جمال العربية فاروق شوشة

جمال العربية

"أغنية ولاء"
للشاعر صلاح عبدالصبور
ها أنت تعود إليّ
أيا صوتي الشارد زمنا في صحراء الصمت 3 يا
ظلي الضائع في ليل الأقمار السوداء
يا شعري التائه في نثر الأيام المتشابهة المعنى
الضائعة الأسماء!
...
وأنا اسأل نفسي:
ماذا ردّك لي يا شعري بعد شهور الوحشة والبعد
وعلى أي جناح عدت
حيّيا كالطفل، رقيقا كالعذراء!"
***

هذا الاتكاء على المحبوب الشعر- سبيلا إلى الصفاء، والتطهر والتسامي، ووصولا إلى معارج الروح، وسماويات الإشراق- يمثل لحنا أساسيا في الرحلة الإبداعية للشاعر صلاح عبدالصبور منذ قصائده الأولى المبكرة، حتى آخر قصائده، منذ ختام دواوينه. والمقطع السابق من قصيدة له عنوانها "الشعر والرماد" يضمها ديوانه الأخير: "الإبحار في الذاكرة" يصور فيها فرحه بعودة الشعر إليه بعد طول توقف وانقطاع، وخوف وتوجس، خشية أن يكون الشعر قد هجره بلا عودة. لكن زيارة الشاعر إلى مانيلا - عاصمة الفلبين - مشاركا في اجتماعات مؤتمر أدباء آسيا وإفريقيا وفرحه بتلك الليلة التي لا تنسى وقد عمرت بالغناء والموسيقى وانطلاق الصبوات، فجّرت في نفسه الشعر المحتجب خلف قشرة الحياة الصدئة ووجهها العابس القاتم - فإذا بالشعر يغسله ويصفيه، يعالجه ويشفيه، ويعيده، الشعر العائد إلى معنى الحياة الحقيقي.

هذا اللحن الشعري معنى أساسي له شعر صلاح عبدالصبور يعاوده ويستوقفه ويتابع تنويعاته، وهو يطل علينا بكامل صفائه وإشراقه من خلال قصيدتين متميزتين في ديوانه الأول: الناس في بلادي، أولاهما عنوانها "الرحلة" يتحدث فيها عن عرائس الشعر ورؤى الإبداع، ورحلة المعنى التي تخصب جدْبه وعدمه وتنبت في خَلَده زهرات الشعر وعناقيد حُميّاه.

يقول صلاح عبدالصبور:

وعرائس تختال في حُلمي

بين الدفوف وضجة النغم

وأطل مأخوذا فتبسم لي

تيجانها، ويهزني ضرمي

وتروُها كفي فيفجعني

حسّ الدمى وبرودة الصنم

قممي تنكّر لي مسالكها

من بعد إلفى روعة القمم

يا رحلة المعنى على خَلَدي

قَرّي بجدبي، عانقي عدمي

وثانيتهما القصيدة التي يدور من حولها هذا الحديث والتي سماها الشاعر "أغنية ولاء" وهي كما يقول اسمها تفيض بالولاء للشعر، المعبود الشعر، والتفاني في التقرب إليه والامتثال بين يديه. فهو الدواء الشافي وهو الأمل البعيد وهو علاج الروح والنفس، وهو العشق الذي يموت في سبيله الشاعر.

وتلتمع في القصيدة مفردات التجربة الشعرية مفصحة عن معجم الشاعر الذي يجسم صدق معاناته وإبداع تصويره وكمال تعبيره. هنا العرش والحمير والمخمل والألماس والرقيق والخادم السميع وشملة الإحرام والمحمل والنور المفضض المهيب، عالم من الخشوع والرفعة والتسامي يقابله وجه من الخضوع والذلة والانخراط في الموكب والبحث عن حبوة التبيع. هذه الطبقية التي تذكزنا بطبقات الصوفية - وهي في حقيقتها بعض تجليات النفس الصوفي عند صلاح عبدالصبور- تفسر لنا معنى الولاء وسعادة التبيع حين يتاح له موطئ قدم في موكب يسير خلف المحمل، وهو يشتمل بشمله الإحرام لا غير، وكأنه على موعد مع لحظة الحقيقية والمكاشفة والتجلي والدنو من مساحة المجلي السنيّ.

إن ما تحمله القصيدة من وهج ونداوة، يمثل وجها من وجوه الحقيقة الشعرية عند واحد من رواد حركة التجديد الشعري في أحدث صوره من خلال ما اصطلح على تسميته بحركة الشعر الجديد أو الشعر الحر أو شعر التفعيلة. نَفَس شعري ممتد وموسيقى نفاذة عميقة الانسياب والتدفق والجريان، وصور شعرية تتراكم وتتآزر وتُشكل بنية شعرية متماسكة وموضحة عن معناها الكلي ودلالتها الشعورية والوجودية، ولغة تسبح كالدر، والأثير لكنها تتكئ بدورها إلى موروث شعري حي، لم يصطنعه الشاعر تقليدا أو محاكاة ولم يعتسفه قسرا أو حوشية، وإنما هو إبداع بلغة شديدة الحيوية والجموح والتجدد والقدرة على التشكل وتقديم الصيغ والأبنية والحلول. هي لغة صلاح عبدالصبور التي تتمثل في هذه البساطة الآسرة، وتلك الشفافية المثقلة بخبرات الوعي ومكتسبات المعاناة، وذلك الخيط الرفيع الواصل بين مذاقها الحسي المعتق وتجنيحها الصوفي المرهف..هذه اللغة الجميلة هي شارة الشاعر وعلامته وسيماه وملامحه، لا تختلط بلغة غيره، ولا يحسنها سواه، ولا تأتي لمن يحاول التقليد، ولا يشارفها إلا من يسجرون علي التجاوز والمغامرة والبدء من أرض لم تكتشف بعد.

تلك اللغة - اللؤلؤة - هي التي شاغلت شاعرنا وراودته طويلا، حتى وهو يكتب "أغنية حب" قبل أن يبدع "أغنية ولاء". وفي أغنية الحب يعترف ببحثه المضني في جوف الليالي عن اللؤلؤة المستحيلة، أو لعلها لؤلؤة المستحيل، لؤلؤة الشعر التي يبحث عنها لتتجسد في ذراتها الألماسية كلماته:

"جبت الليالي باحثا في جوفها عن لؤلؤة
وعدت في الجراب بضعة من المحار
وكومة من الحصى، وقبضة من الجمار
وما وجدت اللؤلؤة!

فهل صحيح أنه لم يجد اللؤلؤة؟ أغلب الظن أن دواوينه الستة: الناس في "بلادي، أقول لكم، أحلام الفارس القديم، تأملات في زمن جريح، شجر الليل، تفيض بالولاء للشعر، المعبود الشعر، والتفاني في التقرب إليه والامتثال بين يديه. فهو الدواء الشافي وهو الأمل البعيد وهو علاج الروح والنفس، وهو العشق الذي يموت في سبيله الشاعر. وتلتمع في القصيدة مفردات التجربة الشعرية مفصحة عن معجم الشاعر الذي يجسم صدق معاناته وإبداع تصويره وكمال تعبيره. هنا العرش والحمير والمخمل والألماس والرقيق والخادم السميع وشمله الإحرام والمحمل والنور المفضض المهيب، عالم من الخشوع والرفعة والتسامي يقابله وجه من الخضوع والذلة والانخراط في الموكب والبحث عن حبوة التبيع.

هذه الطبقية التي تذكزنا بطبقات الصوفية - وهي في حقيقتها بعض تجليات النفس الصوفي عند صلاح عبدالصبور- تفسر لنا معنى الولاء وسعادة التبيع حين يتاح له موطئ قدم في موكب يسير خلف المحمل، وهو يشتمل بشمله الإحرام لا غير، وكأنه على موعد مع لحظة الحقيقية والمكاشفة والتجلي والدنو من مساحة المحلي السنيّ.

إن ما تحمله القصيدة من وهج ونداوة، يمثل وجها من وجوه الحقيقة الشعرية عند واحد من رواد حركة التجديد الشعري في أحدث صوره من خلال ما اصطلح على تسميته بحركة الشعر الجديد أو الشعر الحر أو شعر التفعيلة.

نَفَس شعري ممتد وموسيقى نفاذة عميقة الانسياب والتدفق والجريان، وصور شعرية تتراكم وتتآزر وتُشكل بنية شعرية متماسكة وموضحة عن معناها الكلي ودلالتها الشعورية والوجودية، ولغة تسبح كالدر، والأثير لكنها تتكئ بدورها إلى موروث شعري حي، لم يصطنعه الشاعر تقليدا أو محاكاة ولم يعتسفه قسرا أو حوشية، وإنما هو إبداع بلغة شديدة الحيوية والجموح والتجدد والقدرة على التشكل وتقديم الصيغ والأبنية والحلول.

هي لغة صلاح عبدالصبور التي تتمثل في هذه البساطة الآسرة، وتلك الشفافية المثقلة بخبرات الوعي ومكتسبات المعاناة، وذلك الخيط الرفيع الواصل بين مذاقها الحسي المعتق وتجنيحها الصوفي المرهف.. هذه اللغة الجميلة هي شارة الشاعر وعلامته وسيماه وملامحه، لا تختلط بلغة غيره، ولا يحسنها سواه، ولا تأتي لمن يحاول التقليد، ولا يشارفها إلا من يسجرون علي التجاوز والمغامرة والبدء من أرض لم تكتشف بعد.

تلك اللغة - اللؤلؤة - هي التي شاغلت شاعرنا وراودته طويلا، حتى وهو يكتب "أغنية حب" قبل أن يبدع "أغنية ولاء".

وفي أغنية الحب يعترف ببحثه المضني في جوف الليالي عن اللؤلؤة المستحيلة، أو لعلها لؤلؤة المستحيل، لؤلؤة الشعر التي يبحث عنها لتتجسد في ذراتها الألماسية كلماته: "جبت الليالي باحثا في جوفها عن لؤلؤة وعدت في الجراب بضعة من المحار، وكومة من الحصى، وقبضة من المحار وما وجدت اللؤلؤة !" فهل صحيح أنه لم يجد اللؤلؤة؟ أغلب الظن أن دواوينه الستة: الناس في "بلادي، أقول لكم، أحلام الفارس القديم، تأملات في زمن جريح، شجر الليل، الإبحار في الذاكرة، ومسرحياته الشعرية الخمس: الأميرة تنتظر، مأساة الحلاج، مسافر ليل، ليلى والمجنون، بعد أن يموت الملك - هي جميعا شاهد عدل على لؤلؤة إبداعه: لغته الشعرية الجميلة، تجاوزا وإضافة، حدة ورهافة، وقدرة دائمة على البوح والإفضاء.

يقول صلاح عبدالصبور في قصيدته "أغنية ولا "

صنعت لك
عرشا من الحرير.. مخملي
نجزته من صندل
ومسندين تتكيّ عليهما
ولجة من الرخام، صخرها ألماس
جلبتُ من سوق الرقيق قينتين
قطرت من كرم الجنان جفنتين
والكأس من بللور
أسرجت مصباحا
علقته في كوّة في جانب الجدار
ونوره المفضض المهيب
وظله الغريب
في عالم يلتف في إزاره الشحيب
والليل قد راحا
وما قدمت أنت، زائري الحبيب
***
هدمت ما بنيت
أضعت ما اقتنيت
خرجت لك
ومثلما ولدت - غير شملة الإحرام - قد خرجت لك
أسائل الروّاد
عن أرضك الغريبة الرهيبة الأسرار
في هدأة المساء، والظلام خيمة سوداء
ضربت في الوديان والتلاع والوهاد
أسائل الرواد
"ومن اراد أن يعيش فليمت شهيد عشق"
أنا هنا ملقى على الجدار
وقد دفنت في الخيال قلبي الوديع
وجسمي الصريع
في مهمة الخيال قد دفنت قلبي الوديع
***
يا أيها الحبيب
معذبي، يا أيها الحبيب
أليس لي في المجلس السني حبوة التبيع
فإنني مطيع
وخادم سميع
فإن أذنت إنني النديم في الأسحار
حكايتي غرائب لم يحوها كتاب
طبائعي رقيقة كالخمر في الأكواب
فإن لطفت هل إليّ رنوة الحنان
فإنني أدل بالهوى على الأخدان
أليس لي بقلبك العميق من مكان
وقد كسرت في هواك طينة الإنسان
وليس ثمّ من رجوع..

 

فاروق شوشة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات