديمة في العالم, لدراسة وثائق إيبلا دراسة علمية, وكان هدفه دائماً أن يجعل علم الآثار مصدراً للتاريخ. وكان يرى أنه لابد من عزل الأخبار الصهيونية والتراثية عن علم الآثار لأنها غير موثقة. والحق إن معركة العرب مع عدو اغتصب أرضهم فلسطين, إذ تتطلب تعبئة عسكرية لمقاومة الاحتلال العسكري, فإنها تتطلب تعبئة علمية موضوعية لمقارعة الإدّعاء التاريخي التوراني بالأرض من النيل إلى الفرات, عن طريق التنقيب الأثري للكشف عن الحضارات والشعوب والأديان التي تعاقبت على هذه الأرض, وليس من بينها أبداً حضارة إسرائيل. ولقد سعى صاحبنا القابع أمامي في مرآة مسطّحة, أن يستعين بعلماء العالم في عمليات التنقيب - وكان منهم مَن حمل مبادئ التاريخ التوراني وآمن بها وعمل على تأكيدها - فكان هدفه أن تكون قناعة شعوب العالم بسراب التاريخ التوراني التي أفرزت هؤلاء العلماء, قناعة علمية موضوعية. هزيمة الأثريين الإسرائيليين وإنني لأشهد أن سياسة التوسع في البحث وتشجيع العلماء على التنقيب بحرية, كانت السبب في هزيمة علم الآثار التوراني, ولقد وصلت هذه الهزيمة إلى إسرائيل ذاتها, فلقد أعلن علماء الآثار الإسرائيليون في عام 1996 عن فشلهم في العثور على آثار الهيكل, وأي آثار تعود إلى ما قبل العصر الروماني. وعلى صفحات مجلة العربي كتب صاحبنا مقالات وأبحاثاً عن هزيمة التورانيين في إيبلا وفي القدس, وآخر بحث له كان عن فضيحتهم في لفائف قمران على البحر الميت. يطيب لي أن أتابع معه الحوار في موضوع الآثار, وقد شغله عشرين عاماً. وكان همّه أن يكشف عن الجذور الحضارية العربية أولاً. فلقد تبيّن له أن الحديث عن العرب, وحضارتهم وتاريخهم يبدأ بالحديث عن ثقافتهم ولغتهم. ومنذ أن كشفت ألواح إيبلا عن قرابة لغتها باللغة العربية, وأن هذه اللغة الإيبلائية لم تكن إلا لهجة عربية قديمة محدودة المفردات, لا تختلف كثيراً عن اللهجات الأخرى في بلاد أكاد وآشور والكلدان وكنعان, عرف أن دليل تاريخ العرب وهجراتهم ومعتقداتهم, يكمن في هذه اللهجات التي توحّدت في لغة واحدة راقية غنيّة هي لغة قريش, لغة القرآن الكريم. ونادى بإعداد معجم لهذه اللهجات يعتمد اللغة العربية, ومازالت مجامع اللغة العربية تبحث عن علماء مختصين في اللهجات القديمة, لتحقيق هذا المشروع القومي الحضاري, ومن المؤسف أن تدريس هذه اللهجات في الجامعات العربية ضعيف أو يكاد أن يكون معدوماً. لقد كانت هذه الحقائق سبباً في تكوين نواة لفكر قومي علمي, يقوم على اعتبار الثقافة هي الحضارة, عندما ترتبط بالأمة. وإن الحضارة هي القومية عندما نتحدث في الأيديولوجية. ونحن نقرأ له في عدد من الكتب التي صدرت في القاهرة وبغداد ودمشق وطرابلس, عن هذا الفكر, نتساءل كيف نتحدث عن القومية بعيداً عن الدم والعرق والعصبية كما ألفنا ذلك عند علماء الاجتماع, ثم نتحدث عن وحدة مفهوم الثقافة والحضارة مع أنها قد تتداخل بقوميات متنوعة. ويجيب صاحبنا, إن التداخل حاصل فعلاً في مجال العلم, أما في مجال الأدب والفن ولغتهما, فإنه يبقى مستقلاً يتعامل عن طريق الحوار, وليس عن طريق الاندماج والتداخل, ثم إن الحديث عن العصبية كأساس للقومية حديث فاسد لا يقوم على واقع, ونحن عند الحديث عن القومية لا نتصوّرها أمراً شعارياً أو مثالياً, بل نتحدث عن واقع يتمثل بتراث إنسان محدد عبر مراحل التاريخ, هذا التراث هو واقع الأمة الذي يشخّص هويتها عبر التاريخ. إن مسألة التفريق بين الفقه الإسلامي الذي يحوّم حول الثوابت, وبين الفكر الإسلامي الذي شكّل حضارة الإسلام, مازال همّ صاحبنا الذي توجه إلى الإسلام من خلال إيمانه به كدين حضاري, يقوم على بناء الحضارة عن طريق البحث الدائم عن المجهول المطلق, والاجتهاد. وكان الله تعالى الواحد الأحد الذي لا شبيه له ولا مثيل, هو المطلق الذي أمر الإسلام بالإيمان به والسعي إليه للكشف عن أسراره من خلال مخلوقاته ومن خلال الكون. ومن هنا كان الإسلام ديناً حضارياً يقوم على العقل والعمل والانتماء والسعي للكشف والإبداع, وآيات الكتاب تشهد على معنى هذا الدين التوحيدي. أتراني ابتعدت عن الهمّ الأساسي الذي يشغل صاحبي, همّ الإبداع, وإنني أنزلق للحديث عن الجانب الروحاني الداخلي في بناء شخصية هذا الإنسان الذي أحاوره اليوم? الحق أن صاحبنا وقد أراد أن يصل ما انقطع بين الحضارة والقومية, لم يكن بوسعه إلا العودة إلى تاريخ الفكر الذي مازال قابعاً وراء التراث مكتوباً أو مشخّصاً, ووجد أن الفكر الإسلامي القائم على التوحيد مرجع شامل لتأويل وفهم التراث الفني, وهو موضوع تخصصه, تأويلاً جمالياً وفلسفياً. وهكذا تحدث عن العمارة الإسلامية كوعاء لهذا الفكر, تمثّل في عناصر الجوانيّة والمقياس الإنساني ومفهوم الفردوس الخاص. وتحدّث عن التصوير من خلال المنظور الروحي الذي تجلّى في أشعة الرؤية الروحية المتوازية التي تتجاوز البعد الثالث والفراغ, وتحدث عن الزخرفة والرقش كصيغة للتعبير عن المطلق والوجود أو لممارسة الدعاء والذكر والتكبير, وتحدث عن الخط العربي من خلال القيم الروحية التي تجلّت في تكوين الحرف وتركيب الكلمات. ولم يكن في ذلك من أتباع المذاهب الإشراقية أو الصوفية أو الأشعرية, بل كان يستخدم الرياضيات والقاعدة ممزوجة بالموقف الروحي الديني الذي يصدر عن الإيمان بالمطلق غير المحدّد وغير المنتهي, ولعل هذا المعنى الأخلاقي للمثل الأعلى الكائن الواحد كان سبباً أوقع بعض النقّاد بسوء فهم الموقف العلمي, الذي يتعامل بالحدس وليس بالإدراك العقلي المجرّد, أو بالشاعرية الروحية الحالمة. لعلّي لم أغادر مرفأ الذاكرة بعيداً, فأنا مازلت أنظر إلى وجهه في مرآة عطائه, فسأقرأ على قسماته هموماً فكرية وقلقاً ثقافياً, فلقد حاصرته مسائل داهمت الإبداع العربي الذي انزلق إلى الاغتراب, وفتت أواصره, وقد تناثر متفككاً في أنحاء البلاد, وكان عليه أن يقود أو يسهم في جمع المتناثر وتكوين المفكك. فلقد نشأ وحدوياً في مسيرته القومية, ومازال وحدوياً في دعوته إلى تأصيل الفن الحديث, سعياً وراء إبراز الهوية الثقافية, وصيانة للذاتية الحضارية التي اجترحتها الظروف السياسية القاسية التي كتمت أنفاس الكيان القومي ردحاً طويلاً من التاريخ. التحرر الثقافي لم يعد أمام المثقفين - وهو منهم - إلا الحديث عن التحرّر الثقافي بعد أن تحقق التحرر السياسي, لقد عرف أن جيله كان قد انفتح على ثقافة اعتقد أنها عالمية مجرّدة, فأراد أن يكون عالمياً أيضاً, ولكنه فطن فيما بعد إلى شراك الغزو الثقافي الذي داهم الفكر والفن, وعرف أن الثقافة العالمية ليست أكثر من ثقافة أوربية إمبريالية, أتراه محقّاً في ذلك وتيار عريض من المثقفين هاجر بجسده أو بفكره أو بإبداعه إلى أوربا (الإمبريالية) وانتمى إليها هوية وفكراً, دون أن ينسى لغته وأهله الذين يرقبون مصيرهم في القرية البريئة, أو في فناء البيت المدني حيث يبتلهون بالدعاء للمغتربين بسداد الرأي وسداد الطريق?! هجرة الأدمغة يتحدث عنها اقتصاديو العلم, ولكن هجرة الإبداع يتحدث عنها الباحثون عن التراث والذات الثقافية. أنا وهو لسنا نقيضين, فإذا كنت أعترف بالثقافة الأوربية فلسفة وأدباً وفناً وأسعى إليها علماً ومعرفة, فإنه من وراء مرآته يشف عن تمسّكه بتراثه وهويته, وعن خوف حتى الرعب من طغيان هذه الثقافة المتدفقة كالسيل, محمولة على أكتاف أولئك الداعين إلى عولمة الفكر والإبداع. هذا هو همّنا المشترك, فهل نحن الاثنين أمام بابين لا ثالث لهما, إما باب الانفتاح حتى التضحية بالذات, أو الانغلاق حتى العودة إلى الماضي والسلف الصالح. منذ الخمسينيات, تحدث صاحبي عن التراث وتحدث أيضاً عن المعاصرة, وسرى هذا الحديث على لسان كثير من النقّاد, وكانت آراؤهم متباينة في البداية ثم تقاربت مع الأيام. ولم يكن حديثه توفيقياً يجمع بين المتناقضات, فلقد عرف أن في كل من هذين القرنين بعضاً من القرن الآخر, ويكفي أن نسمعه يعرّف التراث, من أنه تراكم الإبداع عبر تاريخ أمة, لنرى أن هذا التراكم مستمر حتى اللحظة هذه, وأنه مستمر مادام الإبداع قائماً, وأن ما هو حديث معاصر سيصبح غداً تراثاً, وأن قوام الذات الثقافية هو هذا التراث الذي يعيش معنا ومع آمالنا وطموحاتنا المستقبلية. فلا خوف إذن على المغتربين من التراث, فهو ليس سجن الماضي, بل نافذة المستقبل, وإذا كان لابد من الاعتراف بثقافة الآخر الذي قد يسبقني أو أسبقه, فإن مجابهته لا تقوم على صراع الحضارات كما يقولون, بل تقوم على الحوار. وكثيراً ما نادى بالحوار واشترك في حلقاته مع مثقفي الغرب ومع المثقفين العرب المغتربين, وهو يعترف أن حجة هؤلاء قوية, فهي تعتمد على إرث ثقافي غني ابتدأ منذ عصري النهضة والتنوير وسار صاعداً, ولكنه وقد أتخم بتراثه حتى وصل إلى نقطة الانفجار, وكثيراً ما وُصفت الحداثة الغربية بالانفجار, أو بالانقطاع عن التراث ورفضه مطلقاً. لقد كان مصير الثقافة الغربية مع الحداثة, حجة مع صاحبي الذي استفاد منها, عند قراءة فَكْرنات ما بعد الحداثة التي وصلت إلى حدود الإقرار بالعودة إلى الجذور, لتأكيد وتبرير مسيرته باتجاه العودة إلى التراث, فهل كان ناجحاً? وكثيراً ما تحدث عن القطب الواحد وتعسّفه بعد غياب القطب الآخر. وهو يعتقد أن عهد القطب الواحد الذي ينادي بالعولمة عهد قصير, فثمة أقطاب أخرى تعدّ نفسها لمنافسة هذا القطب, ومنها قطب الأمة العربية وقطب الشعوب الإسلامية الناهضة. هكذا اكتشف وئيداً سداد مسيرته باتجاه الأصالة, وأراني أرفض أن يتهم بالشوفينية أو يتهم بالسلفية أو بالانعزالية, بل أراه أكثر المثقفين انفتاحاً على ثقافة العالم وثقافة المستقبل, ولكنه أكثرهم غيرة وحرصاً على ذاته التي تكوّنت خلال آلاف السنين ومنذ بداية التاريخ. نعم منذ بداية التاريخ, وتساءل كاتب صهيوني خبيث في كتابه عن إيبلا, وقد جرّح صاحبي لأنه اعتبر أن اكتشاف إيبلا الذي يعود إلى الألف الثالث قبل التاريخ, يؤكد أصالة العرب الحضارية. العربي قبل الأعراب تساءل هذا الكاتب كيف يتحدث صاحبي عن العروبة منذ فجر التاريخ, ولم يكن للعرب في البراري وجود إلا متأخراً في التاريخ, ومتخلّفاً جداً في الحضارة. لقد عرف صاحبي, وكما ذكرت سابقاً, أن العربي موجود قبل الأعراب وقبل الإسلام. في حضارة بلاد الرافدين والشام, من خلال لغته التي كانت لهجة بدائية متنامية, هي بداءات اللغة العربية التي تكاثرت بمفرداتها منذ الأكّاديين ثم العموريين والإيبلائيين وحتى الكنعانيين والآراميين. وأن هذه اللغة تشكّل نسغ الحضارة التي سميت بأسماء الأماكن التي حبلت بآثارها التي اكتشفت أخيراً. وأنا أثق بأن اللغة هي خير دليل على وحدة الثقافة ووحدة الحضارة ووحدة الهوية القومية. وأعتقد أنني لن أجد مخالفاً لهذه الحقيقة. فإذا كان الأمر على ما قرأت في كتبه وأبحاثه, فإنني أستطيع أن أشاركه بالقول, إن الأمة العربية والحضارة العربية ابتدأت مع فجر التاريخ, وليست متأخرة, ولم يكن الإسلام إلا ذروة في تاريخ الأمة العربية, شعّ بفضل هذه الأمة على العالم. هكذا يضعني صاحبي أمام مجال تاريخي واسع أعود إليه, لكي أستمد أصالتي, دون أن أقع في إسار مرحلة دون أخرى, مؤمناً أن هذا التاريخ واحد وإن تعددت حلقاته, وهذه الحضارة واحدة مادامت محمولة على ثقافة واحدة ولغة واحدة وإن تعددت لهجاتها. هذه الجوانب الفكرية التي تبدو متعددة في ثقافته لا تجعله شارداً بعيداً عن تخصصه, فهو أولاً وأخيراً باحث حضاري عربي كما يحلو له أن يعرّف بنفسه, ولقد اختار من الحضارة البحث في الفن, وهو إذا توقف في محطة تاريخ الفن الإسلامي, فلأنه مازال مؤمناً بأن الفكر الإسلامي هو الخلفية الحضارية للإبداع العربي وغير العربي, وهو الخلفية الأيديولوجية للنزعة القومية التي ينتمي إليها. ولقد وجد في الفن الإسلامي شاهداً على الفكر الإسلامي, بل وصل به الأمر إلى حدود القول بالتعرّف على الفكر الإسلامي من خلال الفن, ولذلك توسّع وتعمّق في الكلام عن جمالية الفن الإسلامي وفلسفته. وكثيراً ما عبّر عن طموحه لتأليف علم جمالي إسلامي مستقل عن علوم الجمال في أوربا أو في الهند أو في إفريقيا, على فرض وجود هذا العلم فيها. ولقد أكّد طموحه هذا بتقديم نبذة عن مفهوم الإبداع والفن والجمال عند واحد من أبرز الباحثين العرب هو أبو حيان التوحيدي. يقول صاحبي: (عرفت هذا المفكر عام واحد وسبعين وتسعمائة وألف, يوم كنت مديراً للمركز الثقافي لسنة واحدة أرتقب صدور قرار تعييني مديراً للآثار والمتاحف, العمل الذي أحبّه, وكانت مكتبة المركز قد أتاحت لي أمرين, الأول أن أجمع من أخبار الإعلام والباحثين نبذاً عن كل من يحمل اسم البهنسي, فحصلت على قائمة نسبية تصلني بأبي الحسن المهلب البهنسي قبل ألف عام. والثاني أن أقرأ ما نُشر من كتب أبي حيان التوحيدي, مثل الإمتاع والمؤانسة والمقابسات والإشارات الإلهية ورسالة الكتابة وغيرها..., وقد راعني ما في هذه الكنوز من ذخائر الفكر والفلسفة, على لسان معاصري أبي حيان, مثل مسكوية والسيرافي والسجستاني, صاغه ببيانه الأدبي الرائع, ومن المؤكد أنها حملت أفكاره ومواقفه). 40 عاماً من التدريس يجرّني الكلام عن التدريس الجامعي إلى الوقوف قليلاً في قاعات التدريس والمحاضرات التي قدم فيها محاضراته, وتكاد لا تخلو جامعة عربية لم يلتق بأساتذتها وطلابها, وكثيرة هي الجامعات العالمية التي شرُف بالمحاضرة فيها, مثل السوربون وكامبردج وأكسفورد وهارفرد ولوس أنجلوس وطوكيو وسدني. لقد أمضى في مجال التدريس الجامعي في دمشق ما يقرب من أربعين عاماً, وكان سعيداً بدوره التعليمي, قريباً من طلابه معتزاً بوفائهم, فحيثما مضى المعلم يرى أصدقاء يكنّون له احتراماً ومودة لا مريّة فيها, إنها أشرف مهنة يقدم فيها المعلم رسالته الفكرية مخلصاً, وهو أشد من الآباء اعتزازاً بطلابه الذين يحققون مطامحه فيهم. على أن صاحبي لا يستنكر عمله الوظيفي الذي اختاره ليكون حقلاً لتنفيذ أفكاره وأهدافه, في تعزيز الحركة الفنية وتأسيس المعاهد والمراكز وإنشاء المتاحف وترميم الآثار والحفر في الأرض لاكتشاف الحضارة والفن والتاريخ. لم يكن صاحبي مع ذلك موظفاً تابعاً, وكثيراً ما كان يعلن في مؤتمراته الآثارية السنوية وفي مقالاته, إن ربّ العمل هو الوجدان. وأنا أسمع كلامه هذا الذي أثار زوبعة من سوء الفهم, كنت أعرف أنه لا يعني الاستهانة بالسلطة بوصفها ربّ عمل, بل يعني عدم وجود رب العمل الفعلي الذي يحرص على إنتاجية مصنعه (الدولة) كالوجدان, ومع أنني أعترف أن الحديث عن الوجدان ليس سهلاً, فهو يتطلب انتماء وطنياً مطلقاً وسلوكاً أخلاقياً مثالياً, فإنني أرى معه أن رب العمل الحقيقي ليس المدير أو الوزير, بل هو الوجدان, الوجدان الذي يدفع بالمقاتل أن يضحي بروحه ودمّه من أجل الكرامة والحرية والشرف, ولعل صاحبي كان يحمل بين جنبيه أثناء عمله شعور الجندي في ساحة الشرف, يدفعني إلى هذا التشبيه ما قرأته في مقالاته في جريدة الثورة أيام حرب أكتوبر التي تغنى بالنصر فيها. لا أدري لماذا ينتابني شعور بالتحيّز لصاحبي, وبأنني أتمادى في وصفه مثالياً, مع أنه في مذكراته الخاصة التي مازالت سريّة, يعترف أنه مازال في بداية الطريق للتعرّف على حقيقة الإنسان وأسرار الواقع الاجتماعي وخفايا الطبيعة. وأن أخطاءه لم تكن إلا نتيجة مغامراته في خوض الخفايا والأسرار دون تحفّظ أو خشية. وفي عالم الطبيعة وجد نفسه أمام الله وجبروته, فكان يبحث عن الإعجاز في تكوين عناصر الحياة والوجود, فلم يجد أبلغ من صنع هذا المطلق الأجل الذي حقق الكمال والجلال والجمال في الطبيعة, فهل كان على خطأ?! لقد قيل إن الأخطاء تتناسب طرداً مع العمل, وقيل أيضاً إن ما هو خطأ هنا, صواب هناك, لذلك لم يكن صاحبي يخشى الخطأ لأنه لم يكن يخشى الخطر. فإذا قيل إنه شجاع مغامر, فلم يكن ذلك على حساب الحق والصواب, بل على حساب الأحكام التي تصدر عن حسد أو حقد, وهي حالات أصبحت مألوفة في مجتمع يتسابق باتجاه الكسب الأوفر والجهد الأقل, مستخفاً بكل عمل تأسيسي. ومع أني على وفاق مع صاحبي في آرائه لأنني أكثر الناس معرفة به وأكثرهم ثقة بأفكاره وأعماله, فإنني أقول (جلَ من لا يخطئ), ولو أتيح لي أن أقرأ سريرته, لوقفت على اعترافات بالخطأ, لا يخفف منها إلا شهادات التقدير التي أحرزها والأوسمة الرفيعة التي حملها من عشرات الدول مع ميداليات التكريم, هذه الوثائق التي يحتفظ بها في خزائنه وقليل من الناس من اطلع عليها, لعلها علامة تسامح مع شجاعته في اختراق المخاطر والمواقع. مازلت أقف أمام مرآة عطائه وقد شدّتني عيناه, أسبر فيها رؤيته إلى المستقبل. أيّ مستقبل? ساسة العالم... أطفال إن ساسة العالم أشبه بالأطفال يتسلّون بالألعاب النارية. ولعلهم كالبلهاء الذين يضنّون على القنبلة الذرية غالية الكلفة أن تتفجّر هباء على أرض غير أرضهم, كما تقول (طُرفة شعبية). أما عن مستقبل أمته, فلست أدري سبباً لطمأنينته, مع أن إسرائيل تملك جميع الوسائل للقضاء على هذه الأمة, وتعلن عن استراتيجية العدوان على أنها عقيدة ووعد إلهي. لقد توطدت لديه قناعة علمية أن إسرائيل لا تملك أي حق تاريخي باستمرار وجودها على أرض عربية تهدد منها العرب جميعاً, وأن لغة علم الآثار التي يحسن قراءتها العالم, كفيلة بكشف هذه الحقيقة, ولذلك أمضى زمناً في البحث والتنقيب والنشر لتوضيح هذه الحقيقة, وتحمل في ذلك عنتاً وظلماً. وهو يرى أن الدعم العالمي العسكري الذي تتلقاه إسرائيل من أمريكا وغيرها دعم عارض, سيزول إذا ما وقف العرب متحدين في كفة واحدة في ميزان المصالح الدولية مع الشرق. أما مستقبل الثقافة العربية فهو أشد ما يقلقه, لأنه يعي جيداً أن الثقافة عامل الوحدة العربية الأول, وهي طريق إلى الحوار العالمي, وهي الوسيلة إلى هزيمة الصهيونية. والخلاصة, هي الطريق لفهم الذات والآخر, ولبناء الإنسان العربي الأكثر كفاءة لمعايشة عصر متغيّر بتسارع صاروخي. وفي كتابه العمران الثقافي, عرض خطة تمتد من التراث إلى الحداثة في عدد من المحاور, الأيديولوجية والذاتية والتراث وحتمية التغيير والمعاصرة العالمية, ولقد أشاد بالخطة الشاملة التي وضعتها المنظمة العربية للثقافة واعتبرها الطريق الصحيح لبناء ثقافة قومية مستقبلية لابد من تنفيذها. قراءة صاحبي خلال مرآة عطائه تتطلب زمناً لا أملكه الآن, ولكنها فرصة ثمينة, لأكتب مقدمة عن تاريخ نصف قرن من العطاء الفكري والفني, ولكن ليس من حقي أن أحكم على هذا العطاء. فأنا أعترف بضعف ملكة النقد عندي, مع أنني أتقن القراءة والكتابة, وكثيراً ما تجوّلت في مكتبته باحثاً عن مصادر عطائه, منقّباً في صفحات مؤلفاته, ساعياً لدعم باحث يسعى لتأليف أطروحة عن فكره. إلا أنني مازلت قاصراً عن التعريف به والكشف عن أفكاره وتعميمها. وأراني هنا مسئولاً عن التعبير عن أسفه لضعف الاهتمام بالفن نظرياً, حتى من الفنانين والطلاب, فكيف من عامة القرّاء?! وإذا كان منهم مَن سعى وراء تاريخ الفن للتعرّف على المدارس والنجوم والمتاحف, فلم يكن هذا السعي ثقافياً, بل كان مهنياً أو أكاديمياً, ومع ذلك فهو يحاول أن يكتب ليسد نقصاً في المكتبة العربية, ولكي يؤسس فكراً فنياً راسخاً, ويدل على الطريق الأصح لقراءة الصورة وتحليل جماليتها, وليجعل الفن وأساليبه أكثر شيوعاً وتعاملاً, في عالم تحكمه الآلة والكارثة والمال. ولعل أبعد هدف سعى إليه من وراء أبحاثه, هو تشخيص الحالة القومية من خلال الإبداع الفني كظاهرة حضارية أكثر تماساً مع الإنسان. هذه الظاهرة التي سعى إلى دعمها وتعميمها عن طريق المؤسسات التي أنشأها, عن طريق الشواهد الفنية التي انتشرت في الساحات والحدائق, وعن طريق خوضه شخصياً غمار العمل الفني الإبداعي, تصويراً ونحتاً.
|