أرقام محمود المراغي

أرقام

هل نغرق معا؟

"لا تسرف في استخدام الطاقة.. احذر الإضاءة الكثيفة، وتجنب السير بالسيارة إذا لم تكن هناك ضرورة.. اقتصد في استخدام الثلاجة ومكيف الهواء والأجهزة المنزلية.. واحرص على اقتناء سيارة لا تستهلك أكثر من 5 لترات من البنزين في كل مائة كيلو متر"

هذا ما ينصح به علماء البيئة وليس الأطباء. فليست القضية ما تسببه ملوثات الجو من أضرار صحية الآن، ولكن القضية هي التغيرات المناخية التي قد تلحق بالعالم في القرن المقبل.. أو بعد القرن المقبل، وبما يهدد الإنسان والنبات.

كيف يكون مناخ العالم في المستقبل؟

السؤال كان مطروحا أمام مؤتمر فريد في نوعه جرى انعقاده في برلين خلال الأسبوع الأخير من مارس والأسبوع الأول من إبريل عام 1995.. أطلق عليه البعض اسم "القمة الدولية للمناخ". والاسم الرسمي: المؤتمر الأول للدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة للمناخ.

كان المؤتمر امتداد لجهد سابق جرى بذله على نطاق دولي أيضاً عام 1992، وذلك حين انعقد المؤتمر الدولي للبيئة والتنمية في ريودي جانيرو.. و.. في هذا المؤتمر اتفقت الدول المشاركة ألا تفسد الجو بدرجة أكبر.. وتعهدت باتخاذ إجراءات للحد من انبعاث الغازات الضارة بالمناخ..

في هذا الإطار جرى توقيع اتفاقية المناخ، التي انضمت لها (120) دولة عندما دخلت حيز التنفيذ في (21) مارس 1994..

تم توقيع الاتفاقية بتعهدات متبادلة محورها أن أحدا لا يعيش بمفرده في هذا العالم، وأن المناخ، والغازات الضارة أشياء عابرة للحدود بالضرورة.. فقد تكون البداية في الولايات المتحدة لكن النهاية والضرر في البرازيل أو المكسيك.

كان السؤال المطروح والذي برز بعد الاتفاق: هل نحن بصدد التزامات كافية للحد من الخطر؟.. أم أن العالم - وبرغم تعهد الدول الصناعية الكبرى بالحيلولة دون حدوث خلل خطير في النظام المناخي - سوف يواجه كارثة؟

أرقام في الهواء

كانت التفرقة واضحة أمام مؤتمر برلين بين ما نعنيه بكلمة الجو، وما نعنيه بكلمة المناخ.. وما مدى إمكان التنبؤ في كل من الحالتين.. فالتنبؤات الجوية قد لا تتعدى- كما يقول الخبراء- أسبوعين.. بينما في مجال الجو تحدث التقلبات سريعا، وفي مجال المناخ يكون التغير بطيئا.. ويكون التنبؤ صعبا.. فالغلاف الجوى تصنعه متغيرات يحدثها البشر، والكتل الجليدية والنباتات التي تؤثر في انعكاس ضوء الشمس.. وكل ذلك مرهون بعوامل يصعب حسابها، وإن كانت غير بعيدة عن بحث العلماء وتوقعاتهم وتحذيراتهم.

المطلوب إذن حماية مناخ العالم، والمفاجأة هي الأرقام التي تمت إذاعتها على هامش مؤتمر برلين، وبعده.

في عام 1994، وطبقا لدراسات معهد الاقتصاد الألماني، أنفقت الولايات المتحدة الأمريكية ( 80.4 ) مليار دولار لحماية البيئة داخل حدودها.. وكان ذلك يمثل ( 1.6 % ) من الناتج الإجمالي.

تحتل الولايات المتحدة القمة من حيث الإنفاق، وبما يفوق في هذا المجال وحده، ميزانيات كاملة لكثير من دول العالم الثالث..

الولايات المتحدة هي الأولى، ولكن كنسبة مئوية من الناتج المحلى تأتي الدانمارك في أعلى السلم لتسجل أنها تنفق ( 1.9 % ) من ناتجها لدرء أخطار تلوث البيئة. وبعد الولايات المتحدة، وبصرف النظر عن النسبة المئوية، تأتي ألمانيا ذات الاقتصاد الضخم ليسجل إنفاقها ( 14.4) مليار دولار.. ثم تأتي بريطانيا لتسجل رقما قريبا من تسعة مليارات.. وفرنسا: ثمانية مليارات.. و.. تمضي قائمة الذين يحاولون الانضمام إلى عالم نظيف ومستقبل أفضل لتضم هولندا، والسويد، وسويسرا والنمسا.

الأرقام تتفاوت لكن الاهتمام قائم ومتزايد.. و.. بعكس ما يجري في العالم الثالث، بل وفي أوربا الشرقية أيضا.

ولكن هل كان لذلك تبريره العملي، أم أن الأمر يتعلق بالثراء والفقر؟

التبرير قائم وتشرحه الأرقام أيضاً.. فالولايات المتحدة تقف على رأس مستهلكي الطاقة في العالم، وهي بالاشتراك مع جارتها كندا تمثلان 28%من استهلاك الطاقة العالمي طبقا لما أذاعه "بريتش بتروليوم" عن استهلاك عام 1993.

الولايات المتحدة وكندا في مقدمة المستهلكين للطاقة، فإذا انضمت لهما أوربا الغربية اقترب المعدل من نصف استهلاك العالم بينما لا تمثل هذه المجموعة غير (10%) من سكان هذا الكوكب.

هذا هو المحور إذن، فكبار مستهلكي الطاقة، هم أنفسهم كبار ملوثي البيئة.. ومن ثم عليهم أن يقوموا بجهد أكبر، واستنفار أشد من أجل عالم نظيف.. خاصة أن معظم مواد الطاقة هي المواد الملوثة، فالنفط يحتل 40% من مصادر الطاقة في العالم والفحم 27%..

نقيض ذلك - أيضاً - يحدث في العالم الثالث حيث يتخلف مستوى التقدم صناعيا وزراعيا ومعيشيا.. فتحتل مجموعة إفريقيا ومثلها مجموعة الشرق الأوسط (3%) فقط من استهلاك الطاقة في العالم.. وتحتل قارة بأكملها متاخمة للولايات المتحدة وهي أمريكا اللاتينية (5%) من طاقة العالم سنة 1993.

الرابطة إذن واضحة بين أضلاع المثلث: مستوى التقدم - استهلاك الطاقة - الهجوم المضاد للإنقاذ من التلوث، والأخير لا يتم عفويا، ولكن وبسببه نشأت صناعات لا يعرفها العالم من قبل.

ألمانيا أولا

بدأ العالم - في الآونة الأخيرة - التعرف على ما يمكن تسميته بالصناعات الخفيفة.. بدأ البحث في إنتاج ثلاجات لا تخرق مخلفاتها طبقة الأوزون.. جرت الدراسات، ومن بعدها تقدمت المصانع لإنتاج سيارات أقل استهلاكا للوقود، أو وقود أقل تلويثا للبيئة.. و.. وهكذا برزت وعلى وجه الاستعجال صناعة ضخمة هي صناعة الحماية للبيئة، وبدأت تجارة عالمية في هذا المجال يمكن تسميتها بتجارة المستقبل.. أو تجارة المناخ.

وعندما يتغير مناخ الكرة الأرضية فلن يكون هناك خيار بين شمال أو جنوب.. لن تفيض المحيطات عندما ترتفع الحرارة لتغرق الدول الصناعية وحدها.

سنغرق معا..

سنتنفس الهواء، ملوثا أو نظيفا معا.

إنه عالم واحد تسقط فيه الحدود السياسية، ويبقى الإنسان.. وما يحيط به.

 

محمود المراغي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات