العرب وعصر المعلومات .. قراءة أولى نبيل علي

العرب وعصر المعلومات .. قراءة أولى

عرض: سامـي خشـبة

القضية الحقيقية لهذا الكتاب دون أي مبالغة أو تضخيم خطابي - هي قضية المستقبل العربي، قضية بقاء الأمة العربية في سباق التاريخ الإنساني أو خروجها من هذا السباق.

ذلك أن الكتـاب يطـرح على العقل العربي - للمرة الأولى فيما نعلم - تصورا "عربيا" أيضا تفصيليا وشـامـلا عن الأسـاس النظـري والتطبيقي، أو المعرفي والتكنولوجي - ونتائجـه الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية، السياسية - الذي يتحـدد وفقا له في عصرنـا (وغالبـا في العصور المقبلة) الوضع الحقيقي لكل مجتمع أو لكل أمة في سباق البقاء (وليس مجرد سباق الاستقلال أو التبعية) في هذا العصر. وأعني بـذلـك الأسـاس علم وتكنولوجيا المعلومات - أو: المعلوماتيات - In Formatics - التي تنفذ الآن إلى كل مجالات النشاط الإنساني المنتج، الذهني والعملي، المدني والعسكـري، وتتحكـم في القـدرات والإمكـانات المتوافرة المكرسة لذلك النشـاط كميا وكيفيا. وقد يكفي لكي يتـذكر القارئ ما أصبح مستقـرا ومشهـورا في وعي كـل متعلم (على الأقل) عـربي عن السبب الـرئيسي الوحيـد لتخلفنا ولتقدم العـالم الذي درجنا على تسميته العالم الصناعي.. قد يكفي لذلك، ولكي نتبين مدى أهمية الكتـاب الذي بين أيـدينـا والجديـة القصوى للطرح العربي الذي يحتويه، أن نلقي نظرة خـاطفة على العلاقـة بين كل من العلم والتطبيق، أو بين المعرفة والتكنولوجيا، وبينهما معا وبين قـدرة المجتمعـات الصناعيـة (الليبراليـة أو الشمولية، لا فرق، ولو مؤقتا) على الخروج من مرحلة مجرد توفير الاحتيـاجات الضرورية ثـم "الكمالية" الرفـاهية لمواطنيها إلى مرحلـة الصراع على السيادة العالمية (في عصر الاستعمار العسكري والاقتصادي والثقافي والاستيطاني، ثم إلى المرحلة الحالية: مرحلة المشاركة، والمنافسة المحكومة - بين تلك المجتمعات - في عمليـة "تقرير مصير" البشرية المادي والثقافي، في مجالات وجـودها وفعاليتها المدنيـة والعسكرية بكل تجليات ذلك الوجود.

في المرحلتين السابقتين، اللتين يرمز إليهما بالمصدر الرئيسي للطـاقة المحركة (البخـار ثم الكهرباء - مثلا) اقتصر التفـاعل على عـدد محدود من "العلـوم": كـالريـاضيات والكيمياء والميكانيكـا والمغناطيسيـة.. وغيرها، وعلى تطوير مهارات تطبيقها في الإنتاج والنقل والتوزيع، مع تطوير مناسب لتكنـولوجيات التنظيم والإدارة في مجالات واسعـة وأعـداد غفيرة نسبيـا. ولكن ذلك كلـه لم يكـن يؤدي إلى أكثـر من المضاعفة الكمية للقدرات التقليدية التي كانت ترمي - منذ بدء التاريخ الإنساني - إلى السيطرة المادية على الطبيعة، وإلى السيطرة الماديـة أيضا على المجتمع أو سيطـرة مجتمع "متقدم كميـا" على مجتمع آخـر اقل تقدما. أي أن الإضافة التي حققها التفاعل العلمي في المرحلتين كانت إضـافة "كمية" في جوهرها ومع ذلك فقد أدت كـما نعـرف إلى تـوفير القدرات الـلازمة لاستعمار الكـوكب كلـه، ولإبادة شعـوب وأحيـانا حضارات، كاملة أو "تلوين" شعوب أخرى.

ولادة الجيل الخامس

ولكن كتـاب: "العـرب وعصر المعلومات" يوضح لنـا، استنادا إلى معرفة علمية وفلسفية وتاريخية غزيرة ومتعمقة وإلى خبرة عمليـة عرفها "المجتمع العلمي - العملي" العربي كله عن المؤلف الـدكتور نبيل علي يوضـح لنا حقيقتين مهمتين:

الأولى هي أن مرحلة "المعلومات" وقوامها "الآلي": جهاز الكمبيوتر الطالع كثمرة - نشهد الآن ولادة. جيلها الخامس - لثورة هائلة شملت كل أنواع العلوم الرئيسية وتطبيقاتها من المنطق والرياضيات واللغة إلى منـاهج التحليل إلى الفيزيـاء والكيمياء النـوويتين والإلكترونيات حتى البيولوجيـا - بكل فروعها ومجالاتها ـ والتشريح وعلـم النفس وعلـم "العقل البشري" وعلوم الاجتماع - الثقافية خصـوصا - والاقتصـاد والبيئـة والإدارة والإحصـاء والتحكم والتوجيه.. وتفاعل وتداخل "تطبيقات" تلك العلوم ودفعها بعضها للبعض في "بنية معرفيـة - تطبيقيـة" واحدة. إن مرحلة "المعلومات" هذه لا تكتفي بالسعي المبـاشر إلى السيطـرة المادية على الطبيعـة وعلى البني التحتية للمجتمعات أو على ثرواتها المادية (وهي تنجز هذا النـوع من السيطرة بدقـة وشمـول واقتصاد متطـورين كيفيا عما كـان يحدث في المراحل السـابقـة) وإنما تسعى، أيضا، سعيا مباشرا إلى السيطرة على البني الفوقية للمجتمعات وعلى كـل مكوناتها، على رأسها اللغة وما يرتبط بها أساسا، منظومة الإبداع الفكري، الذهني للإنسان، باعتبار أن هذه المرحلة - من التغير الكيفي العلمي المعرفي التكنولوجي - إنما تنبع أساسا من "المعرفة" بجـزئياتها في صورة "معلومات" أو بكلياتها في صورة "قـوانين" عامة ونظريات شاملـة تحكم ظواهر الوجود الطبيعي والاجتماعي والفردي للإنسان، وباعتبار أن السيطرة على المعرفة، وعلى معرفة تطبيقها وتوظيفها تكنولوجيا، هي السبيل المختصر المكثف والاقتصادي المؤكد للسيطرة على كل من الطبيعة، والإنسان ومنتجات الإنسان كل منتجاته دون استثناء. أمـا الحقيقة الثـانية فهي "الـوحـدة العضوية" المتعينة التي تجمع ما كان يسمى - في التحليل الفلسفي التقليـدي للبناء الاجتماعي - بـ "البنيـة التحتية" و"البنية الفوقية" وعلى حد تعبير عالم الاجتماع الثقافي الأمريكي المعاصر الكبير روبرت واثمو يكشف الطرح الفلسفي والتطبيقي والميداني الذي يقدمه نبيل علي لنسيج وآليات "عصر المعلومات" وميادين تجلياته العامة الرئيسية، يكشف هذا الطرح، الدلالة الحقيقية لعبارة: "التنمية الشاملة" المطلوبة لمجتمعاتنا النامية وما يماثلها في هذا العصر، إنها دلالة تتجاوز الدلالات التقليدية لعمليات التنميـة، حتى في تطبيقاتها التي تمتعت بقدر من التكامل: أي التطبيقات التنموية التي اهتمت في وقت واحـد بتطوير الهياكل الإنتـاجيـة والإدارية والتشريعية والإدارية والتعليمية والبحثية والمؤسسية السياسية فحتى هذا المنهج - أو المنظـور التكـاملي لعملية التنمية - لم يعد هو المنهج الصالح لتحقيق "القفزة التنموية" المطلوبة في عصر المعلومات إنما المطلوب منهج يتبصر بالترابط العضوي بين كل عناصر البنية الاجتماعية الكلية: من التعليم والإعلام والتثقيف إلى التطوير اللغوي فيما يتعلق بمناهج تعلم اللغة ومناهج توظيفها في التفكير والإبداع الذهني إلى الممارسة السياسية بكل مستوياتها الفئوية والمهنيـة والسكانية والوطنية، إلى التدريب المهني والمهارات، إلى البحث العلمي النظري والتطويري، إلى التشريع والهيكل القانوني - المدني والإداري والاقتصادي بوجه خـاص، إلى العمل الإداري والسيـاسي الفعلي، إلى التوسع الحضري- الإسكاني والزراعي والصناعي، إلى الإدارة المنزلية والعلاقـات الأسرية والمفاهيم والقيم التربوية.. وغير ذلك.

معوقات التكامل العربي

انقسم كتاب الـدكتـور نبيل علي إلى أحد عشر فصلا - بعـد التقديم، ومنح الفصل الأول عنوان: "العرب في مواجهة التحـدي المعلوماتي".. وينتهي هذا الفصـل بالفقرة الخامسة تحت عنوان: "الحاجة الماسة لمنظور عربي".. وبعد دورة كـاملة - سوف نحـاول أن نصفهـا حالا - يمنح للفصل الأخير، الحادي عشر، عنوان: "بعض الأفكـار حول سياسة عربية للمعلومات"... ويمنح الفقرة الأولى من هذا الفصل الأخير عنوان: الحاجـة الماسة لسياسة عربية في مجال المعلـومـات".. ويمنح الفقـرة الأخيرة من الفصل نفسه عنوان: "المناخ العـربي السائد: ثابت أم عارض؟".

لا أقول إنه "الانشغال" العربي، بل إنه "الهم" العربي على اتساعه وتعقيده، وتراكم طبقـاته، هو ما يشغل المؤلف بالدرجـة الأولى إلى الدرجـة التي تدفعه ذات مـرة إلى اقتراح بتوزيع "مـراكـز شبكـة للبحـوث التطبيقية" العربية في مختلف المجالات على اثنتي عشرة دولة عربية (صفحة 215 - 216) مثلا، بصرف النظر عما كان قد طرحه من قبل - في الفصلين الأولين - من "حقائق" عن "معـوقات" التكـامل العربي، خصوصا حين يصل هذا التكامل إلى مرحلة الفعل، وخصوصا إذا كـان الفعل يتعلق بمجـال حيـوي (أم أقـول: استراتيجي ومصيري) مثل هـذا المجـال، ولكنـه في الحقيقة يجيب عن سؤاله الأخير عن: "المناخ العربي السائد: ثابت أم عارض؟" بتأكيده: ".. إن الوضع كـما يقول أهل الإنجليزية" أسوأ من أن يستمر"، وعندما تقترب الأمور إلى حد المواجهة المصيرية تبرز بقرنيها: "البقاء أو الفناء"، عندها يتحول الثابت الراسخ إلى العارض الذي يقبل التغيير، والاستسلام للأزمات إلى البحث عن المخارج والتحدي ليس بجديد على أمتنا. وأتفق مع الرأي القائل بأن عالمنا العربي مازال مؤهلا للاندماج بصورة تفوق تلك التي لتكتلات إقليمية أخرى...".

تفـاؤل مسرف؟ أم "استبشـار" يستنـد إلى تبصر بعوامل موضوعية؟ أم "تشجيع" يستهدف رفع الروح المعنوية عند الفئات المختلفة التخصصات لـ "النخبة" العلمية العربية، وللنخبة - أو النخبات "السياسية" صانعة القرارات في بلداننا العربية؟؟..

في اعتقاد كاتب هذه السطور، أن الإجابة الصحيحة عن هذه الأسئلة تكمن - أو "تنتشر" عبر صفحـات الكتاب كله. والكتاب في "قـراءتنـا" تنقسم فصولـه الأحد عشر إلى قسمين، يتركز الاهتمام في القسم الأول (من الفصل الأول حتى الفصل السابع) على التوضيح المنهجي لطبيعة كل من علوم المعلوماتيات وتطبيقاتها التكنولوجية، وهو توضيح يستطيع المثقف العام أن يكتشف مغـزاه الـذي يؤكـد أن المعلـوماتيـات وتكنولوجياتها تمثل نوعية أو كيفية جديدة من المعرفة، لا فصل فيهـا بـين مختلف النظم العلميـة (أو العلوم) الطبيعيـة والعقليـة والاجتماعية ولا بين منظـومات التطبيق، وتحتل فيها مركز الصدارة "منظومة" الجهاز الإبداعي للإنسان - واللغة في الفكر المجرد وفي الفكر التطبيقي هي مـاء الحياة لهذا الجهاز - بـما معناه أن "الثقافة" الإبداعيـة: الفلسفيـة والعلميـة والفنيـة والتشريعية والتربوية هي "تاج" هذا النوع الجديد كيفيا من المعرفـة، ومن تكنولوجياتها. وهذا المعنى هو ما يخصص لـه المؤلـف كل فصـول الكتـاب الأربعـة الأخيرة، من الفصل الثامن حتى الفصل الحادي عشر والتي يتحـدث فيها عن كل من الثقافة العربية واللغة العربية والتعليم العربي وعلاقة كل منها الحالية والمستقبليـة بتكنولـوجيا المعلومـات إلى أن يصل إلى "العنوان" - الهدف الرئيسي في النهـاية: سيـاسـة عربيـة للمعلومات.

ومع ذلك فإن "الهم العـربي" يظل مـاثـلا باستمرار عـبر فصـول الكتـاب السبعـة الأولى، قبـل تكريس الفصول الأخـيرة بكـاملها لـذلك الهم كـما قلت منـذ قليل، بل إن الفصلين السادس والسابع يسيطر عليهما تماما هذا الهم لا من حيث طبيعـة الموضـوع المدروس في كل منهما فقط، وإنـما أساسا من حيث الزاوية الضرورية لمحاولة توصيف الوضع الراهن لقطاع المعلومات العربي، وما هو مرجو له والتخطيط الضروري المناسب لتوطين تكنولوجيا المعلومات في الوطن العربي، أو من حيث تحليل الأبعاد الاجتماعية لتكنـولوجيـا المعلومات... وهي الأبعـاد التي كانت تغفل غالبا في عمليات نقل التكنولوجيات الصناعية الحديثة إلى بلادنا منذ بداية عصر النهضة، في ظل كـل من غيبة الـوعي بـالبعد الاجتماعي (الثقافي) لعملية التطـوير الصنـاعي، ثم سيطرة "فكـرة" الانفصال العضـوي بين التكنولوجيا (أو: البناء التحتي) وبين الثقافة (أو: البناء الفوقي) أي أن الحديث عن الأبعاد الاجتماعية (الثقافية في الحقيقة) لتكنولـوجيا المعلومات كـان هو التمهيـد المباشر للانتقال إلى الحديث عن: العرب وتكنولوجيا عصر المعلومات: إنها تكنـولوجيا "ثقافية" بالدرجة الأولى، ونحن أمة قامت، وتتميز بالثقافة أساسا.

وبتعبير آخـر، نستطيع أن نقول إننا إذا كنـا - كـما نعتقد منذ قـديم - أمة كان الإبـداع اللغوي (والثقافي بشكل عام) هو المجال الرئيسي لتجلي عبقريتها من ناحية، ولإرساء أساس وحدتها (الوحيد حتى الآن) من نـاحية أخـرى، فمن الطبيعي أن يؤمن نبيل علي (وهو مهندس تحول بعد العمل الأكاديمي والبحثي والتطبيقي طويلا في ميـدان هندسـة الطيران، إلى ميدان الحاسب الآلي ونظم المعلومات وهندسة اللغة - العربية - تصميما وبحثا وبرمجة وإدارة طوال ربع قرن)، من الطبيعي أن يؤمن بأن "الثقافة" بمـدلولها الشامل والمستقبلي هي المجال الذي لو انشغلنا "معا" بـابتكـار حلـولنـا الخاصـة في مجال علـومهـا وتكنولوجياتها (التي هي ذاتها علـوم وتكنولوجيات المعلومات كـما اتضح لنا) فإننا نكون في الوقت ذاته على الطريق الصحيح لتحقيق "الوحـدة العضوية" بين ماضينا ومستقبلنا، وبين "أبنيتنا التحتية" و"أبنيتنا الفوقيـة" وبين الواقع والأمنيـات، وبن ما هو متاح سهل ولكنه لا يكفي، وما قد يبدو مستحيلا ولكنه ضروري ولا مناص منه إذا كنا حقا نريد أن نبقى في سباق البقاء.

 

نبيل علي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




المؤلف د. نبيل علي