أحداث مدينة على الشاطئ رمضان بسطاويسي

قراءة نقدية.. في
قصة للقاص: محمد حسن الحربي

بدأت الحياة الأدبية في دولة الإمارات العربية المتحدة تأخذ طابعا خاصا مع إنشاء اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، الذي ساهم في ظهور أسماء عديدة في القصة القصيرة والرواية والشعر، وأصبحت الكتابة الأدبية لها حضور فعال، وتدير حوارا مع الحياة الثقافية في دول الخليج العربي، وفي العالم العربي.

هذه الكتابات لم تبدأ من الصفر، ولكنها بدأت من حيث انتهى الفكر الإبداعي في العالم العربي، وقبل الاتحاد كان الحضور الأدبي يعتمد على المحاولات الفردية في الكتابة والنشر خارج الوطن، مما كان يمنع حدوث تراكم كمي وكيفي في الوعي الأدبي، بينما الاتحاد بالإضافة إلى الجامعة وغيرها من المؤسسات الثقافية الوليدة، كل هذا ساهم في خلق حياة ثقافية ووعي أدبي، جعل المرء يدهش من المستوى الذي وصلت إليه هذه الكتابات، والذي تدين في كثير من جوانبه للشاعر البحريني قاسم حداد الذي له فضل الريادة في توجيه الحياة الأدبية عن طريق إبداعاته ومقالاته في صحف الخليج العربي.

ومن الأسماء التي يشتد حضورها الأدبي في الإمارات، سلمى مطر، وعبدالحميد أحمد، وناصر جبران، وإبراهيم مبارك، وجعفر الجمري، وناصر الظاهري، ومريم جمعة فرج، وظبية خميس وحبيب الصايغ وغيرهم من الكتاب الشعراء. والأنواع الأدبية التي يشتد حضورها هي القصة القصيرة والشعر، أما الرواية فهنالك محاولات قليلة، ولذلك تأتي أهمية هذه الرواية التي نتناولها، لأنها تتميز بقدرة على امتلاك أدوات الكتابة وتقديم رؤية للعالم.

وهذه الرواية للقاص محمد حسن الحربي هي العمل الأدبي الثالث له، فلقد أصدر - قبل ذلك - مجموعتين قصصيتين هما: الخروج على وشم القبيلة - مجموعة قصص - دار الكلمة 1981 - بيروت، وحكايات قبيلة ماتت مجموعة قصص - دار الفارابي - 1989 - بيروت. وله كتاب عن تطور التعليم بدولة الإمارات العربية المتحدة. وتقع الرواية في 85 صفحة.

تعتبر رواية "أحداث مدينة على الشاطئ" من روايات المكان، فالرواية لا تلتف حول شخصية، أو حدث ما، بل المكان هو البطل الحقيقي لهذه الرواية، ولذلك فإن جماليات المكان هي المدخل الطبيعي لقراءة الرواية، لا سيما أن طبيعة المكان هنا هي التي حدد خصوصية العلاقات بين البشر، ويضفي الكاتب على المكان طابعا مقدسا وأسطوريا، ليسبغ عليه الطابع الحميم، فهو مكان له ملامح جغرافية وإنسانية، والشخصيات بتعددها وغناها تقدم خريطة للهموم الإنسانية التي تكتنف هذه البقعة من الأرض، ويعتمد القاص على تقديم المكان في صورة رمزية ذات طابع تمثيلي يحكي من خلاله قصة المكان. وتاريخية المكان هي في الوقت نفسه تاريخية الشخصيات التي يعرض لها القاص. والقارئ يدرك بسهولة السبب الذي جعل الكاتب يلجأ إلى الرمز، فيتحدث عن مدينة لها ملامح جغرافية تتشابه مع كثير من مدن الخليج، لكنها ليست هي أي مدينة واقعية بالتحديد، وذلك لأن الكاتب يسعى إلى تقديم رؤية لها طابع سياسي واضح، فيلجأ إلى التمثيل الحكائي، حتى لا يقدم رمزه بشكل تقريري مباشر. وهذا الهم السياسي يؤرق كثيراً من الكتابات في الخليج، مما يجعل كثيرا من الكتاب يلجأون إلى صياغات رمزية، يقدمون من خلالها رؤاهم دون أن تصطدم بإنتاج دلالة سياسية مباشرة. فالقاص يصف ملامح المكان بأنه: مدينة تشكل نقطة متقدمة في البحر أوى إليها نفر من الصيادين، ثم أصبحت محطة لقوافل التجارة القادمة من الجزيرة العربية إلى البصرة ومدن العراق، ومن فارس والهند إلى العراق والخليج، ويطلق على هذه المنطقة الساحلية اسم مدينة "مريبضة".

وترتبط نشأة هذه المدينة بشخصية "سليمان العبدلله"- أبومطلق - الذي أراد أن يبني استراحة للقوافل، فبنى مسجدًا ليفي بهذا الغرض، للصلاة والنوم، ولأن المسجد لا يهاجم من قبل اللصوص وقطاع الطرق، وهذا دلالة على ارتباط نشأة المكان بالدين، وعلاقته الحميمة في نفوس الجميع، بمن فيهم الخارجون على القانون والعرف. ويبدأ القاص من خلال المسجد تقديم شخصيات الرواية، الحاج داود إمام المسجد، وحمد بن خميس، وأم حصة، وحماد أبوالسلمي، والأمير أو الحاكم الذي يضفي عليه الكاتب هالة أسطورية، فمن صفاته: الحسن، والجاذبية والجمال حتى أن الفتيات يتغنين بجماله، ومن هواياته أن تكون له زوجة كل فترة وتكون فتاة بكرًا، ومن هواياته أيضًا الخروج للصحراء لركوب الخيل ومشاهدة قطعان الغنم. ويعتمد الكاتب في السرد الروائي على الحكايات الشفاهية، وروايات الشخصيات للأحداث والشخصيات التي تعيش في المكان، مما يقدم واقعية سحرية تغلف عالمه الروائي، فوقائع المكان ليست مدونة، ولكنها كامنة في صدور البشر الذين يجسدون تاريخ المكان. والصراعات بين الشخصيات تكشف عن موقف كل شخصية من الأخرى وتقدم شبكة العلاقات المتداخلة على نحو غير تقليدي، يكشف عن الجذور العميقة للأحداث التي تترى بعد ذلك.

شخصيات الرواية

يعتمد الكاتب في تقديم شخصيات الرواية على وصف الحرف المنتشرة في المكان، فأعمال الشخصيات هي ركوب البحر في الصيف بحثًا عن اللؤلؤ في المحار، وصناعة الأخشاب والشبابيك والقدور، ونقل مياه الشرب إلى البيوت. والسوق هو المكان الذي يحصل من خلاله أهالي المدينة على حاجاتهم عن طريق المراكب القادمة من فارس والهند وزنجبار، ولذلك ينتشر الدلالون الذين يتوسطون لبيع الحمير والأشياء الأخرى، ويعمد الكاتب إلى تقديم مقاطع عرضية للحياة في هذه الرواية، ولذلك يمكن أن تبدأ الرواية من أي نقطة، بمعني أنه لو تم حذف الأجزاء الأولى من الرواية حتى ص 20، فلن يتأثر بناؤها، ولذلك فإنه بعد ذلك تتطور الأحداث بشكل متتابع، بينما قبل ذلك كان يقدم الكاتب عالمه وشخصياته.

وقد برع الكاتب في تقديم صورة قصصية لكثير من اللحظات الروائية التي يزخر بها عالم الرواية، فرحلة الحج تقدم لنا صور، للحياة في الصحراء، فيستخدم الكاتب الألوان بدرجاتها المختلفة في تقديم المكان، فيقول: اللون اللحمي يمتد في المدى دون أبعاد، وهذه سمة من سمات الكاتب نجدها أيضا في كتابه "حكايات قبيلة ماتت" حيث يفرد قصة تتخذ من الألوان موضوعًا لها تجسد العلاقات بين البشر في لحظات الحياة اليومية. وتكون هذه الرحلة - التي تذكرنا برحلة الحج في الأدب العالمي - فرصة لاستخدام بنية التقابل للمقارنة بين أهالي مدينة "المريبضة" الساحلية، وأهالي المناطق الأخرى من داخل الصحراء من البدو، ولا تقف المقارنة هنا عند ملامح البشر النفسية والعقلية، ولكنها تمتد للمقارنة بين ملامح الإنسان والحيوان والنبات ومختلف مظاهر الحياة الأنثروبولوجية بين أهل البدو والساحل.

ومن الصور القصصية الجميلة التي يقدمها القاص، صورة الطواف حول الكعبة، إلي تقدم صورة بصرية تبين شاعرية القص الذي لا يعتمد على الدلالة الذاتية لأصوات اللغة كما يفعل بعض الكتاب، بل يعتمد على مفردات المكان البصرية التي تشكل الصورة: "كانت المساحة التي تحيط بالكعبة المربعة الشكل تعج بأجناس مختلفة من البشر، يطوفون حولها في غمرة من التهليل والتكبير، لا تكاد تعرف ماذا يقولون إلا إذا سحبتك معها مجموعه من هذه المجاميع التي تتلو بعضها البعض، أشبه بدوائر الماء في اللجة بعد أن ترمي فيها بالحجر" ص 24، هذا بالإضافة إلى صور أخرى مثل حركة الصباح في خيام الأمير مجلاد في رحلة الحج، فيجسد الكاتب إحساس القارئ بأقانيم الليل والنهار، ويظهر استيعابه للتراث الأدبي الذي يستفيد منه، سواء كان المعاصر أو القديم، فالخلاف الذي يرد في الرواية بين سعد الحارثي وعائلة مثقال النبهان، يذكرنا بالخلاف بين داحس والغبراء، والخلاف بين العائلتين يكشف عن صورة الانبهار بالأمير، لأنه مميز عن الأهالي بجماله، وعراقة أصله، وحكمته وعدله وتقواه، ولذا يسعى الجميع لمصافحة الأمير.

آليات الكتابة

الرواية هنا هي نص مفتوح، لأنه يبدأ من نقطة وينتهي إلى نقطة أخرى، وبين البداية والنهاية خبرات وأحداث وتاريخ يفصح عن معنيين للزمن، الأول: زمان روائي يحكي عن الأحداث التي تحدث في المكان، ويستخدم الكاتب ضمير المخاطب للتعبير عنه، وهو سرد روائي يعتمد على بنية الرجاء، وهذا ما نجده في استخدام الفعل المضارع لتوصيف المكان، وهي بنية لغوية تقدم ما هو كائن، والثاني: زمان نفسي يحكي عن طفولة الرواي وفيها يستخدم القاص ضمير المتكلم، ولذلك فإن تحليل الزمان في الرواية يكشف عن وجود مستويين داخل الرواية للسرد، مستوى المسار العام للرواية، ومستوى ذكريات الطفولة البعيدة للراوي، التي تستثيرها الأماكن المختلفة التي يتوقف عندها، والمستوى الثاني مواز للمستوى الأول، لأن ذكريات الطفولة موازية لأحداث الرواية. والبنية اللغوية التي يعبر بها الكاتب عن المستوى الثاني هي بنية صراع، لأن الراوي الذي يستخدم ضمير المتكلم، يلجأ لاستخدام ضمير المخاطب ليخاطب نفسه. ونجد هذا في النص التالي من الرواية: "كل شيء هنا يدعو إلى الرهبة، ويخلق في النفس شفافية تجعلك أكثر ميلاً لمعرفة هل حياتك مجرد خطيئة دون أن تدري" ص 24. فالراوي - المتكلم - يجعل من ذاته موضوعا للخطاب القصصي، فيتساءل ويحاول الفهم. ويمكن التساؤل هنا: هل الراوي هو أخو حصة التي تدور حولها الرواية في النصف الثاني منها، أم هي حصة التي لا تستبين أو تظهر ملامحها إلا حين تتذكر أمها؟.

والبنية اللغوية في النصف الأول من الرواية مختلفة عنها في النصف الثاني، ويرجع هذا إلى أن هم الكاتب كان - في بداية الرواية - تقديم عالمه، فكان يجنح إلى لغة سهلة، بسيطة، تستسلم للبناء اللغوي المستمد من صيغ القرآن الكريم، بينما في النصف الثاني من الرواية، بنية اللغة ذات طابع صراعي، بين لغة السرد الفصحى البسيطة، ولغة الحوار العامي، الذي يمتلئ بالألفاظ المحلية والتراكيب الشفاهية، مما جعل الصراع يشتد بين هذه التراكيب اللغوية، وقد كان هذا مناسبا لعالم الرواية، التي اشتد فيها الصراع المكتوم بين رغبات الأمير، ومصير حصة، وبدأ حضور الراوي - بصيغة المتكلم - يقل تماما، ليحل محلها ضمير الغائب في صورته التي تجسد الأحداث.

ولكن هناك بعض المآخذ، منها الانتقال المفاجئ من ضمير المتكلم للغائب، دون أن يمهد الكاتب لذلك، وهذا واضح في صفحة 26. ولا أدري لماذا لا يستخدم الكاتب علامات الكتابة كالفاصلة والنقطة في الكتابة، لأن بعض الجمل جاءت دون تقسيم، وحدث خلط بالإضافة إلى عدم الاستخدام الدقيق للأقواس الكبيرة للشرح والتفسير من قبل الراوي، وكأنه استدراك من الكاتب، لكي يفهم القارئ. وهنالك بعض المواضع من الرواية، يلفها قدر غير قليل من الإبهام والغموض غير المبرر، ولا أدري لماذا لم يقم الكاتب بترقيم كتابه، فالرواية نص طويل دون تقسيم أو إشارة إلى فصوله، بينما هو موضوعيا يتضمن انتقالات عديدة.

ورغم هذا، فإن ذلك لا يقلل من أهمية الرواية، ليس على صعيد الكتابة داخل الإمارات والخليج فحسب، بل لا الرواية العربية أيضا، ذلك لأنها من الروايات القليلة التي تحاول أن تقدم جماليات الصحراء، وهي المساحة الرئيسية للمكان في العالم العربي، وهي تقف إلى جوار روايات عربية قليلة اهتمت بذلك رغم اختلاف الرؤية وآليات الكتابة. وهذه الرواية تقدم لنا كاتبًا عربيًا يعرف ما يريد أن يقدمه، ويؤمن بأهمية الكتابة الإبداعية في الموضوعات التي يخشى الكتاب الاقتراب منها، وذلك لتطوير الحياة في عالمنا العربي ليغدو عالما أكثر جمالا وأقل تعاسة.