البرد حنون هذا الشتاء، كسر شوكته مطر مجنون لم يكفّ عن النزول، ففاضت الحفر في الشوارع بعد أن كلّت خياشيم الأرض، وقلبت المياه الموحلة حياة سكان الأقبية، والبيوت الواطئة، إلى طين.. وأحمد الله أن بيتي في الطابق الأخير (الخامس).

من خلف الزجاج، الذي حول البلكون إلى غرفة جلوس منكمشة، تبدو قطرات متكاسلة تتجمع على سطح مزراب قديم. وكلب أسود، ناحل ومبتل، أرخى أذنيه الطويلتين على جانبي رأسه المائل إلى الأمام.

ووقف تحت المظله المعدنية قبالتي تماما.. رفع رأسه قليلا عند حافة المزراب الملتصقة بالجدار، ثم عاد إلى انحناءته كأنه لم يجد ما يبحث عنه..

جاء كلب آخر، بنّي هذه المرة وذو أذنين مقطوعتين، من نفس الجهة التي جاء منها الأول، ومبتل مثله وهزيل.. نفض جسمه بجوار الكلب الأسود، وأدار قفاه، للشارع ولبنايتنا.. ولي.

- ما أخبار الطعام؟

* لقد اطفأت النار تحت الطنجرة. ولكن لا أستطيع وضع الأكل على الطاولة قبل أن يحضروا، أعرفهم، لا يحبون الطعام البارد.

المطر.. كأنه ملّ البقاء في الأعالي، أو أن الغيوم ناءت بأثقالها فرمتها دفعة واحدة لتهبط كحبال فضية لا تنقطع.. أحد من الاولاد لم يظهر في الشارع.. بدأت أقلق، لماذا تأخروا؟ في المطر، مع الطين والسرعة، تدب الفوضى وتكثر حوادث السيارات وأعطال المواصلات العامة و.. صارت الكلاب أربعة.. الكلبان الأخيران كأنهما توأمان، والمكان تحت المظلة، لم يعد يتسع للمزيد.

* كم اتمنى أن يفرجها الله في هذا اليوم الخّير، المطر خير وبركة، ولا بد أن يوفّق سمير في الحصول على عمل يليق به.. هل هذا معقول؟ مهندس محترم، متخرج منذ سنة وسبعة أشهر، ولا يجد عملا. هل شبع البلد مهندسين؟!

- كفى "نقا"، الأرزاق بيد الله.

* أنت دائما هكذا، لا تتركني أفش قهري.. حتى في الكلام..

- هل وضعت الملح على (المحشي)؟ أنا أحب مرقة المحشى مالحة قليلا.. صار لي ثلاثين سنة وأنا أذكرك بذلك، وأنت أذن من طين وأذن من عجين..

صاروا خمسة، وسادسهم من الجهة الأخرى.. متعباً كان، يهتز رأسه بين رجليه الأماميتين، وأعضاؤه تتحرك متنافرة معزولة عن بعضها البعض كحصان هرم مهزوم في سباق، وبخارأنفاسه تحترق نصال المطر الغزيرة،، وصل اخيرا، ووقف في طرف المجموعة، نصفه الخلفي ظل خارجا غير محمي. حاول الاندساس بين الكلاب، فدفعه المجاور له، ولم يفسح له الآخر. نزل عن الرصيف إلى أرض الشارع.. التف حول المجموعة إلى الجهة الأخرى، فلم يكن أسعد حظا، نصفه تحت المظله والآخر تحت المطر، لم يترك المكان.. حتى أنه لم يبادل موضعي نصفيه..

* أين أنت؟ هل نمت؟ ألا تسمع وقع أقدام على الدرج؟

- ضعي الطعام على الطاولة. لن يبرد.. سيأتي الأولاد تباعا..