أسطورة العربي صلاح فضل

قراءة في بيت من الشعر

دراسة فريدة. ترتكز على بيت واحد من تراث الشعر العربي. ولكنها تكشف عن مدى عمق الدلالة في الشعر القديم وتكشف أيضا عن حساسية الناقد الذي يستخدم حسه الجمالي وخبرته المعرفية في اكتشاف النص القديم وتقديم تحليل جديد له.

ليس عبثا أن يكون المتنبي شاعر العربية الأول على مر العصور، وأن تختزن الذاكرة الجماعية له من الأبيات أضعاف ما تحتفظ لغيره، فهو الذي استطاع فيما يبدو أن يستثمر الخواص الأنثروبولوجية للإنسان العربي ويبلور عالمه المثالي في أقمار صغيرة أطلقها في سماء اللغة فاحتلت مدارها في الآفاق المرئية. ومع أن هذا الإنسان يجور عليه التاريخ ويجور عليه الزمن غالبا، وقد سكن البادية والحضر، وانتقل عبر المراحل المختلفة من إقطاعية ورأسمالية، وما زال يعيشها في آن واحد، إلا أن القرار العميق لوعيه حتى الآن يظل منفلتا من قبضة الزمن، فلا يحلو له إلا أن يسكن الأسطورة، ويصدق حرفية الرمز، ويبيع الدنيا بأكملها من أجل كلمة حلوة تأسره فيعبدها وهو الذي أنتجها. والخيط الذي أريد أن أمسك بطرفه الآن هو استمرار العنصر البدوي في وجدان الإنسان العربي وهيمنته على تصوراته بحيث يشكل لب أسطورته ورؤيته لذاته، ولن أقف عند مقولات ابن خلدون الشهيرة في التحليل والتعليل، بل أدعوكم، لا لقراءة هذا البيت الشعري من المتنبي - فالقراءة الصامتة لا تقوى على استحضار جميع عناصره - ولكن لإنشاده والتغني به، على أساس تمثله كصوت جمالي يعبر عن الضمير القومي والنموذج المثالي للإنسان العربي كما يتم استقطاره جماليا في بضع كلمات من الشعر:

الخيل والليل والبيداء تعرفني

والسيف والرمح والقرطاس والقلم

مواد الكون العربي

ثم أعرض عليكم قراءتي الصامتة المتأملة له، وأوجزها في بضع نقاط:

الأولى تتصل بتركيب البيت وبنيته، والثانية بالعالم الذي تستثيره، والثالثة بالمدى الذي تصل إليه في تجسيد أسطورية هذا الإنسان.

أما البنية الشعرية لهذا البيت فهي نموذجية، لأنه يكاد - وهو جزء من قصيدة طويلة - أن يشكل نصا مكتملا، إذ يحقق الشرط الأساسي للنص وهو التحديد، وتراتب العناصر، والاكتمال الدلالي التام.

فلسنا بحاجة لما قبله وما بعده، وما يكمن فيه من عناصر محددة قد تم تنظيمها حول بؤرة مركزية حتى غدت بنية متماسكة قوية. فلنمعن في هذه العناصر وعلاقاتها.

يبدأ البيت بذكر الخيل، وهي أنسب مواد الكون العربي للاستهلال، فالخيل معقود بنواصيها الخير، وهي علامة الفروسية والنبل والثروة المادية والمعنوية، وهي اسم جنس لا يتمثل في جواد ولا فرس محددة ينحصر فيهما، بل يشمل في العالم الخارجي كل ما يطلق عليه خيل، وهي مناط اعتزاز العربي بعرقه وخيلائه بذاته، وربما كانت ترتبط من الوجهة الإيتمولوجية أيضا ببواعث القوة التي تتجاوز المادة لتعبر عن قدرات الإنسان في التصور والتخيل، فلابد أن تكون هناك قرابة في قاع اللغة بين الخيل والخيال، تمر عبر انعكاس الظل السريع على الأرض حتى تصل إلى درجة التجريد عندما يغمض الإنسان عينيه ويرى الخيال ببصيرته. وخيل المتنبي على وجه الخصوص تملك طاقة مثيرة للخيال العربي العريق. اختار الشاعر كلمته الأولى ووضعها بإيجاز وتركنا نسهر ونسمر عليها، ثم وضع إزاءها كلمته الثانية: الليل، وحشا في جوفها عنصرًا آخر من هذا الكون الذي يجسده، ومع أن اتساق البنية الصرفية والتقفية الداخلية هما أبرز ما يلفت الانتباه للوهلة الأولى في الجمع بين الليل والخيل، إلا أننا لا نلبث أن نستشعر أن ثمة شيئا عميقا يربط بينهما غير هذا النسيج الصوتي القريب، فالخيل هي ظاهر الوجود العربي ومناط حركته، والليل هو باطن هذا الوجود وسر سكونه. ثم ألا يحمل التشاكل الواضح بين الخيل والليل تشاكلا آخر خفيا يثير عالم الحب المستور في حياة الإنسان العربي، لا عن إهمال، بل عن فرط أهمية وحفاوة.

المرأة والليل

هل لنا أن نتصور الليل كناية عن المرأة، تحجب ما لا ينبغي أن يذكر وتقع في تلك المنطقة المبهمة التي يحدس بها الإنسان دون أن يتبينها بوضوح؟، وعندئذ يبرز رابط التشاكل الدلالي في الركوب بين الخيل والليل، مع ملاحظة مهمة وهي أنه لم يقل ذلك صراحة، بل أوشك أن يحيلنا إلى الذاكرة الشعرية لنستحضر طرفة بن العبدوهو يعدد ملذاته في الحياة ويحصرها في ثلاث: الخيل والمرأة والخمر. بيد أن المتنبي أقرب إلى طبيعة السلوك العربي عندما يضع حجاب الليل على وجه المرأة، فيترك لكل قارئ أن يغني على ليله وليلاه، إنه بذلك يضمر الحب ولا يعترف به، بل يصبح بوسعه أن يتبرأ منه. فليل صاحبنا ليس بالضرورة ليل العبد العاشق الذي يقول:

نهاري نهار الناس، حتى إذا دجا

لي الليل هزتني إليك المضاجع

فقران الخيل والليل يظل متحققا في المستوى الصوتي، ممكنا في المستوى الدلالي. وتأتي البيداء لتضع المكان المفتوح إلى جوار الزمان المغلق، فهي تتحرر من النمط الصوتي الماثل في الثنائية السابقة، وتقدم عنصرا ثالثا مركزيا في أسطورية الإنسان العربي، يفسح للخيل ميدان حركتها، ويضع للمرأة - أو الليل - إطاره الجمالي المحبب، وشهيرة هي أبيات المتنبي في حسن البداوة غير المجلوب بالتطرية والصناعة، وافتتانه بالفطرة والطبيعة. البيداء إذن تقدم الفضاء الغنائي المثالي الذي تمرح فيه الخيل وترعى الظباء الأوانس، البيداء هي التي تطويها الخيل وتسكنها الحسان، ويضمرها الليل دون أن تقلقه المصابيح المرتعشة في شوارع الحواضر. غير أن كلمة البيداء المحدودة المفتوحة لها وظيفة أخرى في السياق الشعري، فهي الثالثة من العناصر المعدودة، ولابد أن تكون أطول منها في المقاس الصوتي، هكذا تقتضي تقنية النسيج الشعري، وهي بذلك تتيح الفرصة للمنشد المبالغ أن يمد صوته ويضم العالم في كفيه حتى يصل إلى أطرافه.

البيداء مهد الفصاحة

غير أن هناك نواة دلالية أخرى للبيداء لا ينبغي أن نغفلها، فهي مهد الفصاحة وموطن اللغة البكر ومقر الشاعرية، وشهيرة هي تقاليد أهل الحواضر في دفع أولادهم ليرضعوا لغة البيداء في صباهم حتى يشبوا على النقاء المثالي، والجمال الفطري البسيط، وتبرأ من تراكمات الحضارة وتلوث التاريخ. إنها المكان الذي ينفي الزمان ويبطل فاعليته. والمتنبي هو الصوت الشعري الذي انتصر للبيداء وكرس أسطورتها ودمر سخرية أبي نواس من بدائيتها وسذاجتها فحصر تأثيره في الذوق العربي، ورده إلى حلاوة التغني بالطبيعة وعناصرها الفاتنة. البداوة إذن هي كلمة السر في عالم المتنبي المتناقض المشبع بشهوة السلطة ومجد الكلمة، وهي خاتمة الثالوث الأول وجوهر فحواه. لكن ما شأن هذه العناصر الكونية والحيوية التي تمثل منظومة الشاعر؟ ما الذي يقوله عنها المتنبي بعد تعدادها وترتيبها واختيار رموزها؟ ما الذي يسنده إليها؟

هنا نجد المفاجأة الشعرية التي تعتمد على المفارقة، فهذه العناصر هي التي تعرف الشاعر وتألفه، وهي التي تمارس فعل القرب الإدراكي منه، على عكس ما هو متداول من معرفة الإنسان للطبيعة، إنهما يتبادلان المواقع، بحيث تقوم الطبيعة بدور الإنسان في المعرفة والإدراك، ويقوم الإنسان - المتنبي - بدور هذه العناصر الخالدة في الشهرة والبروز ووقوع حدث المعرفة عليه. فالشاعر ينتصب في مقابل العالم، وتمر مظاهره عليه معترفة به، وحتى القارئ الذي تلفحه التاء في "تعرفني" يدخل بدوره في هذه الدائرة، فأنا الشاعر هي المركز، والعناصر من حولها محيط يدور على هامشها ويكتسب طرفا من دوامها وخلودها. ولا يقتصر الأمر على مجرد مبالغة تفضي إليها هذه المفارقة العكسية، لأن تأخير الفعل إلى نهاية الجملة الشعرية، واختتامها به يجعلها معقودة عليه، منصبة فيه، مغلقة في دائرته.

وإذا كانت هذه الجملة الشعرية الأولى تمثل كيانا وكونا أنثروبولوجيا مختومًا بياء المتكلم الشاعر الذي يرى فيها كل مردد للبيت ذاته، ويلتذ بتحويل إشارتها إلى نفسه، وهذه هي وظيفة التماهي الشعرية، فماذا تفعل الجملة الثانية؟.

إنها تعيد نثر مفردات هذا العالم الدلالي ذاته، فتختار له هذه المرة عناصر أكثر تحديدًا وأقل إبهامًا، إنها تقوم بمزيد من تبئير الرؤية المنداحة في الشطر الأول، فعالم الخيل الموحي بجوانب كثيرة أخذ يتحدد في الحرب وأدواتها المباشرة: السيف والرمح وبقدر ما بين هذين العنصرين من ألفة التجاور والتكامل، فأحدهما أداة الالتحام عن طريق المس والآخر أداته عن طريق القذف، حتى ليكاد أحدهما يصبح رديفا للآخر لا مرادفا له، فإنهما يقومان بدور إشاري محدد للقتال، فهما معا يقيمان تناظرا دلاليا مع الخيل في مطلع الجملة الأولى، ويستجيبان لما فيها من خيلاء بحس عدواني جارح، فهذا السيف المسلط والرمح المترصد لا يقعان في الهواء، بل يصيبان الآخر المضاد من بني البشر، هنا تبرز برأسها خاصية بدوية عنيفة، هي التفرد والعدوانية، الأنا هي محور الكون، وقد تتآلف مع عناصره باستثناء الآخر الذي يحصر وجودها ويقاوم امتدادها فتعلن الحرب عليه. هنا تتجلى أسطورة الشجاعة العربية في وجهها السلبي المدمر. فهي ليست تلك الشجاعة التي تملكها النفس العظيمة في مجاهدتها لأهوائها وصراعها مع ذاتها، وليست تلك الشجاعة المتجلية في الإيثار والعمل من أجل الآخرين، بل هي الشجاعة التي تتجسد في السيف وتحتكم إليه فتحكم على الآخر بالموت. إن المدى الحيوي للإنسان هكذا لا يمتد إلى أبعد من جسده، وطموحه لا يستوعب غيره، بل لا يرى في هذا الغير سوى عائق لحريته وامتداده ووجوده ذاته.

الكلمة والسيف

وتأتي الثنائية الأخيرة بمفاجأة مدهشة ثانية، لأنها تشير إلى عالم يبدو في الظاهر أنه لم يرد ذكره من قبل في التعداد الأول، عالم القرطاس والقلم، عالم الكتابة والشعر، أي عالم الكلمة. وهو يعبر عنه بزوج من الكلمات المتعايشة في أسرة الشعر، والمتناغمة - عن طريق التشاكل الضدي - مع أسرة الحرب السابقة، فالقرطاس يقابل صفحة السيف، والقلم يحكي سن الرمح، وكلاهما أداة مكملة للآخر ينتجان فعل الشعر. هنا تصدمنا المقابلة، فالشعر تواصل حميم وفيض على الآخرين، الشعر كلام مجنح لا يتم إلا باحتضان الآخر له، واستجابته لندائه، بينما القتل نفي لهذا الآخر، لابد لنا من البحث عن تناسب عميق يكمن تحت هذه البنية السطحية المتفاوتة، ولا سبيل لذلك سوى رد الشعر إلى الحرب، فهو لا يقوم على الوصال المتكافئ، ولا يعتمد على الاستثمار الجماعي للتقارب الأليف، بل يعتمد على الإعجاز والإبهار والاستلاب. الشعر هكذا أداة للسيطرة بحيث تصبح الكلمة نافذة في العظم مثل السيف وقاتلة لإرادة الآخرين، لا سبيل إلى أن يمارس متلقي الشعر - في وعي المتنبي - حريته في القبول والرفض، أو حقه في الاختلاف. ليس له هذا الحق أصلا أمام جبروت سلطة الكلمة. وهنا نكتشف شيئا آخر عن طريق التشاكل المتوازي في الموقع مع العناصر الأولى، فالشعر يقابل الليل كما أن الحرب تقابل الخيل. فلم يكن ليل صاحبنا إذن ليل العاشق المحب المحبوب، بل ليل المجد في اقتناص القوافي ونصب شراك الكلمات القاتلة. لقد أحسنا به الظن عندما حسبنا أنه قد يلمح بالليل إلى المرأة، إنها في الواقع مستبعدة من مملكته البدوية، إنها مملوكة له وليست طرفا محاورا يدخل معه في علاقة الند للند عن طريق التواصل المتكافئ الجميل.

فإذا لم نشعر بالارتياح تجاه هذا الاحتمال فلدينا بديل آخر قد ألمحنا إليه من قبل، هل يقابل الشعر في الجملة الثانية البيداء المطلقة في الجملة الأولى، وهو على شاكلتها وابن بجدتها؟ عندئذ يظل الليل متسربلا بغطائه، مغلقا على أسراره.

لكن الغريب أن هاتين الثنائيتين المكونتين للشطر الثاني تصبان في الفعل السابق نفسه وتقومان بالدور نفسه الذي يتمحور حول ذات الشاعر، فنحن إزاء سبعة فواعل لفعل واحد يشبع إحساس الشاعر بنفسه وتفرده، ويلغي - أو يكاد - وجود الآخرين لديه، وهذا هو الحس البدوي المضاد للاجتماع والمناهض للعمران على حد عبارة المؤرخ المغربي العظيم. والأغرب من ذلك أن يستدرجنا الشاعر حتى نرى أنفسنا فيه، ونحيله إلى أسطورة تكرس العناصر الأسطورية البدوية للإنسان العربي، دون أن نقف على مسافة منه، لنتبين مثلا أننا لا ينبغي أن نعجب بهذا النموذج المثالي ونحن "لم نركب جوادا للذة" طيلة حياتنا، ولا نتصور أن نمسك بسيف نجرح به ذبابة، أو نهجر مدننا وحواضرنا كي ننطلق في البوادي مشتتين. وإذا كتبنا شيئا فلكي نقدمه بأدب وضراعة للمتلقين دون رغبة في مصادرة حريتهم في قبوله أو رفضه، بل إننا كلما وقفنا من هذه الرؤى الماثلة في الضمير الجماعي موقفا نقديا للكشف عن الاختلاف معها، والدعوة إلى الدخول في ميثاق جماعي يعتمد على التواصل والتكافؤ، ويرتكز على أسس الحرية للجميع، كما تنظمها الأساليب الديمقراطية، كنا أشد حفاوة بمن يحاورنا ويختلف معنا ويمارس. حقه الإنساني والجمالي في طرح هذه القراءة، ليعود فينشد بلذة بالغة بيت المتنبي الآسر.